بقلم: أ.د. مها خيربك ناصر (الجامعة اللبنانيّة)
أولاً: فاتحة
ولأنها أنثى أسنِد إبداعها إلى مذكر فرض نفسه سيّد الكلمات…
ولأنّه الهو المؤلِّه ذاته، ولايرى مثيلاً له في فضاء البوح، فقصر الفعل الحداثيّ على ما توهّمه سفرًا مُنزلاً .
ولأنّ الفعل الحداثيّ حركة تمرّد لاهويّة زمانيّة أو مكانيّة لها…
ولأنّ الحداثة أنثى ترشح ريادة وفرادة وتمايزًا وحريّة تفكير…
ولأنّ حرية التفكير تستعصي على الاختزال، وعلى الإقامة في بيانات التذكير والتأنيث…
ولأنّ بيانات التصنيف غير المنطقيّة رسمت الأنثى العربيّة المعاصرة ضعيفة مستسلمة إلى روايات مفبركة أقنعتها بتفّوق هذا الآخر المذكر…
ولأنّ الله خلقنا من ذكر وأنثى وجعلنا شعوبًا وقبائل لافضل لأي منا على الآخر إلاّ بالتقوى والعمل الصالح….
ولأنّ العمل واجب، وكلَّ عمل صالح عبادة، والعملَ الصالح لا يقدّرُه إلا اللهُ ورسولُه والراسخون في العلم ” وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون”…
ولأنّها…. ولأنّه… ولأنّ …. مازالت المرأة العربيّة تجسّد حضورها عملاً فكريًّا، تتمنّاه أن يكون صالحًا متساميًا على التصنيف والتجنيس، وعملت على أن تصوغ هواجسها وأحلامها وتطلعاتها وآمالها ورؤاها صورًا مشحونة برموز ودلالات يتقمّصها جسدٌ لغويّ، قوامه كلماتٌ تعانقت وتعالقت وفق قوانين تشكيل لغويّة تضمن صحة المولود اللغويّ وقدرته على مدّ أظلة الضوء المعرفيّ.
استنادًا إلى فاتحة نجيد تلاوتها ونجهل دلالاتها، نحاول أن نقرأ حضور المرأة العربيّة على مستوى الساحات الثقافيّة والأدبيّة، فنتعرّف إلى دورها الرياديّ في حركيّة الحداثة الشعريّة، وإلى القيمة الفنيّة لشعر أبدعته المرأة/ الإنسان، بكلّ ما تحمل هذه الكلمة من حقائق تؤكّد أنّ الرجل والمرأة إنسان، وأنّهما يرتشفان ألفاظهما من معجم لغويّ عربيّ واحد، وأنّهما يوظّفان قوانين التشكيل النحويّة والبلاغيّة عينها، والتي تمنح النصّ العربيّ فرادته وتمايزه وريادته وسماتِه الحداثيّة، فارتبط التمايز بطاقات معرفيّة وثقافيّة وإبداعيّة بعيدًا من نظرية التجنيس الأدبيّة، وبعيدًا من إسناد إبداعها إلى آخر ينكر عدالة خالق أنعم على المرأة بالعقل والحكمة والقدرة على الاستشراف والريادة. فكيف يُنكر حضورها الإبداعيّ؟ وكيف مارست المبدعة العربيّة دورها الرياديّ؟ وما هو موقعها في حركة الحداثة العربيّة ؟ وما قيمة المنتج الشعريّ النسويّ على مستوى الترميز والدلالة والقصدية؟
ثانيًا: ثوابت ومعطيات
تشير الأعمال الفنيّة والأدبيّة إلى أنّ الحداثة فعل ولادة، وطاقة خلق وتجديد وتطوير، والخلق والتجديد ينبثقان عن أصل مؤسِّس، لأنّ الحداثة ارتباط بأصل سابق تتجاوزه بقدر ما تكون علاقتها بهذا الأصل علاقة تفاعل وخلق وتوليد، فلا حداثة شعريّة من دون أصل يضمن حضانة الرحم، وأصالة التشكيل الجينيّ، ليكون المولود قادرًا على الاستمرار في آتٍ يحرّض على التجاوز والتخطي.
يربط روّاد الحداثة الفعل الحداثيّ بالدعوة إلى الثورة والتمرد، لكونها، في رأيهم، تشكّل حدثًا جديدًا وحتميًّا تفرضه صيرورة الحياة. ولذلك نعتقد أنّ الحداثةالأدبيّة نوع من التمرّد على نسق ثقافيّ ما، وهذا التمرّد يهدف إلى البناء والتأسيس بقدر ما يهدف إلى الهدم والتغيير، والبناء والتأسيس يحتاجان ألى أصل ثابت وقويّ يكون منطلقًا لأيّ حراك فاعل غايته خلق مسارات جديدة ومغايرة وقادرة، في الوقت عينه، على الثبات والتوليد، ولذلك يرتبط نجاح التجربة بوجود حراك هادف قوامه فعل تجديد أدبيّ له منطلقاته الأساس، وطاقة انزياح عن المألوف.
يظهر التراث العربيّ أنّ قضية الانزياح ليست بجديدة على الثقافة العربيّة، فلقد تكلّم عليها الأصفهانيّ وابن قتيبة وطه حسين وغيرهم؛ لأنّ الشعراء العرب خرجوا على النظام العام المتعارف عليه، وكتبوا شعرًا مغايرًا من حيث الشكل والصورة والدلالة. ومما يذكره الأصفهاني في مؤلفه” الأغانيّ” أنّ أبا العتاهيّة كتب شعرًا خالف الأوزان المتعارف عليها، وعلّل خروجه على المألوف بقوله:” أنا أكبر من العروض” ، وكذلك أورد ابن رشيق في كتاب” العمدة” أنّ بعض الشعراء تحرروا من قيود القافيّة، وكشفت الدراسات، أيضًا،عن وجود شعر عربيّ تخطّى السنن التي كانت معهودة.
