المؤلف الموسيقي عبد الرحمن الباشا والأوركسترا الفيلهارمونية اللبنانية يضيئان ليل بيروت بمقطوعات موسيقية تمزج بين التصوف والكلاسيكية

لأنها بيروت المدينة الأحب إلى قلبه، يقدم المؤلف الموسيقي اللبناني عبدالرحمن الباشا أفضل ما لديه من فن ممزوج بشغف لهذه الأرض، في كل مرة يحيي حفلة فيها. وفي حفلته الأخيرة منذ أيام، برع في العزف على البيانو فأضاء ليل العاصمة إبداعاً بمرافقة الأوركسترا الفيلهارمونية اللبنانية بقيادة الموسيقي الشاب لبنان بعلبكي، واستمتع الحضور بمقطوعات من «كونشرتو رقم 2» لرخمانينوف، إحدى أشهر المقطوعات الموسيقية العالمية، فضلا عن ثلاث مقطوعات موسيقية من تأليفه مستوحاة من أجواء الشرق التصوّفية، من بينها: «جبل هيرا»، ومقطوعات لآلات وترية، وتأملات ميتافيزيقية في الصحراء حول الشر عند البشر والأمل والحب الكوني…

في بيروت مدينة طفولته ومراهقته تعلّم عبد الرحمن الباشا البساطة والإبداع، ومنها انطلق نحو العالمية. موسيقاه انعكاس لذاته من دون أي روتوش او تصنع، تضجّ بعواطف من الطفولة التي عاشها بكليته وتعايش مع الظروف التي كانت تارة سعيدة وتارة أخرى تعيسة، ما حرّضه على التعبير في فنه بانفعال وشفافية. في الموسيقى يسترجع طفولته، فضاء المشاعر بامتياز، باعتبار أن الأطفال يتحسسون الأمور أفضل من الراشدين، والفنان، بنظره، هو الذي يستثمر الناحية الطفولية فيه، ويحافظ عليها بصدق.

لغة تعبير خاصة

ينطلق عبد الرحمن الباشا في فنه من الثقافة اللبنانية التي تتميز بجمعها الثقافتين الشرقية والغربية. والدته المطربة وداد اشتهرت بأغانٍ شعبية كلاسيكية وعرفت كثيراً بأغنية «بتندم». وعندما يعود إلى بيروت تعيد هذه الثقافة التي تشربها منذ صغره، علاقته مع كل ما حدث خلال غيابه عن البلد على مدة أربعين عامأً.

يحدد الباشا الفنان بأنه من يتلقى الموجات الظاهرة والميتافيزيقية في الكون، يتأثر بكل ما هو حياة من حواليه، وينقل كل ذلك إلى فنه، من خلال تفاعله معه، ويسيطر على التقنيّة، ويختار لغة خاصة به قوامها الموسيقى والكلمات والألوان. عندما يمتلك هذه العناصر كلها، يكون فناناً شاملا، وحراً. وهو في هذه الناحية يلتقي مع الفنان اللبناني زاد ملتقى، ومع فرانك كوفسكي الذي كتب حول فن جون كولتران، عازف الجاز الشهير: «تواضعه ينمو بالتوازي مع عظمته».

عبدالرحمن الباشا

لا أحد ينطلق من لا مكان، يؤكد عبدالرحمن الباشا. الفنان هو قبل كل شيء، طفل مولود من أب وأم وليس خارجاً من فراغ، من عدم، الجميع يأتي من مكان ما، والجميع ولد في مكان ما، مثلا عمل بيتهوفن الأول، يجمع بعضاً من موزار، وبعضاً من هايدن، ومع الوقت وتراكم الخبرة، راح يعمل على صقل شخصيته وتعميقها، ما اكسبها قوة، إلا أن ذلك ليس أساسياً، بل الأساس أن يكون الفنان أصيلا، أي أن يعبر عن نفسه ويستوحي من الغير وليس البحث عن ملء الفراغ، بتقليد كل ما يصادفه يميناً أو شمالا.

ثمة ميزتان في الفن، الشفافية والسيطرة على الذات، في رأي عبد الرحمن الباشا، مع توافر الموهبة بالتأكيد، لا سيما بالنسبة إلى العازف الموسيقي. إذا لم يستوحِ الرسام مادة لرسمه لا يرسم، لكن العازف يفترض أن يقدم فناً في وقت معين ومكان معيّن، وأن يكون فاعلا في هذا الوقت، رغم انه قد يكون في هذا الوقت بالذات في وضع نفسي سيئ، كما حدث معه في إحدى حفلاته، إذ كان مصاباً بالحمى مع ذلك قدم حفلته ونجح فيها، يقينا منه أن على العازف الموسيقي أن يمتلك السيطرة على الذات وأن يؤدي بجسده وعقله وقلبه وشخصيته وثقافته.

