“آخر الأراضي” لأنطوان الدويهي، أو الذهاب إلى الحدّ الأقصى

 

مع أنّي أعرف عن كثب أنطوان الدويهي وجوّه الأدبي، وقد قرأتُ له تباعاً مجمل أعماله على مدى السنين العشرين الأخيرة، فلا بدّ لي من الاعتراف بأني، كلما قرأتُ كتاباً جديداً له، أجد نفسي صامتة، قلِقة، مضطربة، لا أعرف كيف استطاع أن يلمس وجعاً عندي، كنت أتحسّسُهُ، ولا أقدر على محوه من ذاكرتي، لكني لا أدري كيف أصفه، او أحدِّد مدى تأثيره عليَّ. فذاكرة أنطوان الدويهي تغوص بعيداً وتحفر عميقاً في وجداننا، وفي أوجاعنا. كما قال أحدهم : “ذاكرتي تعذبني”Ma mémoire me torture”. .  وكما قال ذلك الراهب البوذي : “مع الوقت، تعلمّت مداعبة ألمي Avec le temps j’ai appris à caresser ma douleur 

في أي حال، يعود التساؤل نفسه : “هل من إبداعٍ خالٍ من الألم ؟” يقول شوبرت: ” أعمالي الموسيقية هي ثمار معرفتي وألمي

Mes oeuvres sont les enfants de ma

connaissance et de ma douleur

وأنا لا أبالغ إن قلتُ بأنّ كتابته تتميّز بالصفاء التام، بحيث تكاد ترى بالعين المجرّدة، بالصورة المحسوسة، دخائل الذات التي يتكلّم عنها، كل تلك المشاعر والهواجس والذكريات والأحلام والحالات وترى عبرها بالصفاء نفسه، حالتك ودخائلك. لا شك في أن ذلك يعود إلى قدرات كتابية فريدة. لكن ليس ذلك فقط. هو يعود أيضاً إلى الصدق، الصدق التام، في التعبير عمّا يراه الكاتب في أعماقه. في الحياة الداخلية، التي يذكر بأن أعماله الأدبية كلها مستندة إليها، تلك الحياة الداخلية التي يصفها في أحد حواراته المنشورة، بأنها “الكون برمّته”، وبأنّه “حين تنطفئ الحياة الداخلية، ينطفئ الكون”، وانه هو ككاتب، مجرّد “شاهدٍ لها”. “ما انا إلا شاهد”، يقول. ترى هي الكتابة المطلقة التي يتحدّث عنها؟ تلك التي تحملكَ إلى أقصى الحدود، وترميك في “آخر أراضي” الروح، في آخر عذابات الروح؟ كما يقول جان جينيه  Jean Genet  بأن “الأقصى هو الصفاءُ عينُه “L’extrême c’est l’état pur”.

تبدأ الرواية بوفاة سلمى فرح المفاجئ في “شقتها الوادعة” في ضاحية مونروج، التي هزّت الراوي في أعماقه، وغيّرت مجرى حياته، إذ كانت هي المرّة الأولى يعاين فيها مباشرةً الموت. ثمّ تتوالى الأحداث، الدائرة حول اختفاء حبيبته كلارا الغريب، المحيِّر، الذي يلهث الراوي – ومعه القارئ – في بحثهما عنها. وتتوالى أثناء ذلك مشاهدات وأمكنة ووجوه، لا حصر لها، آتية من أبعاد زمنية ثلاثة: الماضي، والحاضر، والحلم، الذي يطالعنا هنا بقوة، كما في كل أعمال الدويهي، المنجذب إلى أشياء اللاوعي. ولهواجس الموتِ وصوره مكانُها في “آخر الأراضي”، من انطفاء سلمى فرح، إلى غرق رئيف زين عند شاطئ سان مالو، إلى مصرع كميل بلونديل، خال كلارا، على ضفّة نهر الشيرز المتجمِّد، إلى نزاع الشاعر سميح العارف، الطويل، المتقطّع، وغيرها العديد أيضاً.