أعتقد أن معلقة عنترة تضمّنت دعوة إلى رفض الوقوف على الأطلال بقوله:” هل غادر الشعراء من متردم / أم هل عرفت الدار بعد توّهم” وأنّ شعر الصعاليك، أيضًا، كان خروجًا على المألوف، وكذلك كان شعرُ أبي تمّام والمتنبي وأبي نواس وغيرِهم من الشعراء الذين أغنوا التراث بتجاربهم الشعريّة، فعبّروا من خلال ما نطقوا به عن الذات الإنسانيّة الساعيّة دائمًا نحو كمالها، فرسموا حالات الصراع وأشكال الحزن والفرح، والانكسار والرفعة، والاستسلام والأمل، والضعة والكبر، وغيرها من حالات النفس البشريّة المتماثلة في كل زمان ومكان.
ليس من المنطقيّ ربط أيّ تغيير بفعل حداثي، لأنّ الفعل الحداثي، وفق قناعتي، مشروط بتحقيق الفرادة الإبداعيّة الموسومة بالسبق وبتكريسها أيقونة في عالم المثل الإبداعيّ، فيكون التوليد على مثالها مغايرًا من حيث الشكل والفعل الدلاليّ، ولكنّه لا ينقض تشكيله البنيويّ الأساس، فيسهم النسق الجديد في استمرار حركة الفعل الحداثيّ من دون أن يؤسس لحركة جديدة.
استنادًا إلى الفرضية السابق ذكرها، والخاضعة للقبول والرفض، يمكن القول إنّ الشعر الحداثيّ قوامه طاقة خلق وإبداع تمنح المنتج الشعريّ الحياة والاستمرار في الآتي، وبخاصّة ما جاء منه مخاطبًا الذات الإنسانيّة، ومعبّرًا عن آلامها ورؤاها وتطلعاتها وعلاقتها بالكون والحياة والمكان والزمان، فتكسب هذه الطاقة الشعر هويّة عبور تضمن حضورها وفعلها في فضاءات الفكر الحرّ، من دون إذن أوتأشيرة دخول، لذلك يجوز النظر في أيّ منتج إبداعيّ على أنّه خطوة في حركية حداثية لاتنتهي.
تقود الفرضيات والمعطيات الأدبيّة إلى الاعتقاد أنّ حركة الحداثة شارك في تفعيلها عدد من الشاعرات العربيّات، لأنّ شعرهنّ مايزال فاعلاً في حركيّة الشعر العربيّ، فالخنساء، في رأيي، أيقونة حداثيّة أضمرت الحريّة والكبر والإقدام والوعيّ الإنسانيّ وطاقات إبداعيّة قوامها لغة عربيّة متينة وقويّة رسمت صورًا مشحونة بالقيم والدلالات، فجاء بوحها الشكل الأرقى والأسمى لذات إنسانيّة جعلت من الشعر معراج خلاص. وكذلك كان شعر ليلى الأخيليّة ورابعة العدويّة وفدوى طوقان ونازك الملائكة، لأنّ شعرهن مايزال فاعلاً في حركية الشعر العربيّ.
تؤكّد الدراسات أنّ شعر الخنساء ورابعة وليلى وفدوى ونازك وغيرهن لم يُسند إلى آخر تفضّل عليهنّ وأعارهنّ كلماته ومن ثم استعادها ليسلبهن حقًّا مكتسبًا. ولقد ذهبت نازك الملائكة إلى القول بإنّها رائدة الشعر الحرّ وأنّ شعرها كان أسبق في الظهور على شعر السيّاب. فهل كان مفكرو الجاهلية وما تلاها من عصور ذهبيّة وغير ذهبيّة أكثر تحررًا من عقدة ذكوريّة تسعى إلى إقصاء المرأة المبدعة، اليوم، عن ساحات الفعل الحداثيّ؟
لا تعنيني هذه الإشكالية بقدر ما يعنيني موقف المبدعة العربيّة من نفسها ومن دورها الفكريّ والحضاريّ، هذا الموقف الذي صوّر المبدعة العربيّة عاشقة للشهرة والعالميّة والبروز الإعلاميّ، فكان التعويض عن الشغف بالحرير والمجوهرات بشغف آخر تختزله الرغبة في حضور إعلاميّ يكرّس شعرها أيقونة فنيّة من دون منازع، فكثر المضلِّلون والمضلَّلات، وتحوّل الفعل الرياديّ الحقيقيّ إلى فعل حضور إعلاميّ تشوّه بلغة الجسد الحريميّ، ما أقصى المنتج، وفق قناعتي، عن فضاء اللغة الشعريّة، بوصفها لغة بحجم التفرد والتمايز والخلق والاستباق، لغة قادرة على احتضان الرؤى المخصبّة بثقافة واسعة، وبرغبة في التحرر الفكريّ وليس الجسدي، وبوعي معرفيّ يرفض الإعادة والتكرار، ويدعو إلى تحطيم صنمية النسق، ومن ثم خلق أنساق جديدة ممهورة بالمتانة والقوة وحسن السبك والخروج على الجاهز والمهيّأ.
تكتظ الصحف والدوريات والمكتبات العربيّة بكلمات تنتسب إلى الشعر الحرّ الحداثيّ، ولكنّ الحداثة، في رأيي، لاترتبط بالشكل بقدر ما يرتبط بالمعاني والدلالات والابتكارات التي تجسّد تفاعل الإنسان مع الطبيعة ومع قضايا المجتمع والحياة والإنسان، وليست تصويرًا للطبيعة أو نقلاً مباشرًا للمرئيات، لأنّ عملية التفاعل فعل كيميائيّ وظيفته خلق الجديد والمغاير والذي يكسب الصور هويّة مميّزة، و طابعًا خاصًا، ويؤكّد أهمية تزواج الخيال الأولي والخيال الثانويّ، فتستمر حركة توليد الجديد والمغاير الموسوم بالغرابة، والمشحون بفيض دلاليّ وتوليديّ وقيميّ يجهل أساليب التضليل والتعمية.
