“صنّاع الفرح”* تحت مجهر أربعة باحثين أكاديميّين

مقاربات لغويّة واجتماعيّة حول أنماط الشعر اللفظي بين الشرق والغرب

المقدمة لهنري زغيب

        

“من أين يأتي الفرح؟

من عيني الحبيبة يأتي، من شمس زهرةٍ، من عندلة كنار.

وهو يأتي دائمًا ممّن انتدبتهم السماء ليكونوا “صنّاع الفرح”، ليهنأ بهم الفرح، مثلما بين يديك، نسخة من حنايا كتاب.” (من مقدّمة هنري زغيب، ص 13).

حين دعاني الباحث نادر سراج الى لقاء حول كتاب أكاديمي شارك هو في صنعه، لم أكن أعلم أنّ مائدة الشعر تنتظرنا، وشيخ من الشعراء المحدثين واقف في الباب لاستقبالنا؛ حملتنا مقدّمة هنري زغيب التي افتتح بها اللقاء، الى حدائق الشعر، لما فيها من جمال موسيقى ونغمات تنساب في البال انسياب رائحة عطر زهر الليمون والورد الجوري في البساتين… كان بوّابتنا المشرّعة لولوج عالم الشعر ومعرفة أنماطه ما بين الشرق والغرب؛ فقد جمع لنا أربعةُ باحثين باقات متنوّعة، كلٌّ من محيطه، وقدّموها كاشفين لنا خفاياها وجمالاتها: ضمّة من الزجل اللبناني من جوزف أبي ضاهر حيث “من الصوت كان بدء”، ولكن، بين بداية الحمل ولحظة الولادة ثمّة أحداثٌ لا تخلو من الأهميّة، يجدر بكلّ من يعشق هذا المولود المسمّى “زجلًا” العودة إليها.

وضمّة أزجال شعبيّة لبنانيّة من نادر سراج، يعرضها من خلال دراسة لسانيّة، تُخرج الواقع الكائن من داخل النسيج الشعري المحبوك ببساطة، لتنقل صورة حيّة عن الوضع الاجتماعي المحفوظة تفاصيله داخل الأبيات الشعريّة.

هذا في الجزء العربي من الكتاب والذي سنضيء عليه. أما في الجزء الأجنبي، فنقع على عرض للزجل الأندلسي من عبدالله نعمان، في دراسة متوسّطيّة لشعر التروبادور؛ فيما نجد في جزء آخر نقدًا تاريخيًّا من عدنان حيدر للزجل اللبناني.

وتأتي الرسومات لتزيّن هذه المائدة كباقات من ضوء، وأبرزها لوحة “أغنية حبّ” لجان لحود، ولوحة “بيروت ليلًا” لأديب فتّال.

ومن الصوت كان بدء

جوزف أبي ضاهر

كما يحفر بإزميله ويهندس بريشته ويدوزن أشعاره، أتى جوزف أبي ضاهر بدراسة متقنة الهندسة شاملة، فهو يرى أنّ الصوت نغمة ألبسها الإنسان الأوّل كلامَه فانتظمت في لغات و”اكتملت دورة الحياة أخذًا وردًّا”، ثم أعقبتها استراحة، و”في الاستراحة تدرّج الصوت بين نبرة وأختها. زاد عدد الأصوات، فخرج النغم لملاقاتها” (ص 15)، وولد الزجل!

اللغة بالنسبة لأبي ضاهر هي “لغة حياة” وعظمتها في ما تستطيع من إبداع، “إذا كانت مولودًا قابلا الحياة فلا شيء يمنع عليه الاستمرار”… برأيه “لا يلتحق العقل باللسان قبل أن يلتحق اللسان به. اللسان هو الحاكي الراسمُ كلمات تتحوّل من صوَر العين الى تمتمات عبر الشفاه تسبق الفكر في التعبير ببساطة لغتها الأم فتتناقلها الشعوب بتلقائيّة من دون تفتيش عن أصولها  وقواعدها، مرماه المحادثة في الأبسط من الأمور”، وقد يكون الزجل أحد أساليب هذه المحادثة.

هكذا يعيدنا جوزف أبي ضاهر الى العصر الذهبي للزجل اللبناني، مستعرضًا المنابر في عزّ نشاطها، حيث كانت الحدث وحديث الناس؛ تتألّق نجومُه من لبنان وخارجه، وصولا الى مصر فبلاد الاغتراب اللبناني… ثم نرى الدور البارز لشعراء الزجل في السياسة، لما كان لهم من تأثير في الناس! كما يعرض علينا ضمن لائحة مطوّلة أسماء كبار شعراء الزجل: منصور صافي نصر “شيخ من الزجل”، أسعد الخوري فغالي، علي الحاج، وليم صعب، خليل روكز، زغلول الدامور… ونلاحظ وفرة التناص في دراسة أبي ضاهر، ما يشي بتعدّد قراءاته ومراجعه.

فنون الأزجال الشعبية اللبنانية

قراءة لسانيّة اجتماعيّة لنادر سراج

في القسم الثاني من الكتاب يأتي الباحث نادر سراج، المعروف بدراساته الأكاديمية المعمّقة والرصينة، ليطرح إشكاليّة “قدرة فنون القول على ترجمة أحوال الجماعة اللغوية اللبنانية الواحدة عن تقلّبات النفس الإنسانيّة”، من خلال دراسة لسانيّة اجتماعيّة، سعيًا “للإضاءة على موروثنا الثقافي” (ص 56).

