“مَجنُونُ الثَّقافَة”! 

     (قِراءَةٌ في رِوايَةِ “العَدَّاء” لِلكاتِبِ ناجِي نُعمان)

 

ناجِي نُعْمان مُغامِرٌ، أَكادُ أَقُولُ حَدَّ التَّهَوُّرِ، في مِضمارِ الحَرف. لُقِّبَ بِـ”مَجنُونِ الثَّقافَةِ بِالمَجَّانِ إِذْ حاوَلَ، ويُحاوِلُ، عَولَمَةَ الثَّقافَةِ المَجَّانِيَّةِ، فَقَدَّمَ، ويُقَدِّمُ، عَمَلَهُ ومالَهُ في هذا السَّبِيلِ، إِلى حَدِّ الاستِدانَة”. فَهُوَ لا يَكتَفِي بِأَحلامِهِ العِراضِ وقَد أَفلَتَت مِن عِقالِها، بَل يَشُدُّ الرَّحْلَ إِلى جِنانِها الغِيْنِ، مُوجِعًا إِمكاناتِهِ المَحدُودَةَ، ناسِلًا مِن عَصَبِ الحَياةِ اليَومِيِّ خُيُوطًا يَحُوكُ بِها نَسِيجَ مُؤَسَّسَتِهِ الحُلْمِ، “الثَّقافَة بِالمَجَّان”، هذه الَّتي نَذَرَ لها، مَعَ العَرَقِ واللُّهاثِ، كَثِيرًا مِن إِدامِ صَحنِهِ اليَومِيّ. أَرادَها صَرْحًا مُمَرَّدًا، حِينَ الإِمكاناتُ المادِّيَّةُ دَقِيقَةٌ رَهِيفَةٌ، والمَعِينُ نَذْرٌ يَسِيرٌ إِزاءَ الأَمانِي الوِساع. بَيْدَ أَنَّهُ بَناها، ولَو أَنَّهُ يَطمَحُ إِلى الأَكبَرِ، فإِذا بِإِصداراتِهِ لِلكُتُبِ، على طُولِ الأَرضِ العَرَبِيَّةِ، تَتَوالَى، لا يُحَمِّلُ كاتِبَها أَدنَى عِبْءٍ، ويُثَقِّلُ كاهِلَيهِ بِكامِلِ الحِمْل. هو رائِدٌ “عَدَّاءٌ” في الأَريَحِيَّةِ، وفارِسٌ في نَشرِ الحَرفِ، وجَلْوِ الثَّقافَةِ، حَيثُ يَتَقاعَسُ الكَثِيرُونَ القادِرُون.

هذا المَهجُوسُ بِالقَراطِيسِ، يَطلُعُ عَلَينا اليَومَ بِقِصَّتِهِ “العَدَّاء”، ذاتِ الحَبكَةِ البَسِيطَةِ، فَيَبرُزُ فِيها خَبِيرًا بَصِيرًا، مُحَنَّكًا في سَبرِ أَغوارِ طَوِيَّةِ البَشَرِ، مُتَحَسِّسًا الظَّواهِرَ الاجتِماعِيَّةَ، ناكِئًا جُرُوحاتِها ودَمامِلَها، مُثَمِّنًا مِساحاتِها المُضِيئَةَ حَيثُ هِي.