مما لاشكّ فيه أنّ القصيدة الحداثية ليست كلامًا مبهمًا، وليست نوعًا من التعمية والصناعة اللفظيّة المتشظية دلاليًّا وقيميًّا وفنيًّا، بل هي نتاج فكر حداثيّ مثقل بثمار معرفيّة مفعّلة بطاقات إبداعيّة، وبنظام لغويّ منطقيّ، وبمعرفيّة برهانيّة، وبطاقة استشراف تحرّض على قراءة الآتي، وعلى رؤية ما لايرى، وسماع ما لايُسمع، فيأتي المنتج الشعريّ نابضًا بالمعرفة والدلالات، لكونه نتاج عقل مدرك ذاته، عقل قادر على التخطي والتجاوز، وعلى تكريس الفعل الثقافيّ/ الحداثيّ هويّة ذاتيّة يُعرف بها وتُعرق به، فهل حقّقت الأقلام الشعريّة المعاصرة تمايزًا تولّد عنه هويّات إبداعيّة توازي عدد الأقلام الساعية إلى تكريس نفسها حدثًا جديدًا على مستوى الخلق والإبداع؟
تؤكّد عملية رصد للواقع الثقافيّ العربيّ أنّ حياة الشعر مصابة بمرض الإدعاء والإلغاء والتقليد والضعف اللغويّ، فجاءت معظم الأجساد الشعريّة مفتقرة إلى لغة قادرة على توليد الرؤى، لأنّها غير مخصبّة بثقافة واسعة، أوبرغبة في التحرر، أوبوعي معرفيّ يرفض الإعادة والتكرار، ولأنّها، أيضًا، لاتدعو إلى تحطيم صنمية النسق، فنتج عن ذلك كلّه تراجع على مستوى النوعيّة، وعجز عن خلق أنساق جديدة ممهورة بإشارات إغراء، سواء أكان الشعر مكتوبًا بأقلام شعراء أم شاعرات، وبالتالي فإنّنا نحيل المشكلة على النقص المعرفيّ والضعف اللغويّ، وتراجع الفكر الإبداعيّ المتحرر من الجاهز والمُهيّأ، وليس على جنس القائل.
استنادًا إلى كلّ ماسبق يجوز القول إنّ الشاعرة العربيّة تصيب وتخطئ، تبدع وتقلّد، تتمرّد وتستسلم، ترفض الشكل وتنقاد، في الوقت عينه، إلى قيود افتراضيّة خارجيّة أو ذاتيّة تنأى بها عن حركة الحداثة الشعريّة، ليس لأنّها أنثى، وإنّما لكونها إنسانًا يحاول التعرّف إلى حقيقة الحياة والكون، وإلى ذاته العليا، ويفصح عن خيباته أو انتصاراته وعن عواطفه وهواجسه بألفاظ يمكن أن تنتظم شعرًا. وعملية الإفصاح تختلف باختلاف سعة الرؤيا، وباختلاف الموروث الثقافيّ واللغويّ، وباختلاف الوعي والنظرة إلى المرئيات بوصفها المختبر الأساس في انضاج التجربة الإنسانيّة، وتحويلها من حدث عابر إلى موضوع ذي قيمة، لذلك لايمكن تصنيف كل ماجاء تحت مُسمى الشعر الحديث بالشعر الرؤيوي والحداثيّ، لأنّ للحداثة شروطًا أهمها التجديد والفرادة واتساع الرؤيا.
ثالثًا: حداثة الشاعرة العربيّة بين الفرضية والبرهان
تؤكّد ماهيّة الثوابت والفرضيات أنّ الشعر الحقيقيّ ينطق بأسرار الأرواح المجنحة برغبة التلاقي الفكريّ/ الإنسانيّ، فيشكّل الشعر الإبداعي نقطة محوريّة تتلاقى فيها الرؤى في أجسادٍ نصيّة قوامها عناصر اللغة وقوانين تعالقها التي تحفظ سلامة البنيّة النصيّة، وتمنحها القدرة على رسم صور فنيّة مشحونة بفيض دلاليّ/ تأويليّ مرتبطة، حكمًا، بمعارف يقينيّة مقرونة بوعي ثقافيّ وحضاريّ وإنسانيّ.
تكشف الحركة الشعرية العربيّة عن ولادة مسارات موسومة بالإبداع، سواء أكان الإبداع تجديدًا على مستوى الشكل والبنيّ الخارجيّة، أم على مستوى اللغة الشعريّة وقيمها الفنيّة والجماليّة، لأنّ ” كلّ إبداع تغيير، أو دعوة إليه. وهو، جوهريًّا، صدقٌ” والصدق، في رأيي، جوهر أي ّ عمل فنيّ إبداعيّ وفضاؤه وروحه ومصدر قوّته وغناه وغرابته، لأنّه توأم الحقيقة، والحقيقة واحدة، غير أن النظر إليها موارب ومنحاز، لكونها مرتبطة بالجغرافيا والتاريخ والإيديولوجيا وبالثقافة والمعتقدات، وهذا يفرض على النظر المنحاز إنتاج تأويلات تؤكّد غنى النص الإبداعيّ وقدرته على الاستمرار في الآتي.