ويؤكّد، بعد دراسة موضوعيّة تستند الى وقائع علميّة، أنّ ما تناهى إلينا من أقوال متداولة عبر الزجل، إنّما يعبّر “شكلًا ومحتوى عن لسان حال الجماعة الواحدة وصيغ بألسنة القوم… المحبِّذ لها والمردّد أشعارها باعتبارها تعبّر عن واقعه الثقافي والاجتماعي” (ص56). ليخلص من خلال دراسته الى أنّ الزجل أو الأشعار الزجليّة هي وسيلة تعبير شعبيّة متكاملة ومركّزة، نشأت عن الجماعة فاختصرت تجاربها الإنسانيّة، وأوجزت ممارستها العمليّة والعقليّة والعاطفيّة في منظومات قولية شفهيّة  متناقلَة جيلًا بعد جيل…” (ص59). ولا يخفى خلال العرض ما للباحث نادر سراج من طول باع في عرض الموروث وإخضاعه للمجهر، وربط ما يقع عليه ضمنَه من دلالات، بأحداث تاريخيّة تؤكّد هويّة شعب، وكيفيّة عيشه وقائع أيّامه ضمن مجتمعه، كما في الصفحة 60، حيث يربط ما جاء في “الزلغوطة”  التي تصف العروس المشبّهة بيوسف الحسن وهي تجلس على العرش في يوم زفافها. أيضًا نقع  على دراسة تحليليّة لبعض الأقوال الزجليّة (ص 66 وما يليها)، استند فيها سراج الى دراسات له سابقة، نُشرت في كتابه “أفندي الغلغول” الذي نُشرت لي مقالة عنه في الصفحة الثقافية لجريدة الأنوار بتاريخ 20/6/2017.

يخلص سراج في دراسته التحليليّة الى “أنّ الشأنين اللّساني والاجتماعي متلازمان في الوجود والصيرورة”، وأنّ “تراثنا ليس بعبعًا “تابو” نخشاه. ولا هو “سقْط متاعٍ” نتجنّب ذكره ونتحاشى استعادته…” بل هو “بكلّ بساطة نحن، الفاعلين الاجتماعيين في “مرمحه”، والشهود العيان له وعليه، بوصفنا خلفًا لأسلافنا، وباعتبارنا استمرارًا يطوي بين جنباته المكان والزمان ويستبقي منهما إبداعات الإنسان وتجليات اللسان في إمتاعه ومؤانسته الروح البشريّة.” (ص 88-89)

في القسم الأجنبي من الكتاب نقع على دراستين مختلفتين، الأولى بالفرنسية تتناول الزجل الأندلسي من خلال دراسة قام بها عبدالله نعمان، لا تقلّ أهمّيّة عن الدراستين السابقتين من حيث التحليل واستعادة لمحات من مسيرة هذا الفن وأصله الذي تعدّدت الآراء فيه. والثانية بالانكليزية حيث نقرأ لعدنان حيدر عرضًا لتاريخ الشعر الزجلي اللبناني…

جاءت كلّ دراسة من الدراسات الأربع مستقلّة بذاتها، تعتمد أسلوبًا خاصًّا بكلّ كاتب في تحليله لها، هي أربعة كتب موحّدة الموضوع جُمعت في إصدار واحد. يمكن أن تشكّل هذه الدراسات المختصرة والسريعة، بذرة تمهّد الطريق لدراسات مستقبليّة موسّعة، قد تَنتج عنها ثمارٌ تغني الجيل الجديد من الزجّالين، فيُنَمّوا ويُطوّروا ما نشأوا عليه من أنماط زجليّة، وترتفع عاليًا أنماطٌ حديثة تزدهي بجديدِها المتشرّب عصارة تربة جذور ماضيها.

“صنّاع الفرح”

إصدار جديد لمركز التراث اللبناني

في الجامعة اللبنانية الأميركية

نشيد بالدور البارز الذي يؤدّيه مركز التراث اللبناني في الجامعة اللبنانية الأميركية، عن طريق نشر الثقافة مجانًا كي تصل الى كلّ راغب في العلم، في زمن مزاحمة التقنيّات الإلكترونيّة للمنشورات الورقيّة وغلبَتِها عليها، بحيث بات الكلّ أسير القلق على مستقبل القراءة وتراجع نسبة القرّاء؛ دأبه في ذلك دأب العديد غيره من المؤسسات الثقافيّة التي لا تبغي أي ربح، والمنتشرة بكثرة في لبنان، من شماله الى جنوبه، مؤكّدة على استمرار لبنان في رسالته الثقافية وشغف أبنائه، المتوارَث عبر الأجيال، بالحرف والكلمة، يشارك فيها العالم من حوله غير ضنين…

22- 8- 2017

____________________

صنّاع الفرح: أبحاث أكاديمية لأربعة باحثين، منشورات مركز التراث اللبناني في الجامعة اللبنانية الأميركية، ط 1، 2017.

اترك رد