مَرَّتِ القِصَّةُ، تارِيخًا، وسَيرُورَةً، في مَراحِلَ عَدِيدَةٍ كانَ فِيها تَحَوُّلٌ وصُعُودٌ وهُبُوطٌ، حَتَّى وَصَلَتِ، اليَومَ، إِلى ما يُسَمَّى القِصَّةَ الجَدِيدَةَ والحَدِيثَة. فَمِنَ الأَساطِيرِ، إِلى المَلاحِمِ، إِلى القَصِّ الدِّينِيِّ، إِلى الرَّمزِيَّةِ الخُرافِيَّةِ، إِلى الرِّوايَةِ التَّارِيخِيَّةِ، إِلى القَصِّ الواقِعِيِّ، إِلى أَنساقِ يَومِنا هذا، مَسِيرَةٌ طَوِيلَةٌ تَعَثَّرَت فِيها القِصَّةُ أَحيانًا، وانطَلَقَت حَيَّةً أَحايِينَ، ولكِنَّها، في المُحَصَّلَةِ، صَمَدَت وعَبَرَت، مُعافاةَ الرَّكْبِ، حَيثُ تَهاوَى الكَثِيرُ مِنَ الأَنواعِ الأَدَبِيَّةِ، وبَلِيَ الوَفِيرُ مِنَ النِّتاجِ المُكَدَّس.

صاحِبُنا يَكتُبُ بِطَرِيقَةِ القَصِّ التَّقلِيدِيَّةِ في أَيَّامٍ طَفَرَت فِيها “الرِّوايَةُ الجَدِيدَةُ” المُتَفَلِّتَةُ مِن قُيُودِ القَصِّ وضَوابِطِهِ، وأُطُرِهِ المَعهُودَةِ سالِفًا، وهَيكَليَّتِهِ المَألُوفَةِ مِن حَبكَةٍ وذُروَةٍ ونِهايَةٍ، والمُتَمَرِّدَةُ على الزَّمانِ والمَكانِ الرِّوائِيَّينِ، والَّتي تَبدُو تَراكُمًا غامِضًا، مُشَوَّشًا، مِنَ اللَّقَطاتِ والتَّهوِيماتِ الَّتي لا يَجمَعُها تَرابُطٌ، أَو تَآلُفٌ، أَو تَوازٍ، والَّتي تُدخِلُ القارِئَ، غَيرَ المُتَخَصِّصِ، في مَتاهَةٍ يَصعُبُ تَحَرُّرُهُ مِنها. وهُنا يَلَجُّ السُّؤَال: هَل تَستَطِيعُ هذه التِّقْنِيَّاتُ المُستَحدَثَةُ أَن تُؤَسِّسَ “ذائِقَةً جَدِيدَةً”، أَم تُراها سَتَصطَدِمُ بِالمَنحَى الطَّبِيعِيِّ، والهَوَى المُتَوارَثِ، اللَّذَينِ يَغلِبانِ على النَّفسِ البَشَرِيَّةِ، ولَو حاصَرَتها النَّظَرِيَّاتُ والدِّراساتُ والفَلسَفاتُ الجَدِيدَةُ الَّتي تَتَوَسَّلُ العَبَثِيَّةَ، والسُّورِياليَّةَ، والعَدَمِيَّةَ، والانفِلاتَ غَيرَ المَضبُوط؟

قِصَّةُ صاحِبِنا استِرجاعُ حَياةٍ في ذاكِرَةِ شَيخٍ وَلَجَ المَقلَبَ الآخَرَ. إنَّها قِمَّةُ السَّردِ الاِستِرجاعِيِّ (الفلاش بَاك  Flash back)، أَوِ المُونُولُوجِ الدَّاخِلِيِّ، وهُوَ عِمادٌ في القَصِّ العَصرِيِّ، وَظَّفَها بِتِقنِيَّةٍ عالِيَة. وهذا ما أَتاحَ الحُرِّيَّةَ المُطلَقَةَ لِبَطَلِهِ في العَودَةِ إِلى الباطِنِ المَصُونِ، والغابِرِ مِنَ الأَيَّامِ والأَحداثِ، في لَوحَاتٍ حَمِيمَةِ الرُّؤَى، دَفِيئَةِ الوَقع.

