منطقة المشرق في القارة الأسيوية، هي تلك البلاد التي عبرتها مدنيّات متنوّعة منذ أقدم العصور، لكنّ تنوّعها لم يستبعد التقاءها عند مصدر حضاريّ واحد، ما حصر منطلقاتها التي قُدِّر للمجتمع الإنساني معها أن يبصر النّور على الرقيّ والتقدّم.
إنّ المنطقة التي كان يُطلَق عليها تسمية بلاد ما بين النَّهرين، اعتُبِرَت مهداً بزغ منه فجر الحضارة والذي غمر نوره الشرق بكامله. والنّهران المُشار إليهما هما دِجلة والفُرات اللذان ينبعان من مرتفعات القوقاز الأرمينية ليصبّا في شَطّ العرب، مُفسِحَين في المجال للخصوبة أن تُنعش الأرض بالتنبّت والزراعة، فتموج فيها أنواع العشب والنّبات والخضرة. وهذا يعني وفرة المحاصيل وإمكانية الإستقرار، وحصول البحبوحة وبالتالي الإزدهار المُؤَدّي الى الحضارة.
لقد سكن السومريّون تلك المنطقة وبسطوا سلطانهم عليها، لكنّ المُلفِت أنهم لم يسيطروا بالحديد والنار بل بالفكر والعلم. وهذا ما حوّل مدنهم الى محجّات للعمران والتقدّم، وكانت أيضاً سبيلاً للمواصلات بين “الأراضي السعيدة” وبين بلاد الأناضول. وتميّز السومريّون بلغتهم المحكيّة والمكتوبة، والتي كانت لغة العلم والدِّين فانتشرت في منطقة ما بين النّهرين إذ كانت من أولى الوسائل المعرفية في آسيا القديمة. وقد تحدَّر من السومريّين شعوب كثيرة، منها الفينيقيّون الذين اكتشفوا الألفباء أو الأبجدية، وهو أمرٌ يبدو للوهلة الأولى أنه عاديّ، لكنّه في أدبيّات الحضارة اكتشاف رائع رأى النّور على السّاحل الفينيقي، وهذا ما أكّدته اكتشافات ” رأس شَمرا “.
وتتحدّر الأبجدية من الخطّ المسماري، أو هي تبسيط لإشارات المسماريّة، فإيجاد الألفباء توصّل الى تحديد خطّ يفصل بين الكلمات، وأنّ كلّ مقطع يتألّف من أصوات بسيطة يجب التمكّن من عزلها. لكنّ الفينيقيّين، من خلال صِلاتهم التجارية مع شعوب العالم القديم، يسّروا مادة الخط والكتابة بالحبر وأتقنوا رسم الإشارات والرموز على ورق البُردى. والّلافت أنّ أساليب الألفباء الفينيقية أصبحت في متناول جميع الشعوب، واكتسبت صفة العالمية منذ القرن الثالث عشر قبل الميلاد، في حين اندثرت كلّ نماذج الحروف الأخرى.
كان للشعوب التي سكنت الشَّرق أصناف من العبادات التي تقوم على إقامة الشّعائر لقوى الطبيعة. ولمّا كان الخصب هو الهَمّ الأساسي للبقاء، جسّدت الشعوب القديمة ما يتعلّق به في مجموعة من الآلهة الغيبيين، مثل إله المطر وإله العواصف وإله الفيضانات… لكنّ السومريين مثّلوا آلهتهم بأشكال إنسانية، فأعطوا لكل إله صفات تُظهر شخصيته، أو بالأحرى صفات ترمز الى ما يريدونه هم منه. أمّا التَّجاوز الذي أتاه السومريّون فيتمثّل في الإله الشاب، تمّوز، الذي يرتبط بعوامل الخصب في الطبيعة، فيموت كما النَّبات في الشتاء أو ما يُسمّى رُقاد الطبيعة، ثم يولد من جديد في الرّبيع. وكان السومريّون يحتفلون بموت الإله السَّنَوي بالإنتحاب والحِداد، ثم بإقامة الإحتفالات والأعياد ابتهاجاً بظهوره من جديد، وكذلك كان يفعل سكّان السّاحل في إقامة الأعياد لأدونيس الذي يعني السيّد الذي بكته عشتروت. التجاوز أو التخطّي الحضاري المهمّ في هذا المجال، هو طقس الإنبعاث، أو ما عُرِف بعد ذلك عند المسيحيّين بطقس القيامة.
