“المشهد الاول” نظرتُ إلى الرياض القُرْحٌ الوارفات الشاديات الذلولة القطوف تذليلاً. تسوقها ملائكة ترفرف عبر أرواحها،ترفع السلم تسابيح حمْد يُفترش للأقدام وطئاً ويغشى الرؤوس ظلاً. تسيل فى أرجائها انفاس طيب تضوع نهماً ولا يكبح جماح تضوعها سلطان. تنضو الطيور أجنحتها فرحة مستبشرة، وتغرّد البلابل تراتيلاً تترا عبر آذان الأفئدة فتسكن فيها رضا ورضوان وأمن وسكينة.
ترجرج القلب فى جسدى فأختلج قفزاً وأنساب روحاً لينطلق فى هذا الشهد السلسبيل. وانساب فى الرياض كانسياب الدم فى العروق . أنسبتُ فى خرير الماء فحييتُ فى انسياب محْياه . توارى الكون كله وطُوىَ كل ما فيه من جمال وتقلص حتى تركّز كله فى هذه البقعة الواعدة، أرض الميعاد والرياض القدسية. تنامتْ كل النشوات وازبدتْ وتجسدتْ لترسم نفحة من نفحات جنة الخلد فى لوحة كانها تنزّلتْ من الفردوس الأعلى فى أرض الرحمن…. حقاً جنان سلم وريّا وطيباً وقداسة وجلالة من روح الرب .
“المشهد الثاني” وذُللتْ لي الرياض تذليلاً، واصطفتْ الطيور تحمل بين أجنحتها ذاك السلسبيل الذى ينساب فى كؤوس وتمدّه إلىّ لأشربه عذباً سلسبيلاً وما بي ظمأ ولكنها نشوة حوض الكوثر، ثم سجدتْ لي خشوعاً وتناجتْ البلابل لتصلي لي بأعظم تراتيل الشدو التي لطالما فتنتْ الداووديْينَ أصحاب المزامير الواعدة الخلّاقة التى تنبض برسم حياة الفضيلة والنشوة.
وغشى كل هذا المُلك الأكبر حفيف الملائكة التي ترسل السكينة تتراسل وترسل العبودية فى أرواح كل تلك الكائنات ثم تأمّهم . تأمّهم جميعاً لأنال قداستى كاملة عبر لوحة تلك السيمفونية الرائعة . ولكن هناك من يمد ظلاله حسداً وحقداً يريد أن يُعكّر تلك السيمفونية القدسيّة العليّة . الثعبان نعم الثعبان أبى أن يكون معهم واختار فحيح الحقد يرسله سمْاً وكِبْراً
“المشهد الثالث” تبسط الطيور أجنحتها فوق أوكار صغارها راقصةً ساقيةً طاعمةً هانئةً مرضيّةً. ظلّ سيْد البلابل كل غدوة وروحة يحصى الأوكار ويقلّد المناصبَ ويشدو شدو استنفار الهمم يطير بين خفض ورفع تيّاحا فِدْفاداً راقصاً مطرباً قفّازاً.
راضياً ودوداً يحصىي عدداً، يسقى عذباً، يداوى جرحى، يرسل بسمة ويحضُّ على طعم الجوعى وينادي بثقة وامان من ذا الذى يحزنك أيتها البلابل النديّة ؟ من يجرؤ ان يعكّر صوف سيمفونيتك العليّة ؟ من يجرؤ ان يدنّس قدسية تلك الرياض فيهدر دمك أيتها البلابل الصادحة المطمئنة الوفيّة ؟؟
“المشهد الرابع” تسلل ذاك الثعبان المتّرع بالصلف والحقد أراد ان يسفك دماً. بسط بفاه ليفحَّ على سيد البلابل،وكان سيد البلابل في شغل الراعي لتلك السيمفونية الطاهرة، باسط جناحيه على رعيته.
تسلل الثعبان واقترب اليوم بدلاً من سجود الأمس. رآه البلبل باسطاً فاه فقال له لئن بسطتَ فاهك لتقتلني ما أنا بباسط فاهي لأقتلك فاذهبْ راشداً أو ابقَ آمناً. أطلقَ الثعبانُ السمَّ وسفك الدم وسال على كل البستان، سال في خرير الماء العذب الحي فمات بحمرة الدم وسَدِم ولّتْ الملائكة إلى علّيين، فما كان لها ان تبقى تشاهد لعنة نكص العهد: لا تقتل اشتروا الخبيث بالطيب، والعهر بالقداسة، وصراخ الألم بآهات اللذّة . وتعالتْ صراخات المظلومين،ووُسِدتْ الأبواب، ونُصِبتْ القضبان، وسُلسلتْ السلاسل، وكثر القفز بالسكين، وغنينا على الأيك الألم والجوع والعطش بصوت محصور مكتوم يقطر دماً. وما زال السيد ينزف حتى أطلق صرخة النفس الأخير وشهق شهقة الموت وسكن سكوناً زايله استنفار الشر كله. وافرزتْ غريزة القتل.
“المقطع الخامس والأخير” تعكّر صفوي وصفو ابنائي من بعدي أنا الرائي ، سجد لي الطائعون وقتلوا ابنائي العاصين. كان علينا نحن المصلحون ان لا نترك سيد البلابل طُعما للشيطان. لنوارى سوءة الشادي وسوءاتنا، نواري سوءاتنا بطفو النجاة من لجج البحار ولا نعريها بطفو الغرقى. لابد تمزّقوا خيوط العنكبوت،وتدكّوا حصون الشياطين ، وتدرؤوا بدروع ضمائركم تلك السهام التي تترامى على أبريائكم وضعفائكم لتنغرس في نحوروظهور طغاتكم. لابد من إلقاء سياط جالديهم ،وكسر قضبان حابسيهم ، وهدم جدارالنار لحارقيهم. ” عندئذٍ فلا ” قاتل ومقتول وظالم ومظلوم وطارد ومطرود وقاهر ومقهور.
ولكنكم أيها الرعاة والأمراء شاركتموهم الغنيمة بالأطماع تارة وبالخوف ممَنْ هو أقوى منكم تارة أُخرى. وألّا نعود من حيث أتينا كلنا وندع الملائكة تمشي على الأرض آمنة مطمئنة لترى سيمفونيتها الفاضلة الخالصة الآمنة المطمئنة ، ترى سيمفونيتها وأرى سيمفونيتى وسيمفونية أولادي “سيمفونية الرياض”.