وقَد يَكُونُ مِن أَنصارِ “الحَساسِيَّةِ التَّقلِيدِيَّةِ”، كما يُسَمِّيها إِدوار الخَرَّاط، وهي الَّتي تَتَلَوَّنُ بِالرُّومَنسِيَّةِ الغَربِيَّةِ، والواقِعِيَّةِ الَّتي تُحاكِي المُجتَمَعَ، وتُمَثِّلُهُ، بِما فِيهِ مِن تَقالِيدَ وعادات. لُغَتُهُ سَلِيمَةُ البِناءِ، واضِحَةُ الغَرَضِ، مُتَرابِطَةُ المَفاصِلِ، بَلِيغَةُ الأَداءِ، لا تُغرِقُ في الصَّنعَةِ، ولكِنَّها لا تَخلُو مِنَ التَّزاوِيقِ، والاستِعاراتِ الجَمِيلَةِ، والصُّوَرِ المَوْشِيَّةِ بِالخَيالاتِ اللَّطِيفَةِ، والتَّشابِيهِ المُوَفَّقَة. يَقُول: “وتَبكِي على كَتِفِهِ كما لم يَبكِ جَدوَلٌ في نَهرٍ، ولا نَهرٌ في بَحْر” (ص 15).

ومِن وَمَضاتِهِ الجَمِيلاتِ “ما مِن واقِعٍ يَعلُو الحُلْمَ، أَو يَفُوقُهُ لَذَّةً” (ص 70)، وَ”الإِنسانُ إِنَّما هُوَ عَبْدُ ما لا يَحصُلُ عَلَيه (ص 72).

د. ناجي نعمان

وَقَد يُغالِي، أَحيانًا، في حَشْدِ اللُّغَةِ، حَيثُ الكَلِمَةُ تُغنِي عَن فِقرَة. يَقُول: “وَفاتَهُ أَنَّهُ، كَكُلِّ بَشَرِيٍّ، مَيِّتٌ كالمَيِّتِينَ، ولا بُدَّ سَيَمُوتُ يَومًا، فَيَغدُو مَيتًا بَينَ مَوتَى؛ وقَد ماتَ بِالفِعل” (ص 34). لَكَأَنِّي بِهِ صَوتٌ صارِخٌ لِيَومِ الحَشْرِ والنَّشْر…

وقَد وُفِّقَ في دَرْسِ شَخصِيَّاتِهِ طَبِيعَةً، ومَسلَكًا. فَما مِن تَناقُضٍ، أَو تَضادٍّ بَينَ الاثنَينِ، بَل انتِظامٌ في مَنطِقٍ أَكادِيمِيٍّ بارِز. ولكِنَّهُ إِذ يَتَوَسَّعُ في تَفصِيلِ شَخصِيَّةِ بَطَلِهِ “طَبان”، على لِسانِ بَطَلَتِهِ “أَيانَّا” (ص 29)، تَخالُهُ أُستاذًا في الطِبِّ النَّفسِيِّ، يَشرَحُ الباطِنَ الشَّائِكَ، مُستَجلِيًا ظَواهِرَ النَّفسِ وتَعقِيداتِها، مُستَجلِيًا نَوازِعَها، باسِطًا ما تَستَتبِعُهُ مِن سُلُوكِيَّاتٍ في البَطَل. فإِذا هُوَ راسِمٌ حاذِقٌ، مُلِمٌّ بِأَدَقِّ الثَّنايا، وإِذا بَطَلُهُ “طَبان” صُورَةٌ مُجَسِّدَةٌ لِقَولِ جُبران: “كَثِيرُونَ هُمُ الَّذِينَ يَتَكَلَّمُونَ كَالبَحرِ، أَمَّا حَياتُهُم فَشَبِيهَةٌ بِالمُستَنقَعات”. وقَد تَكُونُ استِفاضَتُهُ أَساءَت إِلى القَصِّ نَزرًا، وإِلى انسِيابِ السَّردِ، في قِصَّةٍ لا تَتَجاوَزُ المائَةَ مِنَ الصَّفَحات. وَلكِن حَسبُهُ مَهارَةٌ كَبِيرَةٌ في التَّمثِيلِ تَدِقُّ أَمامَها هَناتٌ شارِدات.