تنبئ حركة الشعر العربيّ عن حضور شاعرات عربيّات مبدعات رسمن بوح الذات الإنسانيّة صورًا نابضة بالتأويل، فكان شعر الخنساء أنموذجًا شعريًّا مشحونًا بصدق العواطف والمشاعر الإنسانيّة، لأنّها استطاعت أن ترسم بلغة شعريّة نزف جراح الفقد، وما صاحبها من آلام وانفعالات، معينها في ذلك نبل المشاعر وحريّة التفكير وقدرات لغويّة وغير لغويّة تضافرت في لحظة فذوذية خارجة على الزمان والمكان، فتجلّى الألم شعرًا موسومًا بالصدق وبحريّة التفكير والتعبير، وبعمق المشاعر الإنسانيّة المتماثلة في كلّ الأزمنة والأمكنة، فاكسبت شعرها حركة لاتنتهي، حرّكة تحرّض على الكشف المستمر عن الحقيقة التي احتجبت وراء ظاهر التراكيب، وعن الدلالات والمعاني الإنسانيّة التي فاضت بها لحظات الحزن والألم، فتجلّت الصور الأولى شعرًا غنيًّا بالإشارات والرموز والمعاني التي يمكن مقاربة بعضها من خلال قولها:
ما بالُ عينكِ منها دمعها سَرَبُ أراعها حَزنٌ أم عادها طربُ
أم ذكرُ صخرٍ بعيد النومِ هيّجها فالدمع منها عليه، الدهر،َ ينسكب
يرسم هذان البيتان لحظات توتر النفس الإنسانيّة الخاضعة لتجارب القدر واختباراته، بعيدًا من الدخول في تصنيفات التذكير والتأنيث، فالشاعرة تطرح أسئلة استنكاريّة تُضمر نوعًا من حوار بين ذاتي الشاعرة، الذات المستسلمة إلى حزنها وضعفها، والذات الواعية المحرّضة على محاولة التخفيف من شدة الحزن، فجاء كلامها بوح روح ترفض الواقع وتبتكر الأجوبة، فالفرح والحزن سواء، بالنسبة إليها، والنوم واليقظة نتيجتهما واحدة، فمن ينصح بنوم يمنح الجسد هدوءًا، فإنّ النصيحة غير مجدية لأنّ ديم الحزن تتجمع لتنسكب دموعًا بعيد نوم لم يخفف من عصف التذكر وألم صوره التي هيجّت حزنًا غيومه تنهمر دموعًا من دون توقّف.
تشير البنية اللغويّة إلى التوتر والانفعال المتجلي في تكرار حروف تضمر السؤال، وإلى نوع من التوازن بين الثبات والحركة فالجمل الاسميّة أربع جمل، وهي( مابال عينك- منها دمعها سرَب- ذكر صخر هيّجها- الدمع ينسكب”، والجمل الفعليّة أربع جمل، وهي(راعها- عادها- هيّج –انسكب)، وجاءت جملتان فعليتان محتويتين في جملتين اسميتين، لكونهما وقعتا في محل رفع الخبر، غير أنّ هذا التوازن بين الثبات والحركة انبثق عنه تعب تجلّى في تكرار حرف” الهاء” الدال على التعب تسع مرّات في سطرين تضمّنا اثنتين وعشرين لفظة.
أظهرت اللغة الشعريّة قدرة الخنساء على توظيف مخزونها اللغويّ والثقافيّ في رسم أثر الفقد على جسدها وروحها، وهذه القدرة تظهر، أيضًا، في قولها:
يؤرّقني التذكُّرُ حينَ أمسي فأصبح قد بُليتُ بفرطِ نُكس
على صخرٍ وأيّ فتى كصخرٍ ليوم كريهة وطِعانِ حِلسِ
يُذكّرني طلوعُ الشمسِ صخرًا وأذكره لكلّ غروب شمس
ولولا كَثرةُ الباكين حولي على إخوانهم لقتلت نفسي
وما يبكون مثل أخي ولكن أعزّي النفسَ عنه بالتأسي
فقد ودّعت يومَ فِراق صخرٍ أبي حسّان لذّاتي وأنسي
فيالهفي عليه ولهف أمي أيصبح في الترابِ وفيه يمسي
ترسم الخنساء في هذه الأبيات صورة فنيّة مشحونة بحسن السبك ودقته وبالجمال وعمق الدلالة، صورة ترتسم في وجدان كلّ من جرّح كيانَه الروحيّ مصابُ الفقد، فالحزن يؤرق ليلاً، والصباح لايجلب إلا الانتكاسات المتوالية، على الرغم من إدراكها أحقيّة الموت، وعلى الرغم من علمها المسبق أنّ الباكين على أحبتهم كثر، فتعلّل تجلبب روحها بأثواب الحزن بحقيقة تؤكّد أنّ من تبكيه ليس إنسانًا عاديًّا، إنّه صخر البطل والمثال والأخ، والذي يستحق الوفاء بقسمها الضمني والذي ينص على ابتعادها عن السعادة وعن ملذات الحياة، فكأنّها تنساق إلى لاوعيّ يرفض الاعتراف بوجود من نفتقد تحت التراب. وهذه إشكالية وجدلية لا يدركها إلاّ من خبر ألم الفقد والانتظار، فعبّرت عن مشاعر ملايين المحزونين والمحزونات ممن يرددون قولها تخفيفًا من وجع الحرق وألم الجمر، وهذا ما منح شعرها الاستمرار في كلّ حاضر وآتٍ.
استخدمت الخنساء مفردات بسيطة وأكسبتها إيحاءات وقيمًا دلاليّة صالحة للتعبير عن تجربة الفقد الوجدانيّة الثابتة من حيث قيمة الحدث، والمتمايزة من حيث فاعلية التلقي، فحافظت المفردات على معانيها المعجميّة، وأضمرت، في الوقت عينه، قدرة على الكشف عمّا انحجب وراء الظاهر المرئيّ ، فأقامت علاقة منطقيّة بين عناصر اللغة وقوانينها النحوّة والبلاغيّة، وبين الأظلة الدلاليّة المرتبطة بالضوء المعرفيّ. وهذا الضوء المعرفيّ يمكن أن نجده في شعر فدوى طوقان، فنقرأ على سبيل المثال صور قصيدة” في ضباب التأمل” والتي تكشف عن التوتر النفسي والانكسار، إذ تقول:
هذي حياتي خيبة وتمزّقٌ يجتاحُ ذاتي
هذي حياتي، فيم أحياها؟ وما معنى حياتي
وهنا شبابي مايزال يجوس قفرا بعد قفر
متحرّق أبدًا إلى شيء..إلامَ لست أدري
نفس تسائل نفسها في حيرة وتردّد
أيحسّ هذا الكون نقصًا حينما أخلي مكاني؟
عمرٌ نهايته خواء فارغ…مثل البداية.
