“تربُل بينَ الماضي والحاضر”… مُقارَبة تاريخيَّة مدعومةُ بالوثائِقِ

بقلم: د. أنيس مُسَلِّم

كتابُ سامية برَّاك عاصي، ” تُرْبُلْ بينَ الماضي والحاضر” كحضورِها، جَذَّابٌ وآسِرٌ. تَأخُذُهُ بين يديكَ، فيأخُذُكَ، بلباقةٍ أُنْثَويَّةٍ إلى بلدةٍ بقاعيَّةٍ فريدةٍ بينَ القُرى، anis-msallemمَوْقِعًا ومُناخًا وهِمَّةً بشَرِيَّةً. يجولُ بِكَ في حقولِها وكرومِها وغياضِها، ولا يُهْمِلُ مَغاوِرَ “الجبيلة” ولا مُنْبَسَطاتِها التي تُزرعُ عَدَسًا وحِمَّصًا فريدي النَّكْهةِ والمَذاق. لم تنسَ السيِّدةُ سامية رَأسَ العين الذي كانَ، على مدى سنواتٍ، بُحيرةَ الأُنْسِ في المِنْطَقَةِ، ومَقْصِدَ مُحبِّي السَّمكِ النَّهْريِّ، واستِراحَةَ صيَّادي الفِرِّي.

إنَّ التَّاريخَ يَعرضُ أمامَ القارِئِ الحاضِرَ والماضيَ، وعلاقَةَ هذا بذاك، والمؤرِّخُ، بأسْلوبِهِ الخاصِّ، يُسَهِّلُ للقارِئِ، عادةً، عَمَليَّةَ إبصارِ أحداثٍ وسماعِ كلماتٍ كانت في النِّسيانِ أو مُهْملة. وسامية برَّاك عاصي حاولت في كتابِها، كعامَّةِ المؤرِّخينَ، إعادَةَ تركيبِ الماضي في ضَوءِ ما قَرَأَت من وثائقَ ومراجعَ وما سَمِعَت مِنَ الشُّهُودِ، وبخاصَّةٍ المُسنِّين، وحَدَّدَتِ الوقائِعَ بنِسَبٍ تَجعَلُها مُحْتَملةً وقريبةً منَ الموضوعِيَّةِ، بحيثُ اختلَطَت وُجْهَةُ نَظَرِها كمُؤرِّخَة، بالحقيقَةِ التاريخيَّةِ، فأمْسَتا غيرَ قابلتين للتَّمْييزِ؛ هذا يَحْصُلُ عادةً فتُصْبِحُ الحقيقةُ التاريخيَّةُ تَأويليَّةً، غيرَ مُحرَّرةٍ من ميولِ المؤرِّخِ وأحيانًا من نَزَواتِهِ.

***

والمُؤرِّخُ الفَطِنُ، يأخُذُ في الاعتبارِ، أنَّ منْ سَبَقَهُ من المؤرِّخين والشُّهود، قد يكونونَ نَسَوْا بعضَ التفاصيل، أو تَنَاسَوْهَا قَصْدًا لأسبابٍ سياسيَّةٍ أو دينيَّةٍ أو عِرْقيَّة، أو قد يكونون مزجوا بعْضَها بِبَعْضِها الآخر. وكثيرًا ما يَحْصُلُ ذلك، في تَحْديدِ التواريخِ وأسماءِ الناسِ والأمْكنةِ؛ وسامية عاصي تنَبَّهت لهذهِ المزالِق، وبخاصَّةٍ، ما يتعلَّقُ بالأُسَرِ ومُخْتلِفِ الشؤونِ الاجتماعيَّةِ وحاولت، قدر المُسْتطاعِ، تجنُّبَها والابتِعَادَ عنِ الذَّاتيَّةِ، دون الوقوعِ في الخِفَّةِ أو التَّصنُّعِ.tirbol-ma7af

يَضُمُّ الكتابُ خَمْسَةَ أبوابٍ، تُعالِجُ المُؤلِّفَةُ، في البابِ الأوَّلِ، التَّعريفَ بالقريةِ اسمًا ومَوْقِعًا ومُناخًا. وفي البابِ الثاني، وَضْعَ السُّكَّانِ، أسَرًا مُقيمَةً ومُنتَشِرة. وفي البابِ الثالِثِ، حَالَةَ العُمْرانِ في القريةِ. وفي البابِ الرَّابِعِ، واقِعَ الحياةِ الاجتماعيَّ. وفي البابِ الخامِسِ، المُؤسَّساتِ على مُختلِفِ أنواعها. والكتابُ من القطعِ الكبيرِ، مُجلَّدٌ تَجليدًا فنيًّا، وورقُهُ صَقِيْلٌ وطباعتُهُ نظيفة؛ ويمتازُ بخَصَائِصَ ثلاث أساسيَّة: ألأولى: مُقارَبَتُهُ التاريخيَّةُ المدعومةُ بالوثائِقِ والمراجِع، خصوصًا بالنسبةِ إلى البابين الأوَّلين. الثَّانية: أسْلوبُهُ السَّرديُّ السَّهْلُ، ومُقاربَةُ المواضيعِ بعفويَّةٍ، بعيدًا عنِ التَّصَنُّعِ والمواربةِ؛ وهذا أمرٌ يُشْبِهُ، إلى حَدٍّ بعيدٍ، حياةَ القرويين اليوميَّةَ وتَعاطيهم مَعَ الأرضِ، وبخاصَّةٍ، ما يدورُ في سهراتهم، أيَّامَ الشتاءِ، وهم يتبادلون الطَّرائِفَ، ويُخْبِرُ كُلٌّ منهم أهمَّ ما صادفهُ إبَّانَ عمَلِهِ في الحقلِ، أو في أثناءِ تنقُّلاتِهِ في المدينة.