هِيَ قِصَّةٌ ذاتُ رَمزِيَّةٍ عَمِيقَةٍ، “عَدَّاؤُها” هو الإِنسانُ، يَدعُو فِيها، على غِرارِ جُبرانَ في “مَواكِبِهِ”، “إِلى الاندِماجِ في الطَّبيَعَةِ حَياةً، إِذ هو أَسلَمُ طُرُقِ الانعِتاقِ، وأَقصَرُها” (ص 90). وهي عَرْضٌ لآرائِهِ على لَهَواتِ أَبطالِهِ الأساسِيِّين. يُحَمِّلُهُم آراءَهُ في الحَياةِ والنُّظُمِ والبَشَر. وهُنا نَسأَل: هَل تَتَحَمَّلُ القِصَّةُ هكذا عَنَت؟!

في شَهقَةٍ حَرَّى مِن نَفسٍ بَصِيرَةٍ، وأَمامَ شَطَطِ الإِنسانِ وضَلِّهِ، يَقُول: ” أَلله كَم غَدَتِ الأَديانُ عِبئًا على مُعتَنِقِيها، بل عِبئًا على اللهِ نَفسِهِ (ص 52). وأَيضًا: “إِنَّهُ، طالَما يَشغَلُنا السَّلَفُ، فإِنَّنا إِنَّما نُضَحِّي بِالخَلَف (ص 56).

ومِن حُلُولِهِ، حَمَّلَها بَطَلَهُ، “الأَنسَنَةُ حَتَّى لا تَبقَى دِياناتٌ مُتَخاصِمَة” (ص 55).

وقِصَّتُهُ، بِحَقٍّ، مَطِيَّةٌ لِدِراسَةٍ سُوسيُو – سِياسِيَّةٍ قَيِّمَةٍ، تَعرِضُ، مَعَ مَخارِجَ، لِلتَّفاوُتِ بَينَ غِنَى الشَّمَالِ وفَقرِ الجَنُوبِ، بَينَ تَقَدُّمِ الأَوَّلِ وتَخَلُّفِ الثَّانِي، بَينَ استِغلالِ ذاكَ وعُنفِ ذا، إِلى ما في هذه الظَّواهِرِ مِن آثارٍ على كُرَتِنا الزَّرقاء. فهو، إِذ يَرَى صَدعًا في تَقارُبِ حَضارَتَينِ، قد لا يُمكِنُ رَأْبُهُ، يَقُول: “وأَمَّا مِفتاحُ تَطوِيرِ الجَنُوبِ فَفِي جَيْبِ الشَّمالِيِّينَ الَّذِينَ ما فَتِئُوا يَستَغِلُّوُنَ الجَنُوبِيِّينَ ويَمنَعُونَهُمُ التَّطَوُّرَ الحَقِيقِيَّ. وأَمَّا مِفتاحُ تَطوِيرِ الجَنُوبِ فَفِي جَيْبِ الجَنُوبِيِّينَ أَيضًا، في جَيْبِ النُّخبَةِ مِن بَنِيهِم، تِلكَ النُّخبَةِ الَّتِي تَرَى في الشَّمالِ ما فِيهِ، وتَعِيشُهُ، وعِندَما تَعُودُ إِلى الجَنُوبِ تَستَرجِعُ جَنُوبِيَّتَها، وفَسادَها، ولا تُطَوِّرُ بِلادَها، بَل تَستَمِرُّ في نَهبِها” (ص 52 – 53).

ويُشِيرُ إِلى تَهَتُّكِ المُجتَمَعِ الغَربِيِّ حَيثُ “الخَلاعَةُ الاستِباحَةُ سِمَةُ العَصرِ، ومُنتَشِرَةٌ في كُلِّ مَرافِقِ الحَياةِ” (ص 67)، وإِلى مُجتَمَعِ بَطَلِهِ حَيثُ يَكفِي لِيُثِيرَ الخَيالَ والشَّهوَةَ “أَيُّ صَوتِ خَلخالٍ في قَدَمٍ، أَو، حَتَّى، أَيُّ إِصبَعِ قَدَمٍ أُنثَوِيَّةٍ تَفَلَّتَت مِن حِذاءٍ مَفتُوحٍ، ولَم يُغَطِّها جِلبابٌ طَوِيلٌ في يَومٍ حارّ (ص 66).