صراع داخلي

يقال عادة عن الشخص الخيالي إنه فنان، لكن في عمل العازف المنفرد، ثمة نص وشركاء موسيقيون وأوركسترا، وعلى هؤلاء جميعهم توخي الدقة ليكونوا متحدين، والدقة تعني التحضير، إتقان العمل مع الحفاظ على الإلهام. بهذه الطريقة يبدع الفنان المنفرد، وهو ما يطبقه عبد الرحمن الباشا في فنه، جميل أن يكون الفنان في حالة إيحاء مستمرة، ولكن عليه أن يكون قاسياً مع نفسه، فالإبداع بالنسبة إليه يشبه وهج الليل، أو شهاب نور، طالما انه لم يبدع بعد يبقى في الظلمة، وعندما يبدع يصبح في الفجر.

ليس للعمر صلة بالإبداع بالنسبة إلى عبد الرحمن الباشا، ثمة فنانون أبدعوا بعمر 20 سنة و25 سنة وتراجعوا في ما بعد، وقد يواجهون ظروفاً تفرض عليهم التخلي عن فنهم، بدل المثابرة فيه، فيبرد الإبداع في داخلهم، ليس الفن بناء عقلانياً وغير انفعالي، بل هو عالم ضاج بالأحاسيس التي تتخطى المحسوس إلى اللامحسوس. يقول في هذا المجال: «فان غوغ انتحر لأنه فهم أن الموت عبور إلى الحياة الحقيقية التي هي وراء كل ما نشعر ونرى. باستطاعة كل شخص اعتماد اللغة التي تعبر عن آلامه، عن فراق الأحبة عن الأمور المـتأصلة في حالتنا البشرية. من المستحيل بلوغ سن الرشد من دون المرور بتجارب وتجاوزها بالفن وبالجمال خصوصاً».

يضيف: «بعض الأشخاص منذورون للفرح وآخرون منذورون للألم، تماماً كما لامارتين الذي يحوّل كل ما يراه ويعيشه إلى ألم، فيما موزار يحوّل كل ما يراه إلى فرح. يجبرنا موزار على البكاء معه لكن لينقلنا إلى النور. تماماً كما ثمة أرواح شابة هنالك أرواح عجوزة، وحسب طبع كل شخص يكون التعبير بالنور أو بالظلمة. عمل موزار هو نوارني في 90 بالمئة منه. تبقى الـ 10 بالمئة التي تجعل موزار هو موزار. عندما يبكي في موسيقاه الجنائزية أو في الحركة الثانية من كونشرتو 23، يجسّد ظلماتنا، فهو يشبه باخ وبيتهوفن وفان غوغ الذين يجسدون كل وفق أسلوبه الأوقات الأكثر ظلمة في الكون لأنهم قد يعطوننا مجالا لبلوغ الخلود بجمال أعمالهم».

يتقن الفنانون كيف يضعون في الضوء أوجه الإنسان كافة. هنالك صراع بين الحقيقة والشعر، الحقيقة والماورائيات، لذا يجد الفنان نفسه في مواجهة قاسية مع الواقع، بعد أن يكون في فضاءات سامية، إنه صراع داخلي مرير، حرب ضد العالم لاستعادة الفضاءات السامية، على هذا الوتر بالذات يؤلف عبد الرحمن الباشا موسيقاه ويعزفها ويبدع فيها.

نبذة

ولد عبد الرحمن الباشا عام 1958 في عائلة فنانين، فوالدته المطربة الشعبيّة وداد، ووالده المؤلف الموسيقي المعروف توفيق الباشا، الذي تتميز موسيقاه بالمزج بين الموسيقى الكلاسيكية والموسيقى الشرقية. في بداياته استهواه عزف الفنان عبود عبد العال على كمانه الشرقي، وطلب من والده أن يجلب له كماناً، بعد ذلك اتجه إلى البيانو، ومن خلاله تعرّف إلى الموسيقى الكلاسيكية، وعندما اكتشف باخ وموزار وبيتهوفن وشوبان، أدرك أنه اختار الطريق الذي يوصله إلى ما يصبو إليه من إبداع.

اترك رد