***

وأمَّا الخاصَّةُ الثالِثَةُ: ملامِحُهُ التَّربويَّةُ، فالمُربِيةُ سامية برَّاك عاصي، لازَمَت المُؤرِّخَةَ؛ وابتعدت، قَصْدًا أو سَهْوًا، عن أخطاءَ الماضي، تناست السَّلبيَّاتِ، أو أهْمَلَتْها، وأبْرَزَت الإيجابيَّاتِ والإنْجَازاتِ، وأشادَت بها، كَأنَّها بذلِكَ تدعو إلى التَّقدُّم وتَحُثُّ القرويين على المبادرة. وهيَ كَمُعظَمِ المُؤرِّخينَ، مَحَضَتِ الذَّاكِرَةَ   الكثيرَ منَ الثِّقةِ، والفِكْرَ القليل منها. ونسِيَت أنَّ التَّذَكُّرَ، وإنْ لهُ قيمةٌ خُلْقيَّةٌ، يجب حَصْرُهُ لكونِهِ يُصابُ، أحيانًا، بالعيبِ؛ وهَذِهِ مَسْألةٌ دقيقةٌ يُعانيها لبنانُ، فلا يَتَّفِقُ أهلُهُ على نَصٍّ واحِدٍ لكِتابةٍ تاريخ وَطَنهم.tirbol-2

 والكاتبة عاصي، تَرجَّحتْ بين الأسطورةِ والواقعِ، بين التَّحيُّزِ والنَّزاهةِ، بحيثُ بَدَتْ، أحيانًا، وكأنَّها مُتَحَيِّزَةٌ، نُخبويَّةٌ في اختيارِ المراجِعِ، على أنَّها، في العمومِ، تطوَّرت وأصْبَحَتْ أوضحَ، أجلى وتَحمِلُ هَمَّ الأصالةِ. ولَعَلَّها، في توَسُّلِها التاريخ كَخَزَّان تجارِبَ، جَمَّعَ فيهِ الأجدادُ خُبراتهم، تَرَكَتْ لأبناءِ القريَةِ المجالَ ليَخْتاروا بأنْفُسِهم من بينها الإيجابي ويُهْمِلوا السَّلبي. هكذا تَجْعلُ التاريخَ، بالنسبةِ اليهم، وسيلةَ تقدُّمٍ وتَحسينٍ وإتْقانٍ، يَستَرْشِدونها لبلوغِ الحقيقةِ. لقد حاولت السيِّدة سامية الإجابَةَ عنِ اثنين منَ الأسئلة الثلاثة الأساسيَّة: من أين جاءت أُسَرُ القريةِ وما هيَ أحوالُها، اليومَ، ولكنَّها سَهَتْ عَنِ السؤال الثالث: إلى أين تَتَّجِهُ!

***

كُنتُ أتمنَّى لو أنَّ السيِّدةَ سامية حاولت، وهيَ تتحَدَّثُ عنِ القَرْيَةِ النَّمُوذَجِيَّةِ، أنْ تُقاربَ دَعوَتَها [مصيرَها] كبلدةٍ مُمَيَّزةٍ في وَسَطِ البقاع، وأنْ تُعَرِّجَ، على كتاب ابنِ الضَّيْعة، نعمة الصَّغبيني: “تاريخ تربل، 1780-2007″، الذي صَدَرَ عام 2007، أو أنْ تُشِيرَ إليهِ ولو عَرَضًا؛ فالتاريخُ تواصُلٌ، والعلمُ تراكُمُ معارفَ وخبراتٍ ونظَريَّات، إلى كونِهِ مِيْزَانَ Baromètre   تُقَاسُ بهِ حضارةُ الشُّعُوْبِ والمُجتمعاتِ ودرجةُ ترَقِّيْها. ولأنَّ التَّطَوُّرَ حاصِلٌ فعلى المؤرِّخِ لَفْتُنا إلى نوعِ هذا التَّطوُّرِ ونِسْبَتِهِ.tirbol-3

الخُلاصَةُ: الكتابُ قيِّمٌ، على الرُّغْمِ من بَعضِ الهفواتِ المَنْهَجِيَّةِ والمَطبعيَّةِ؛ وهوَ مُفيدٌ ومُمْتِعٌ وبالتالي جديرٌ بالقراءَةِ المُتَأنِّيَةِ، ويَحْمِلُ جديدًا إلى المَكْتَبَةِ اللبنانيَّة.

 كلام الصور

1-  متحف تربل

2-  بيت لبناني تراثي

3-  فخاريات أثرية وجدت في البلدة

اترك رد