وكَأَنِّي بِهِ يُذَكِّي المَقُولَةَ الشَّهِيرَةَ: “أَلشَّرقُ شَرقٌ والغَربُ غَربٌ ولا يَلتَقِيان”.

ويُومِئُ بِبَنانِ بَطَلِهِ، “كَيفَ أَنَّ القائِدَ الَّذي يُجَرَّمُ في العالَمِ المُتَخَلِّفِ يَغدُو بَطَلًا، وقَد يُصبِحُ، هُوَ، الأُمَّـةَ؛ بَينَما، في العالَمِ المُتَقَدِّمِ، قَد يَكُونُ السِّياسِيُّ شِبهَ بَطَلٍ، وعِندَ أَيِّ هَفْوَةٍ مِنهُ، يُسحَبُ وَ/أَو يَنسَحِبُ مِن حَياةِ الأُمَّةِ، وقَد يُعَلِّقُ مَشنَقَتَهُ بِيَدَيهِ، ويُنَفِّذُ حُكمَ نَفسِهِ بِنَفسِه!” (ص 55 – 56).

ولَكَم أَشارَ بِإِصبَعِ المُدرِكِ الرَّائِي إِلى صِفاتٍ لَصِيقَةٍ بِما يُسَمَّى “العالَمُ الثَّالِث”. “عالَمٌ عَبْدٌ” (ص 43)، وَ”مُجتَمَعٌ مُغلَقٌ يَلُفُّهُ الدِّينُ على نَحْوٍ جامِدٍ، وتُكَبِّلُهُ العاداتُ” (ص 27)، يُضَخِّمُ الأُمُورَ، العادِيَّةَ مِنها والهامَّةَ، في نَتِيجَةٍ حَتمِيَّةٍ لِنَقصِ العِلمِ والثَّقافَةِ في مَلَأٍ لا يَزالُ مُعظَمُهُ رَهِينَ غَيبِيَّاتٍ ومُعتَقَداتٍ مَورُوثَةٍ، رَثَّت ونَخَرَتها الأَرَضَةُ، وما فَتِئَت تَتَفاعَلُ في النُّفُوسِ، وتُحَرِّكُها. بَيْنا يُقابِلُهُ “عالَمٌ حُرٌّ” (ص 42)، وَ”مُجتَمَعٌ غَربِيٌّ يَتَقَدَّمُ العِلمُ فِيهِ أَشواطًا بَعِيدَةً، وفِيهِ ما يَكفِي مِن حُقُوقِ الإِنسانِ” (ص 21)، مُنهَمِكٌ في سِباقٍ مَحمُومٍ مع الزَّمَنِ، طَمَعًا في كَفِّ رَحاهُ، وَلَجْمِ طُغيَانِهِ المُبِين.

وهو يُشِيرُ إِلى التَّمايُزِ الحَضارِيِّ بَينَ عِرْقٍ أَبيَضَ وعِرقٍ أَسوَدَ، مُصَوِّبًا على فَوقِيَّةٍ تَطبَعُ بَعضَ المُجتَمَعِ الغَربِيِّ تُجاهَ مَن يَدعُوُهُ “الغَرِيبَ، والأَسوَدَ، والمُتَمَيِّزَ دِينًا”، على وَحشِيَّةٍ، أَحيانًا، إِزاءَ هَذا الطَّارِئِ الدَّخِيل. لَقَد لامَسَ كاتِبُنا أَعقَدَ أَسئِلَةِ هذا العَصرِ، مِن دُونِ أَن يَدلُوَ بِدَلوِهِ الشَّخصِيِّ، وإِن كانَ مَيلُهُ مُبِينًا، وهَواهُ خالِصًا، نَحوَ التَّرَفُّعِ عَن كُلِّ تَميِيزٍ عِرقِيٍّ أَو دِينِيِّ. هو المُتَنَوِّرُ، الرَّائِي، المُتَرَفِّعُ عَن صَغاراتِ النَّاسِ، في زَمَنٍ “عادَ فِيهِ الإِنسانُ حَيَوانًا، وأَكثَر” (ص 51).