تطرح فدوى طوقان أسئلة الإنسان الراغب في القبض على الحقيقة، فيقرأ نفسه على ضوء معادلات الوجود الإنسانيّة، فيبهره نور الحقيقة، ومن ثمّ يرتدّ إلى ذاته المحطمّة المنكسرة، الراغبة في معرفة ما وراء الحقيقة، يوصّفها، ويحدّد موقعه منها، ويطرح سؤالاً يضمر عجز الإنسان عن معرفة الحقيقة وقبولها، فالشاعرة ترسم صورة حزينة لحياتها، صورة يجتاحه الألم والحزن والخيبة والانهزام، لكونها تعكس حياة خاوية من المعنى، وشبابًا يفتقر إلى الخصب والحياة والاستقرار وإدراك الأسباب الكامنة وراء هذا العذاب والضياع والتصحر النفسيّ، ما يفرض حالة من الانفصام في نفس الشاعرة التي طرحت إشكالية أساسًا تختصر قلق الإنسان وسؤاله الأكبرعن موقعه وعن أهميته وعن دوره وأسباب وجوده، فتختزل في جملة السؤال الأكبر في تاريخ الوجود الإنسانيّ:” أيحسّ هذا الكون نقصًا حينما أخلي مكاني؟”، فمن منّا لايتساءل عن أهمية وجوده في متحد اجتماعيّ ما؟ ومن منّا يعلم ما يتركه غيابه من أثر؟
حاولت الشاعرة أن تجد جوابًا، غير أنّ الجواب لم يكن بحجم السؤال، لأنّ كلّ إنسان يعلم أنّ الخواء أصل يسبق الامتلاء، فالفراغ أصل والامتلاء تابع، فالبداية خواء من أيّ إضافة، والنهاية نقطة ارتداد إلى فراغ كنّاه، فكانت الأعمار محددة بين فراغين: “عمرٌ نهايته خواء فارغ…مثل البداية”.
تظهر هذه التراكيب الشعريّة رغبة الشاعرة في التنبيه إلى واقعها الإنسانيّ المؤلم، فوظّفت حرف التنبيه” الهاء” مفتاحًا تعبر به إلى تصوير حالة الانكسار النفسيّ التي تجلّت في تكرار حرف الياء الدال على الخفض والجر والانكسار والتأنيث.
يجسّد شعر طوقان، في هذه الأسطر قلق الإنسان وتوتره، وأسئلته وخوفه من أن يكون لاشيء بعد الرحيل، وهذا التوتر الداخليّ ظهر في شعر نازك الملائكة التي أنطقت شعرها حزنًا وأنطق الحزن مشاعرها، فخاطبت الألم في قصائدها، ومنها قصيدة ” خمس أغانٍ للألم” والتي أضمرت سؤالاً أزليًّا/ أبديًّا عن مصدر هذا الألم مذ كان إنسان، فتقول:
من أين يأتينا الألم؟
من أين يأتينا؟
آخى رؤانا من قِدم
ورعى قوافينا
أمس اصطحبناه إلى لجج المياه
وهناك كسّرناه بدّدناه فوق أمواج البحيرة
لم تبقَ منه آهة لم تبقَ عبرة
ولقد حسبنا أنّنا عدنا بمنجى من آذاه
ما عاد يلقي الحزن في بسماتنا
..
ثم استلمنا وردة حمراء دافئة العبير
أحبابُنا بعثوا بها عبر البحار
ماذا توقّعناه فيها؟ ..غبطةٌ ورضى قرير
وسقت أصابعَنا الحزيناتِ النغم
إنّا نحبّك يا ألم
من أين يأتينا الألم
إنّا له عطشٌ وفم
يحيا ويسقينا
يعكس خطاب نازك الملائكة القلق والتوتر، فهي تطرح أسئلة تضمر الشك والمعرفة، في اللحظة عينها، لأنّ الجواب المتوقّع يحتمل الصدق والكذب، والخطأ والصواب، فتحاول الشاعر أن تخفّف من توترها النفسيّ بتكرار العبارة” من أين يأتبنا الألم” غير أنّ التكرار أكّد قلقها وحزنها وألمها،فحاولت رسم صورة توحي بالقوة والانتصار على واقع مشحون بالألم، لأكنّها تعلن استسلامها لقدر جعل منها لسانًا ينطق بحقيقة الحزن، ويربط جياتها بماء وجوده.
تكشف هذه النماذج وغيرها من شعر المبدعات العربيّات أنّ الشاعرة العربيّة فرضت حضورها على الساحة الثقافيّة على الرغم من القحط والقمع ومحاولات الإقصاء والإلغاء، فأغنت التراث العربيّ، قديمه وحديثه، بنصوص شعريّة بديعة في شكلها ولغتها وصورها الشعريّة الغنيّة بالمعاني والقيم والدلالات، فتركت المبدعة العربيّة بصماتها على حركيّة الشعر العربيّ الحداثيّ، غير أنّ هذه الحركة أصيبت بالانحراف عن الدور الأساس، لأنّ بعضهم ربط الحداثة بالإيقاع والوزن والقافية، ولأنّ الكاتبة العربيّة اعتقدت أنّ الحداثة تكمن في انتاج الخارج على المألوف، فاستغلّت الكاتبة العربيّة خصوصيّة المرأة وجسدها، ووظّفتهما في تصوير المشاعر والأحاسيس بلغة إباحيّة مفرّغة من الحشمة والحياء، من دون أن تكون مراعاة لهيكل روحٍ هي من عند الله. فهل يجوز لنا تدنيس الكنائس والمساجد؟ كيف يجوز لنا، إذًا، تدنيس هياكل الروح؟
أغرق مفهوم الحداثة الخاطئ، بعض المنتج الشعريّ في مادية الصورة والتصوير، فنأى بعض الكتاب وبعض الكاتبات عن حقيقة الانتظام الحر للايقاع الداخليّ، ولم يكن انتباه إلى قيمة التكثيف التصويريّة، ولا مراعاة لدقة التقنيات الأسلوبيّة، ولذلك رُبط الفعل الحداثي بالخروج على الوزن والقافيّة، وبإنتاج الصور الشعريّة الإباحيّة، من دون أن يكون إدراك أنّ الفعل الإبداعيّ لايكون بالخروج على الوزن والقافيّة، ولا بصياغة الأشكال المغايرة المفرّغة من القيمة الفنيّة والجمالية، بل بلغة شعريّة تنبض بفعل حداثيّ متحرر من مادية التصوير وبشاعة الصورة.
