هل سترسو سفينتي عمّا قريب؟ هل سأجدُ لرحلتي خاتمة؟ هو نفسُ الغروب أسيرُ نحوه منذ زمن… أسير نحوه وأتركُ ورائي كثير الذكريات والأحداث… إنما لم يزل الغروب بعيدًا… لم تزل شمسُه الحمراء هناك… في أقصى الأفق… جميلٌ هو… يدعوني لأغتني به نظرًا وأرتوي به أملاً… إنما هو لم يزل بعيداً!
اليوم نظرتُ المياه من عُلا سفينتي… لا أدري لمَ؟ هو ربّما جوابٌ أبُلُّ به عطش نفسي لِلُقيا ذاتها… الجميل في المياه، هو أنكَ متى نظرتَها تجدُها تنظر إليك… تشتاق إليها فإذا هي في انتظاركَ… هي على اتساعها تريكَ ذاتكَ كما هي…
بسطتُ كفّيَ وافترشتهما من ثمّ بساطًا لذقني… وألقيتُ بصنارة عينني على المياه… فاستقرّت حيث بان وجهي وكأني بها مرآةً كبيرة تأبى إلاّ أن تُجلّ ناظرها أمرًا وطاعة. جُلتُ في حنايا وجهي المائجة على سطح المياه… ورحتُ أقرأ فيها ما فاتَ… ما أكثرها تلك القصص الواردة… وما أكثر تشعباتها تلك الأفكار الشاردة…
يا لوسع ما تستقرّ عليه عين الإنسان… ويا لشدّة ما تلقاه ذاته من أمور… جميعُها تكتبُ تاريخًا يبحثُ له دومًا عن معنى وعن قيمة… جميعها تتآلف ربّما لتصل بحاملها إلى مبتغاه… إنما لا يبدو أن لوصوله ميعادًا…
ما أحوج الإنسان إلى نومِ عقلٍ… ما أحوجه إلى ثُباتٍ يُغيم فوق رأسه فيمطره سكينةً وهدوءًا يفصل عواصف أفكاره بعضها عن بعض… ما أحوجهُ إلى بعض النسيان… إلى ممحاةِ ذاكرة… تروح وتجيء على بعض ما ألقته الحياة في مستوعب الرأس… فتفعل فيه فعلاً…
جلُّ ما يبتغيه المرء هو الراحة… إنما في أيّ شيءٍ يفعلهُ سيلقاها؟
هل في ماضٍ جميلٍ يُشبع النفس قناعةً أم في جوعٍ ينخرها نحو مستقبلٍ آتٍ؟
هل الراحةُ في التعلّق بالأمور أم بالتحرر منها؟
هل في عمل الصواب إرضاءً لهم أم في تصويب الأمور رِضًى للذات؟
هل هي في سكينة الحياة أم في مغامراتها؟
هل الراحةُ في النظر إلى الأمور أم في فعلها؟
هل في القول “حسنًا” أم في قولنا “لماذا”؟
هل هي في الحبّ أم في النجاح؟
هل في رضى الآخرين وتصفيقهم أم في تصفيق القلب لرضى ذاته؟
هل الراحة في فعل ما يجب أم هناك في الخيال والحلم؟
النفس تطلب الكثير… هي خُلقت لتفعل هذا… هي ربّما لن تستكين… ورحلتنا هذه لن تصل إلى يقين… الراحةُ الدائمة هي ربّما المطلب الخطأ… لم تُخلق لهذه الحياة…
الحياة هي نبض… هي دقات قلب منتظمةٌ حينًا تتسارع أحيانًا أخرى… الحياة لهفةٌ وشوق… هي أغنيةٌ بل أغانٍ عديدة… هي حفلٌ صاخب يضربُ بإيقاعه أساسات الذات…
الراحةُ لم تُخلق لهذا العالم… لم تُخلق لعالم الزمان… لم تُخلق دائمةً عالمٍ يسير على الدوام…
هي ربّما نسماتٌ خفيفةٌ تنسجها الحياة لفائفَ تلتفنا من حين إلى حين… إنما هي ليست دائمة…
وهذا عينُ القصيد… لا راحة… وهذا جدُّ مريح.
الراحةُ التي ننشدها لن تبدو حين نصلها كما لطالما أردناها….
الحياة هي في ما فات وفي ما سيأتي… هي في عقل يحشد لمعركة المستقبل وذاكرةٍ خُلقت لتحفظ حروب الماضي… الحياة جميلة… نعم هي هكذا… هي جميلةٌ بأخطائها وخطاياها… جميلةٌ بصفحاتها والوانها… جميلةٌ هي… في نغماتها… في الوجوه والأصوات… في كل شيءٍ هي… ونحن في كل شيءٍ نحيا ونجد الحياة…
تنتهي الرحلة حين تنتهي… وسفينتنا هذه، ربما لن ترسو أبدًا… أما الراحةُ فهي “الآن” في تلك الزاوية حيث نكون سعداء… حيث نكون أنفسنا… حيث نُعطى الفرصة لنغوص ونعانق أروحنا… الراحة ليست في الوصول… هي في تأمل غروب الشمس… هي في الطريق إليه…