وإِنَّما، وبِحُكمٍ قاطِعٍ قَد يَحمِلُ بَعضَ التَّجَنِّي، يَسِمُ بِالاستِغلالِ والنُّكرانِ وطَبْعِ التَّخرِيبِ، أَبناءَ جَنُوبٍ فَقِيرٍ مُتَخَلِّفٍ قَد يَكُونُ ظُلمُ الإِنسانِ المُتَقَدِّمِ سَبَبًا وَجِيهًا في انحِرافِ مُيُولِهِم، وحِدَّةِ مَسلَكِهِم (ص 44).

تُراهُ تَأَثَّرَ بِالطَّيِّبِ صالِح في “مَوسِم الهِجرَةِ إِلى الشِّمالِ”، وسُهَيل إِدرِيس في “الحَيِّ اللَّاتِينِيِّ”، ويَحْيَى حَقِّي في “قِندِيل أُمّ هاشِم”، أَم تُراها النَّفسُ هِيَ هِيَ في كُلِّ عَصْرٍ وفي كُلِّ مِصْر؟

كما إِنَّهُ يَتَنَطَّحُ، لَمْحًا، لِأَسئِلَةٍ كَبِيرَةٍ صَعبَةٍ، لا تَزالُ تَقُضُّ مَضاجِعَ البَشَرِ، وتُقِيمُ شُرُوُخًا عَمِيقَةً في البِنَى القائِمَةِ، وأَحيانًا تُوقِدُ ثَوراتٍ تُغَيِّرُ وَجهَ ووُجهَةَ مُجتَمَعٍ ما، وتُشَكِّلُ دِرْعًا يَحتَمِي بِها انتِهازِيُّو التَّارِيخِ وصَيَّادُوهُ، وسَيفًا صَقِيلًا تَمتَشِقُهُ فِئَةٌ مَغلُوبَةٌ على أَمرِها، مَسلُوبَةُ الحَقِّ في رِزقٍ تَكسِبُهُ بِقَطَراتِ الجَبِينِ، وحَرِّ اللُّهاث. يَقُول: “إِنَّ وُجُودَ الأَغنِياءِ – وإِن ضَرُورِيًّا لِدَوَرانِ العَجَلَةِ الاقتِصادِيَّةِ – هو، في الحَقِيقَةِ، سَبَبٌ رَئِيسٌ في وُجُودِ الفَقرِ، والفُقَراءِ، بل مِن فَقرِ الشُّعُوبِ يَنشَأُ الأَغنِياء” (ص 13). وكَي لا يُحَمِّلَ نَفسَهُ وِزْرَ طَرحٍ سِياسِيٍّ – اجتِماعِيٍّ بهذا الحَجمِ، يُقَوِّلُهُ بَطَلَهُ، ويَستَدرِكُ بِإِثباتِ ضَرُورَتِهِ الاقتِصادِيَّةِ، فَيَجمَعُ اللَّهَبَ والنَّدَى في بُوْتَقَةٍ واحِدَة. وإِنَّما طَرْحُهُ المُرتَبِكُ هذا هو لَبِنَةٌ في بِناءٍ لا غُنْيَةَ عَنهُ يُحَرِّكُ الخَلايا الرَّاقِدَةَ في وِجداناتِ الشُّعُوب.