إنّ الكلام على عجز بعض النصوص عن الانتماء إلى حركية الحداثة، لايلغي وجود عدد كبير من النصوص التي أكّدت أنّ الشعر هو بوح روح إنسانيّة تكتب وجعها ورؤاها وتطلعاتها وأحلامها نزفًا تُرسم أسرارُه صورًا لغويّة مخصّبة بالمعاني، وذلك من دون إقحام النصوص الشعريّة في قضية تجنيس الأدب، ومن دون إقحام المفردة العربيّة، أيضًا، في الإيهام والتضليل والتعمية، فكان للشاعرة العربيّة المعاصرة، ضمن هذا المعطى، دور بارز في تفعيل حركية الحداثة الشعريّة.
تقود الفرضية السابق ذكرها إلى معطيات تؤكّد أنّ المبدعة العربيّة تشارك في صياغة المشهد الثقافيّ بحضور فكريّ ومعرفيّ وقيميّ وإبداعيّ، غير أنّ هذا الحضور يُحاصر بمحاولات إلغاء وإقصاء غايتها التهميش والتقليل من قيمة الخلق الشعريّ الفنيّ الذي تصوغه المبدعة العربيّة، وذلك لأسباب كثيرة يمكن اختزالها بسلطة عقدة التفوّق الذكوريّة، أولاً، وبسلطة الشعور بالنقص التي تسيطر على الأنثى، فتفقد ثقتها بقيمتها الإنسانيّة والفكريّة، وتحيل ثقتها بنفسها على سماع الإطراء والمديح.
يحتضن الفضاء الإبداعيّ العربيّ المعاصر أصوات شاعرات مبدعات رسمن رؤاهن وأحلامهن وأفكارهن لوحات فنيّة خطوطها كلمات ملونة بقوانين التوليد والتحويل والبلاغة والفعل الإبداعيّ الذي لم تهزمه براكين الدعاية والوشاية والتضليل الإعلاميّ، فاستمرّ نبض البوح النسويّ يصدح بحقائق إنسانيّة، وبقضايا اجتماعيّة ووطنيّة وقوميّة، فكان من بين هذه الأصوات المبدعة صوت سعاد الصباح التي جاء شعرها أنموذجًا للهدم والبناء، ودعوة إلى تحطيم الصور النمطيّة للمرأة العربيّة ، وإعادة حضورها أنثى خالقة.
تمايزت لغة سعاد الصباح الشعريّة بالبساطة من حيث التوظيف المعجميّ، وبالخصب والغنى الفني والجماليّ، من حيث الصور واتساع ظلالها، ففي قصيدتها على سبيل المثال لا الحصر” كن صديقي” نعثر على مفردات قريبة المتناول، وتفيض جمالا وخصب تأويل.
كن صديقي.
كن صديقي.
فأنا محتاجة جدًا لميناء سلام
وأنا متعبة من قصص العِشق، وأخبار الغرام
وأنا متعبة من ذلك العصر الذي
يعتبر المرأة تِمثالَ رُخام
فتكلّم حين تلقاني…
فلماذا الرجل الشرقيّ ينسى،
حين يلقى امرأة، نصفَ الكلام؟
ترسم الصباح علاقتها بالرجل علاقة حتميّة وضروريّة، لكونها علاقة وجود فرضتها أنسنة الإنسان وحاجته إلى صديق مغاير ومكمّل، فربطت صورة الرجل في بدء الوجود بصداقة تحوّلت إلى ميناء عبور، ثم راحت الأنثى تبحث عن نصفها المكمّل الذي فقدته في رحلة خرافيّة كان هدفها الأمان، ولكنّها عادت منها بخسارة نصفها.
ترى الصباح أنّ الأنثى، في أصل الوجود، رمز للسلام، ثم تحوّلت إلى شيء مادي يُستخدم في عملية البناء والنحت والتزيين، يُفعل بها ولا تفعل، فنتج من ذلك كلّه أن وجودها انحصر في الكلام، والكلام غير اللغة واللسان.
تظهر قراءة سريعة لهذا الجسد النصيّ أنّه نصٌ غنيّ بصور تشع دلالات لاحصر لها، وأنّ الشاعرة أكثرت، من حيث تدري أو لاتدري، من تراكيب الإسناد الإضافيّة، ( صديقي- صديقي- ميناء سلام- تمثال رخام- نصف الكلام)، فكشفت القراءة اللغويّة المنطقيّة للصور أنّ الإشارات اللغويّة توحي بنظرة الصباح إلى ذاتها الأنثويّة وإلى الآخر/ الرجل،فعلاقتهما علاقة تلازم وإسناد، وليست علاقة تبعيّة، فهو المضاف الذي يكتسب التعريف من مضاف إليه ، هو الأمثى الشاعرة المبدعة.
عبّرت الصباح عن رغبتها في صداقة الرجل وفي منحه هويّة وجود تزيل عنه صفة النكرة، غير أنّ التراكيب أوحت بنظرة دونيّة إلى الرجل، لأنّها أسندت صفات الثبات والجمود والنقص إليه، فهو (صديق// ميناء// تمثال// نصف) ولا يدخل في متحد له دلالة من دونها ، فهي ( الأنا” ي” // سلام // رخام // الكلام)، وهي تمثّل الناطق الحكم الساعي إلى سلام يرفض تصوير الأنثى قطعة رخام.
تشير الصور التي يشكّلها الإسناد الإضافيّ إلى أنّ المفردات التي توازي حضور الرجل لاتمتلك وزنًا واحدًا وهذا إشارة إلى عدم ثبات الرجل على حال واحدة، في لاوعي الصباح، أمّا المفردات الموازية موقع الشاعرة فلها إيقاع واحد وتنتهي بحر الميم الدال على القوة، وعلى جمع الذكور العقلاء، فسلبت الرجل بعض خصائصه وأسندتها إلى ذات أنثويّة مبدعة.