لكن الموت في “آخر الأراضي” ليس هو الموت الذي تعرفون. ليس فقط لأن الراوي يرى بأن الموت، رغم فجيعته، هو “أمرٌ غير منطقي، غير طبيعي، وخصوصاً، وهو الأهمّ، غير حقيقي قطّ”. وليس لأنه يشعر بقوّة بأن موت سلمى المفاجئ “غير حقيقي، وبأن حياتها مستمرّة في هذا العالم (يقصد العالم الأرضي)، بكامل شخصِها هي، لكن على نحو مختلف”. بل أيضاً وخصوصاً، لأن الحدود ممحوّة تماماً، لدى الروائي، بين الحياة والموت. يذكر في “كتاب الحالة”، عن “مدينة بعد ظهر الأحد”، أنه “لا الأموات فيها ماتوا حقاً، ولا الأحياء حقاً يحيون”. وفي “آخر الأراضي”، حين تحفّظت أيفا عن رغبته في تعليق صورة عمه سلمان في بيتهما الصيفيّ، سائلةً: “هل تحبّ، أنت، تعليق صور الأموات؟”، يقول الراوي: “تأمّلتها بهدؤ، وقد أضحت فجأةً على بعد أميال مني، ثم أجبتُ بصوت خافت، وليس في نيّتي الإقناع: “هل تخافين انتِ الأموات؟”، وأضفتُ: “أنا أحّبُ الأموات وارتاح إليهم، وهم، في أي حال، أحياء عندي. وأنا لا ارى الحدّ الفاصل بين الأحياء والأموات، ولا أعرفه قطّ”.

ثمة عبارة في هذا الكتاب، أودّ التوقف عندها في صورة خاصة. حين سألته كلارا مرّةّ إذا كان يؤمن بالروابط الخفيّة، أجابها الراوي: “إنّ الروابط الخفيّة كامنة في عمق كل الفنون وكل العوالم الجماليّة”(صفحة 70). استوقفتني كثيراً هذه العبارة، وأحسستُ وكأنّ الكاتب يقرأ افكاري. وإذا نظرنا إلى رواية “آخر الأراضي” من وجهة المفاهيم الموسيقية، نجد العديد من “الروابط الخفية” بينهما. ترتكز الموسيقى على ثلاثة عناصر أساسية: الميلوديا (اللحن)، الهارمونيا، والإيقاع. فلحن الموت لا ينفكّ يلازمنا ويرافقنا على مساحة الكتاب، تنتقل أسراره وأطيافه من مقطع لآخر، ومن فصل لفصل. أحياناً يفعل القدَر فعلته مع هذا وذاك من الذين يسقطون، وأحياناً أخرى، يتعايش الذين سيغيبون مع هارمونيا الموت. ويسير إيقاع الموت بطيئاً حيناً، كما في نزاع سميح العارف الأخير، الطويل، الذي تتخلّله غيبوبات ويقظات، حتى لحظة النهاية، وسريعاً، حاسماً، في حينٍ آخر، كما الضربة الواحدة، في حادثة موت ابن سارية مراد، أو بين الإيقاعين البطيء والسريع، كما في غرق رئيف زين. ولم تفارقني “المسيرة الجنائزية” لشوبان لحظة واحدة، وأنا أتابع جنازة الست ماريا وابنها الشاب، وقد احتفظتْ بجثمانه في بيتها لسنوات طوال، رافضة دفنه قبلها، قائلةً: “لن يخرج قبلي من هذا الباب”. وفي النهاية، خرج التابوتان، تابوتها أولاً، ثم تابوت ابنها بعدها، ببطء، نحو مثواهما الأخير.

ختاماً، أكاد أرى رواية “آخر الأراضي” لأنطوان الدويهي، عبر “الروابط الخفية” نفسها، مندرجة بين أعمال باخ وشوبان وليست وموزار، وسواهم من كبار المؤلفين الكلاسيكيين، الذين شكّل سر الموت إلهاماً عظيماً لهم، فأبدعوا في كتابتهم الموسيقية عنه، ووضعوا له القوالب الموسيقية المتنوعة، من عصرٍ لآخر.

أودّ الإشارة في النهاية إلى اندهاشي، حين قرأت، على ضفتَي غلاف هذه الرواية، شهادات هذا القدر الكبير، والمتنوِّع، والرفيع، من الأدباء والمفكرين والنقاد، في أدب الدويهي، ما جعلني عاجزة عن أي إضافة. فليس ما يُضاف حقاً. لذلك سأختم مداخلتي، مستعينة بكلمة لمفكرِ الموسيقى ومنظّرِها الكبير، ألكسندر سوريل ، أوجّهها إلى صاحب “آخر الأراضي”: “في ما يخصّ ملَكَة الإبهار، فهي مرتبطة بسر الفن، وهو امرٌ لا يمكن تعلّمه ولا اكتسابه. ولحسن الحظ أنه كذلك”.  “Vous avez le talent d’émouvoir, il relève du mystère de l’art, et cela ne s’apprend pas…Tant mieux.. ».

 

 

اترك رد