يَقُولُ الرِّوائِيُّ التشِيكُوسلُوفاكِيُّ مِيلان كُوندِيرا (Milan Kundera): “حِكمَةُ الرِّوايَةِ تَتَحَقَّقُ مِن قُدرَتِها على طَرْحِ الأَسئِلَةِ عَن كُلِّ شَيء”. وحَسْبُ كاتِبِنا أَنَّه طَرَحَ أَسئِلَةً في أَوْجِ اهتِمامِ هذا الكائِنِ النَّاهِدِ إِلى الأُلُوهَةِ، عِلمًا ومَعرِفَةً، والقاصِرِ عَن بُلُوغِ رُوحِها، مَحَبَّةً وتَفانِيًا وعَطاء…

في المُحَصَّلَةِ، قِصَّتُهُ رَشحٌ مِن ثَقافَةٍ عَمِيقَةٍ مَشهُودَةٍ اكتَسَبَها في مَسِيرَتِهِ الطَّوِيلَةِ المُستَدامَةِ مَعَ الحِبْرِ والدَّواةِ، ونَسَجَها دَيباجَةَ خَزٍّ، ومَعاطِفَ مِن دِمَقْسٍ، مَشغُولَةً بِلَهْفِ العَينَينِ، أَلبَسَها أَبطالَهُ، وحَرَّكَهُم كَما شاء.

ولكِنَّنا نُذَكِّرُهُ، وهو العالِمُ الخَبِيرُ ولَو جَنَحَ القَلَمُ أَحيانًا مَعَ هَواهُ، بِقَولِ فرَنسوا مُورياك (François Mauriac): “لَستُ أَرَى مِنَ المُستَحسَنِ في شَيءٍ أَن يُصبِحَ بَطَلٌ مِن أَبطالِنا لِسانَ حالِنا، فإِذا خَضَعَ لِما نَرجُو مِنهُ وأَطاعَ، فذلِكَ دَلِيلٌ في الغالِبِ على أَنَّهُ مُجَرَّدٌ مِنَ الحَياةِ الخاصَّةِ، وأَنْ لَيسَ في أَيدِينا مِنهُ غَيرُ حُطامٍ ورُفاة”(1).

ناجِي نُعمان!

في غَمْرَة مَشاغِلِكَ الثَّقافِيَّةِ، أَسَّستَ “صالُون الأَربُعاء”، نَدوَةَ تَنَوُّرٍ وتَنوِيرٍ، تَستَضِيفُ في دِفئِها “المُنتِجِينَ فِكرًا وفَنًّا”، الباذِخِينَ “صِناعَةَ” ثَقافَةٍ، والمُكتَنِزِينَ “غِلالًا”(2) في ساحِ الجَمال.

وفي فَيْضِ عَطائِكَ، كانَت قِصَّتُكَ الأُولَى الَّتِي نَحنُ بِصَدَدِها، والَّتِي خَرَجَت لا كَالبَواكِيرِ فِجَّةً، مُسَنَّنَةَ الزَّوايا، بَل كانَت ثَمَرَةَ نُضْجٍ طَوِيلٍ، وَتَثَقُّفٍ عَمِيق. ونَحنُ نَأمَلُ لَها أَن لا تَكُونَ “بَيضَةَ الدِّيكِ” في مَزرَعَتِكَ العامِرَةِ، بَل تَتبَعُها أَخَواتٌ تَصَفَّت مِمَّا عَلِقَ بهذه المُنَمنَمَةِ الحَيِيَّةِ مِن وَعْظٍ ومُباشَرَةٍ انتاباكَ في نِهايَتِها، ومِن ضَعَفاتٍ مَنثُورَةٍ هُنا وهُناك!

*****

(1): “فَنُّ القِصَّة”، الدّكتُور مُحمَّد يُوسُف نَجم، صَفْحَة 80.

(2): “إِلى المُنتِجِينَ فِكرًا وَفَنًّا وصِناعَةً وغِلالًا”: مِن أَدَبِيَّاتِ المُفَكِّرِ أَنطُون سَعادَة.

اترك رد