صحيح أن خريطة تقاسم النفوذ في بلاد المشرق العربي، خصوصاً سورية والعراق لم تتبلور صيغتها النهائية، إلا أن المؤشرات تدل على بلورة خطوات أساسية بين القطبين الفاعلين بقوة، أي الولايات المتحدة الأميركية وروسيا. وعند الحديث عن تقاسم النفوذ في سورية، يدخل لبنان حكماً ضمن منظومة التقاسم هذه، وتتحدد الجهة التي ستعطى لها الأولوية في التدخل الفاعل في الشأن اللبناني وإدارة الهيمنة فيه. في هذا المجال، لم يعد خافياً ما يطمح إليه الرئيس السوري ونظامه من إعادة السيطرة على لبنان، وأن يكون لبنان جزءاً من التعويض عن الخسارة السورية لمناطق واسعة من البلاد وحصر سلطته ضمن «سورية المفيدة». فما الممكن وما المستحيل في استعادة هذه الهيمنة؟ ومن هي القوى الإقليمية المساعدة او المعيقة لهذه السيطرة المتجددة؟
بداية، لا بد من قراءة مجريات الأحداث السورية انطلاقاً من التسويات الروسية – الأميركية تحت عنوان «مناطق خفض التوتر»، حيث يجري تحديد القوى المسموح وجودها والقوى الممنوع عليها هذا الوجود. تشير الوقائع السورية أن إيران وميليشياتها بدأت تتراجع تباعاً من مناطق سيطرتها السابقة بقرار روسي وأميركي. كما لم يعد خافياً الكلام الأميركي الصريح بضرورة انسحاب إيران وميليشياتها من الساحة السورية، وهو موقف يحظى بعضه بتأييد روسي خفي. تدرك إيران نتائج هذا الموقف الذي يهدد مشروعها التوسعي في المنطقة بالخطر. لذا أتت التصريحات الإيرانية حادة ومتوترة ضد هذه المواقف، ورافقتها تهديدات عسكرية لمنع حصول أي تسوية، ورفض قاطع للانسحاب من سورية التي استثمرت فيها بلايين الدولارات، ودفعت الآلاف من القتلى على ساحتها.
رسم الراعيان الروسي والأميركي خطاً جغرافياً لإيران داخل «سورية المفيدة»، وتمددا جغرافياً نحو لبنان وحدوده الشرقية حيث تمتلك إيران قوة سياسية وعسكرية عبر «حزب الله» اللبناني. وكما يظهر حتى الآن، وتحت ضغط القوى الدولية والمهيمنة، والتهديدات الأميركية المتمادية ضد إيران، فإن إيران قد تكون اقتنعت بمنطقة نفوذها، وبدأت تكرس هذا النفوذ على أرض الواقع، مستفيدة هذه المرة من هيمنتها على القرار السوري الرسمي.
يمكن القول، حتى الآن، أن تداخلاً في السعي الى السيطرة على لبنان موجود بين إيران والنظام السوري. يسعى الرئيس الأسد الى توظيف الدور الإيراني في إعادة موقع نظامه في لبنان، مع حماية المصالح الإيرانية من خلال العلاقة الوثيقة التي تربط النظام بـ «حزب الله». لا تبدو العلاقة مبسطة بين هذا المثلث، واذا كانت التناقضات خفيّة الآن بين أطرافه، فلأن معركة التقاسم الأكبر لم تنجز بعد. لكن ذلك لا يمنع من تسجيل بعض القضايا التي تفتح مباشرة على موقع الحكم اللبناني مما يجري حوله ويخطط له من خارجه.
قيل الكثير حول معركة جرود عرسال، وجرى تضخيم «الانتصار» الحاصل فيه من أجل توظيفه السياسي داخلياً. على رغم أن المعلومات المتكشفة تباعاً، والتي تداولتها قوى لبنانية ودولية، تقول إن حجم قوى «جبهة النصرة» لم يكن يتجاوز المئة وعشرين عنصراً، وأن اتفاقاً سبق وأن حصل مع الجيش اللبناني على انسحاب هذه القوات. لكن فجأة، وبقرار إيراني – سوري، فتح «حزب الله» معركة عسكرية، وأرفقها بحملة ديماغوجية تخويفية للأقليات المسيحية وتخوينية لكل معارض للنظامين السوري والايراني وحلفائهما. لتنتهي المعركة بعد أيام قليلة، ويعلن فيها الحزب «انتصاره»، بعد أن يكون الأسد قد سبقه في تسجيل النصر السوري على غرار ما حصل عام 2006. وبدأت عملية الإفادة من هذه المعركة التي وصفها كثيرون بـ «المسرحية» او «التمثيلية».
يجري الآن في لبنان توظيف الحرب السورية والتدخلات فيها لإعادة تموضع القوى الموالية للنظام السوري، من خلال الدعوات الى التنسيق معه في كل الأمور، وإنهاء ملف المقاطعة السياسية، والترويج لمقولات العلاقة الوثيقة بين البلدين وتفعيل هذه العلاقة… تترجم بعض القوى موقفها عبر زيارات وزراء الى سورية من دون موافقة مجلس الوزراء على ذلك. فالحكم اللبناني الراهن يقوم على تقاسم نفوذ كل طرف طائفي– سياسي لمنطقة معينة، إذ يبدو البلد مجموعة إقطاعيات يتصرف كل إقطاعي وفق ما تمليه مصالحه.
من المبكر جداً الحديث عن تضارب بين مصالح النظام السوري ومصالح إيران و «حزب الله» في لبنان. لكن التناقض قد يظهر لاحقاً عند الفرز والضم في سورية وامتداداتها اللبنانية. في هذا المجال، قد يكون متاحاً للنظام السوري لعب دور مؤثر أكبر في لبنان، من خلال القوى اللبنانية المتزايد عددها في تأييده.
يبقى أن نرى المستحيل في هذه العودة السورية، والناجمة عن التناقضات الداخلية اللبنانية وصعودها في وجه هذه الهيمنة، وهي ستعيد فرز القوى من جديد وإثارة ردود الفعل الطائفية والمذهبية. يضاف الى ذلك أن النظام السوري نفسه لم يعد بتلك القوة العسكرية والسياسية التي تمكنه من إعادة هذه الهيمنة.