أمّا في موضوع العلوم التي انتشرت في آسيا القديمة، فالإكتشافات المتعاقبة تدفع الى إنصاف شعوب تلك المنطقة، لا بل الإعتزاز بهم. فقد اعتبروا في البداية أنّ العلم هو ثمرة الوحي الإلهي، ما يعني أنّ الانسان لم يكتشف شيئاً من تلقاء نفسه، أو ما يُسمّى اليوم الإختراعات. وهذا الاعتقاد يقترب تماماً من تيّار فلسفي قديم حديث، يؤكّد على أنّ الله خلق كلّ شيء منذ الأزل، وترك للإنسان المُزَوَّد بالعقل أن يبحث ويكتشف ويتطوّر، من دون أن تكون لديه القدرة على الخلق أي توليد شيء من لاشيء. لكنّهم في الآن ذاته، اتّبعوا في العلم القياس والتَّماثل، وأعدّوا القوائم والجداول التي تتّصف بالدقّة، كما تبدو في لوائح المسافات بين النجوم وفي تقسيم الدائرة… وكذلك في الطبّ، فقد حقّقت شعوب الشّرق خطوة نوعيّة تبدّت في مقاربة المرض. فبعد الطابع السحريّ الذي أرسى الإعتقاد بأنّ المريض هو خاطئ استولى عليه شيطان، وينبغي تلاوة الصلوات والإبتهالات لطرده من جسم المريض فيشفى، حصل التقدّم بأن راح التطبيب السحريّ يُخلي الساحة لتشخيص المرض بتصنيف دلائله وعوارضه، وبالتالي وصف الدواء النّاجع له.
وعلى صعيد الحكم، فقد كانت شعوب آسيا تعتقد بأنّ الآلهة يقرّون المَلَكيّة، فيفاخر الملوك بأنهم مختارون ينفّذون إرادة الأرباب. والمَلَكيّة تتدرّج في سلالات بمعنى أنها وراثية تنتقل بالضرورة من الملك الأب الى البِكر الوريث الشرعي للملك.
وهذا التّدبير لمّا يزل قائماً في عصرنا وفي بلدان عدّة. أما ما تجدر الإشارة إليه، على صعيد الحكم، فهو التدرّج من الملكيّة المُطلَقة اليَد الى نوع من ديمقراطية الصُّدفة، ويبدو ذلك في منصب الكاهن الأكبر الذي كان أساساً موظَّفاً ملكيّاً يختاره الملك نفسه، ثمّ أصبح يتمّ اختياره في ما بعد بالقُرعَة. بالإضافة الى الدَّور الذي كانت تلعبه الهياكل على مستوى استيفاء جزء من الضرائب وغنائم الحروب والغزو، حتى يحصل لها رأسمال ضخم تستثمره كما تفعل المَصارف في يومنا هذا، أو تقرض قسماً منه لملك متعثِّر نالت منه الضّيقة. هذا، ويُشار أيضاً الى القوانين والأنظمة التي كانت بمثابة شرائع عشوائية، وقد أصبحت تستند الى التفهّم والمنطق والعقلنة في التعاطي مع معادلة الحقوق والواجبات. ومنها نظام حماية العائلة وأرزاقها، والتنظيم الإقتصادي الذي لا يترك مجالاً لمفاجآت غير محمودة، والنصوص القضائية التي أرّخت للأحكام العادلة، ولا سيّما لتلك التي تتعاطى مع الجرائم التي تعرّض مرتكبيها لأقسى العقوبات.
إنّ الأحافير والنّقوش التي تمّ اكتشافها تعبّر عن الأهميّة الحضارية التي تجلّت في ماضي شعوب الشرق. وهذه تبيّن أيضاً مدى ما بلغته التجارة القديمة من نفوذ وتطوّر، من خلال قرار الإنفتاح بعدم الإنزواء داخل حدود مُقفَلة. فقد غصّت منطقة الشرق القديم بالأسواق، وراجت التجارة وزاولتها الشعوب بواسطة القوافل وغيرها من الأساليب التي عملت على التقاء الناس لتبادل المنتوجات والصناعات والبضائع والعلاقات. وفي هذا المجال، عرف الفينيقيون ازدهاراً تجارياً مرموقاً وأقاموا لهم أسواقاً تجارية مزدهرة في بلدان حوض المتوسّط وصولاً الى مضيق جبل طارق. لكنّ الّلافت في موضوع التجارة، بالإضافة الى فريضة المرور الإلزامية لاجتياز المناطق وخصوصاً الخَطِرة منها ( وهذا يُشبه الرسوم الجمركية اليوم )، وجود شركات تُمَوِّل المؤسسات التجارية التي تبتاع الأصناف ثمّ تبيعها وتُرجِع ما استَلَفت الى المُمَوِّلين مُحتَفِظَةً بالأرباح، وهذا يماثل أساليب التعامل المالي العصري.
بعد استعراض ما ساد من آفاق حضارية في منطقة الشرق القديمة، وما عرفته من تقدّمٍ طيلة حقبات زمنية متتالية، لا يمكن القول بأنّ أسلافنا المَشرقيّين لم يعرفوا سوى عوامل الإنحطاط والتخلّف. فقد نسجوا خيوط التقدّم والانتقال الى حيِّز الرقيّ الحضاري، بالرّغم من اقتران تاريخهم بالصراعات والدسائس ومنازعة المُغتصِبين. إنّ التاريخ لا يدوّن فقط أسماء مَن تولَّوا مقاليد السلطان، وكذلك حروبهم وحملاتهم وإباداتهم البربرية وعواقبها، بل ينكبّ أيضاً على تبيان انتقال المجتمعات في أطوار الحضارة التي تبقى وحدها الدليل الأكبر على أنّ الحياةَ وَجهتُها أماميّة دائماً.