يرسم التركيب الإضافي” نصف الكلام” صورة مكثفة الدلالة، ومن هذه الدلالات:
-الرجل نصف المرأة
-الكلام على المرأة كلام على الإنسان// المرأة والرجل
-ينحصر الكلام على المرأة بجانب ماديّ عاطفي
-صورة المرأة الحقيقيّة تبهر مادية الرجل العاجز عن اختراق باطن المعنى الأنثويّ المشحون بفيض من الدلالات، فيحيل عجزه عن إدراك نور الأنثى الحقيقيّ على ظاهر الصورة.
لم تكن نظرة مبروكة بوساحة إلى الرجل مماثلة نظرة سعاد الصباح، ففي قصيدتها، على سبيل المثال” أمل” ترسم علاقتها بالرجل علاقة حاجة قوامها التعاضد والتكامل، لأنّ لقاءهما ينهي زمن الوهم والحزن ولإقصاء والضياع، فتقول:
كنتُ وهمًا
كُنت أحلامًا حزينة
كنت آمالاً سجينة
كنت شيئًا مبهمًا
والتقينا يارفيقي
صدفة في ذا الوجود
التقينا
أيّها التائه مثلي
في دروب من ظلام
وشقاء وعذاب
خذ يدي وامدد يدك
وتعالَ ياصديقي
نهجرِ الدربَ الحزين
علّنا ننسى الأسى
علّنا ننسى الأنين
رسمت مبروكة الرجل رفيق درب وصديق حلم ومنقذًا من الوهم والحزن والقيود والضياع، ثمّ أظهرته ضحية من ضحايا الألم الضياع والشقاء والعذاب، ونظرت إليه على أنّه نصفها الثاني الذي وضعته الأقدار في طريقها، فكرّست مفهومًا عربيًّا سائدًا يضمر دور القدر في لقاء الزوجين، ولذلك تطلب من رفيق الدرب أن يسيرا معًا، فيتكامل دورهما، وينتصران على الحزن والأسى والأنين.
جاء خطاب مبروكة مشحونًا بالرغبة والرجاء والطلب اللين والحركة والأمل، فأكثرت من الأفعال الدالة على الحركة والتي جمعت فيها أنواع الفعل، أي الماضي والأمر والمضارع، ( 4″كنت”+ 2″التقينا” + خذ+ امدد+ تعالَ+ نهجر+ 2″ننسى”)، فكشفت أزمنة الأفعال }” 6 أفعال دالة على الزمن الماضي”و” 6 أفعال تشير إلى أنّ الحدث تمّ في الزمن الحاضر” { عن حالة نفسيّة متوازنة بين ماضِ مؤلم وحاضر مشفوع بالرجاء، فعبّرت عن ذات إنسانيّة تطمح إلى المصالحة مع الآخر ومع المعتقدات والقدر والحياة، غير أنّ هذه المصالحة لانجدها في شعر أمينة المريني التي ترسم حالة من الرغبة والتحدي والتشفي، في إيقاع داخليّ تموسقه لغة شعريّة غنيّة بالصور المنغلقة على كمّ من المعارف، وعلى وعيّ بدورها الأنثويّ وبطاقاتها وقدراتها، فتقول:
يبللك الجمرُ
ما أروعك
تًرى هل ترى
في عباب اللظى مرتعك؟
تنافر فيك اتحاد
الضحى والدجى
على أيُّها السرى
تشتهي مصرعك؟
….
تحب حبيبك في صفوة
شفيف الكؤوس
إذا أترعك
وتعبده في احتراق
الدوالي
إذا أظمأ القلب
أو جرّعك
توحي لغة أمينة المريني الشعريّة بالتخطي وبالتجاوز، وتنبئ بانفجار المكبوت الحي المتفاعل لا شعوريًّا مع العناصر الواقعيّة القابلة للتعبير، فاختزلت العبارة” يبللك الجمر. ما أروعك” صورًا ورموزًا وعناوين عبور إلى علاقة المريني بالآخر، فكيف يصير الجمر ماء يبلل؟ فهل الجمر هنا جمر العشق المتصبب ماء حياة؟ وهل الآخر هو المعشوق الأجمل؟
جاءت لغة هذا النص الشعريّة غنيّة بدلالات محتجبة وراء ظاهر الصور اللفظيّة المرئيّة، فأضمر النص رؤية صوفيّة تكشّفت من خلال ألفاظ تشير إلى الشوق وإلى الظمأ والمعرفة وارتشاف خمر الظمأ، فحقّقت التراكيب الوظائف النحويّة التي تؤديها أساليب الاستفهام والشرط، والتي كانت وسيلة إلى الاقتراب من نور المعنى الخفي.
تؤكّد لغة المريني وجود انسجام بين اللغة والرؤيا، فهي تمتلك رؤية خا صة ساعدتها على صياغة أفكارها في تراكيب لغويّة لها هويّة خاصة تؤكّد تمايز الشاعرة، وقدرتها على رسم صور تموج بدلالات الكشف وسيميائيات التجلّي، فصاغت علاقتها بالرجل هواجس ورؤى وخمر عشق صوفيّ.
فرض الصوت النسائي حضوره في الساحات الثقافيّة الأدبيّة، وجاء شعرها نوعًا من التمرد وخروجًا على جمودية المألوف، ومحاولة لخلخلة الثوابت غير المنطقيّة، فكتبت شعرًا للرجل الصديق والحبيب، وأجزلت له الأغاني، رغبة منها في تحقيق التوازن النفسيّ، فبرز الرجل في شعر الأنثى رمزًا للشريعة، وحبيبًا وصديقًا ورفيق درب بررت له منيرة سعدة خلخال مواقفه بلغة مكثّفة الدلالة، فقالت:
لم يكن ذنبه
حين تساقط ظلّه
عن جفون العراء
وفاض من علاه
الجفاء
يضمر شعر منيرة سعدة خلخال ثقافة تراثية، ومعارف لغويّة وغير لغويّة وظّفتها في عملية بوح شعريّ تمايز بتكثيف العبارة واتساع الرؤيا، فجاءت الصور مشحونة بالرموز والدلالات.
