(هي قصّة من نَسج الخيال)
على مَفرقٍ في عمري، تقاطعَت أيّامي مع تُحفةٍ نادرة اتَّقدَ فيها النّضج، وأذهلتني بذلك المَزجِ العجيب بين العَناء وانفعال الحنان. كانت ترفض أن تمنحَ حنانها يومَ أَحَد، فبينها وبينه احتكاكٌ وعدمُ تَدَرُّبٍ على الهدوء. لكنّ قَبولها بطاقات القَلَق لم يكن سوى مَزيدٍ من التَّعَب وضجيج الضّيق. والقلقُ هذا لا يُقادُ من خارج، بل من مَيلٍ في النّفس الى إتلافِ أيّ رغبةٍ في المُصالحة مع الخوف، ولا عَجَب، فطبيعةُ الهزيمة لا تلائم تُحفتي.
وفيما أنا أتقصّى تلك الغرائبيّة المُرَكَّبة التي ترفض رتابةَ الحُلول، انطلق في لاوَعيي صراخٌ مَكبوت أوقف الحرب بيني وبين ذاتي، وأرغمني على العبور الى الحِبر النَّابض بالأحلام، فرسمتُ بالأناشيد خارطةَ فردوسٍ كان مَنسيّاً في الجحيم.
لقد جعلتني التّحفةُ أجمعُ بين الإثمِ والبراءة، بين السّخط والحبّ النقيّ، وأنقذتني من طبائع البَشَر. وقد أحسستُ معها بصدق المرأةِ التي يمكنها أن تَجلوَ عن “شمشون” عارَ الضحيّة، فيتوبَ هذا الى الإخلاص من غيرِ نَدَمٍ على السُّم.
كانت التّحفةُ مُقيمةً فيَّ، مُلتَحمةً معي وكأنني أُعدِدتُ لها منذ الأَزل. وقد علَّمتني أن أَلعنَ القواعد واستعمارَ العقل، وأن أُطلقَ انفعالاتي على سجيَّتها، وأن أُسلّمَ القيادة للقلب الجدير بالعناية. وحدثَ التَّجاوز، فبعد زمنِ ركودِ الإبداع، تمَّ انعتاقي من عناصر الزّمان والمَطارح، فاستسلمتُ لِهواي وأحسستُ أنّ في يدي خزائنَ الأرض والسماء.
لقد بقيَت ظلالُ تُحفتي وارفةً على إبداعاتي، وقد رزقَتها رقّة الحسّ ورسمَ اليواقيتِ بالقَلم، وأقامت معها علاقةً كالخطيئةِ الأصليّة لا يمحوها حتى العِماد. ولَفَّت تُحفتي قصائدي بزنّار الحنان، وغلَّفَتها بوَرَق الشَّوق، لتكون دوماً مُحتَدَّة فلا تَهمد.
واستخدمَت محاصيلها في فَنِّ الحَنان استخدامَ الجواري للعُود في مجالس الطَّرَب، فعبَّأتُ رئَتَيّ من ملامِسها وكنتُ أتمنّى لو استعَرتُ رئةً ثالثة.
كنتُ مع تُحفتي كَرُوَّاد المعابدِ يُقبلون عليها بنفسٍ صافية قابلَةِ التأَثُّر، وهذا فِعلُ السِّحر. كيف لا، وهل السِّحرُ إلاّ نقلةً يتحوّلُ فيها الطِّينُ الى جسدٍ ينبضُ بالإحتراق؟ أو مارداً خرجَ من قمقمِه ونَطَق؟
وبعد أن تناهَت الى مائدتي أطباقُ الحياة، ومَسرَحتُ ذاتي من دون اصطناع، وتعرَّفتُ الى أصل العلاقة بالحقيقة، وأنّ الحَنانَ وحدَه الموجودُ بلا تَغَيُّر، زلزلَت تُحفتي وجودي ونقلَته الى بَلاط الزَّوال، وحملَت حقائب الأحلام الى سَفر الموت، ونقشَت على رخامة جثَّتي: أنا استعَرتُ حجَراً وحوّلتُه بقُدرة حَناني بَشَراً…. لكنني نَدِمت.