يمثّل شعر منيرة خلخال صوتًا عربيًّا مشحونًا بالرفض وبالدعوة إلى التمرد على أشكال القمع والإلغاء والإقصاء والتضليل الثقافيّ والوطني، فجعلت من شعرها أيقونة انتماء إلى المكان/ الوطن، وعبّرت عن قلقها وخوفها بحريّة ممهورة بوعيّ ثقافيّ وبانتماء أصيل تجلّى في دعوتها إلى إعادة الاسم الحقيقي لمدينتها، وفي تصوير قلقها على الوطن المهدد بالتمزق والسقوط، فتقول:
جدران بيتنا مبعثرة
ولا سقف لنا إلاّ الآه
فكيف أغمض عيني
عن سقوط كلّ السموات
وسقفنا مهيّأ لمزيد من التمزق
وجدران بيتنا مبعثرة
تظهر بنية الجملة اللغويّة تماسكًا على مستوى التركيب، وتوترًا وانفعالاً على مستوى الدلالة، فالشاعرة ترسم خوفها إخبارًا يقينيًّا،” جدرات بيتنا مبعثرة/ ولا سقف لنا إلا الآه”، ومن ثم تتمرّد على ثباتها ويقينها وتطرح أسئلة مشحونة بالشك والرفض والأجوبة ” فكيف أغمض عيني عن سقوط كل السموات”، فهي تدرك أنّ حدود الوطن وطاقاته تشكو التشظي، وتدرك، أيضًا، حالة الخواء والفراغ والانكشاف الأمني، فصارت الآه ملاذًا يُلجأ إليه.غير أنّ هذه الآه ليست قدرًا، فالعين الساهرة على أمن الوطن تعيد إليه وحدته، وتحميه من التمزق.
تكشف قراءة شعر منيرة خلخال عن نصوص شعريّة غنيّة بالصور الممهورة بالتكثيف الدلاليّ الجاجب نور المعنى، فجسّدت صورها الشعرية ظاهرًا لباطن يحرّض على التفسير والتأويل، من دون إمكانية القبض الكليّ على نور المعنى، لأنّ انكشاف المعنى يفرّغ الجسد النصيّ من لطف معناه، ولأنّ منيرة خلخال نفحت في أجساد نصوصها الشعريّة بعضًا من روحها الإبداعيّة المتسمة باللطف والشفافية، فلن تغيب كثافة الصورة، ولن تنكشف كليتها، فيبقى التكثيف الدلاليّ محرضًا على القراءة والتفسير
رابعًا: نقطة على سطر
ممّا لاشكّ فيه أنّ الشاعرة العربيّة أثبتت تمايزها الفكريّ، وأغنت التراث الأدبيّ بنتاج شعريّ ينبئ عن قدرتها على خلق أنساق تمنحها هويتها، وعلى التحرر من نمطية الصورة التي أطرتها شكلاً يوحي بالخلق والابتكار.
يعكس المنتج الشعري النسوي الإبداعيّ انقلاب المعادلة ، لأنّ المبدعة فرضت حضورها في حركية الحداثة الشعريّة وجودًا فاعلاً غير منفعل، وأكّدت أنّ الإبداع ليس حكرًا على صنف الرجال، بل هو نتاج عقل واع قادر على توظيف طاقات الإنسان الثقافيّة والفكريّة واللغويّة ومن ثم صياغتها بوحًا إنسانيًّا فاعلاً في كل زمان ومكان، وذلك وفق طاقات الخلق والابداع المتمايزة.
استنادًا إلى كلّ ما تقدّم يمكن القول إنّ نتاج الشاعرات العربيات المبدعات يضمر طاقة خلق مشحونة بالحريّة الفكريّة وبالثقافة وبالوعيّ السياسيّ والوطنيّ والقوميّ، وأنّ شعرهن ينبض بالرؤى وبالأصالة وبالانتماء وبالدعوة إلى العودة إلى التراث والإفادة من اللحظات المضيئة فيه، فيكون التأسيس لفعل حداثيّ يرتبط بالأصل بقدر ما يتجاوزه، أصلٍ لاينكر إبداع المرأة/ الإنسان، ويرفض كلّ ما أخبر عن… ولأنّه…
*************
(*) محاضرة ألقيت في المهرجان الثقافيّ الوطني للشعر النسويّ بولاية قسنطينة في دورته السادسة (5- 10 اكتوبر) حول” المرأة والحداثة الشعريّة” بإشراف وتنسيق محافظة المهرجان الشاعرة منيرة سعدة خلخال، ورعاية رئيس جمهورية الجزائر عبد العزيز بوتفليقة وإشراف وزيرة الثقافة ووالي ولاية قسنطينة. كرّم المهرجان في جلسة الافتتاح ضيفات الشرف بعد الاصغاء إلى شعر المكرّمات الواردة أسماؤهن على النحو التالي: الدكتورة مها خيربك ناصر (لبنان)، الدكتورة إنعام بيوض (الجزائر)، الأديبة نبيلة الخطيب (الأردن)، الشاعرة فوزية العكرمي (تونس)، الشاعرة إيمان عمارة (تونس)، الإعلامية القديرة نفيسة لحرش (الجزائر)، تغيّبت الشاعرة اعتدال ذكر الله من السعودية.
تضمّنت فاعليات المهرجان نشاطات فنيّة وثقافيّة ودراسات نقديّة وأمسيات شعريّة، في المسرح الجهوي لقسنطينة وقاعة المحاضرات الكبرى لجامعة الأمير عبد القادر للعلوم الإسلاميّة، وجامعة العربيّ بن مهيدي – أم البواقي.
يذكر أن دكتورة مها خير بك ترأست جلسة نقديّة شارك فيها أعلام في النقد العربيّ، وشاركت في المناقشات وفي وضع التوصيات، وأن لبنان يشارك للمرة الأولى في المهرجان.
كلام الصور
1- مها خير بك
2- فدوى طوقان
3- نازك الملائكة
4- سعاد الصباح
5- أمينة المريني