تشكل الانتفاضات التي اندلعت في بعض الأقطار العربية مرحلة جديدة في تاريخ المنطقة. لا يضير هذه الانتفاضات أن تكون قد آلت الى غير ما طمحت الشعوب العربية من قيامها. هي نقطة تحول في مجتمعاتنا، تنسمّت فيها الشعوب أملاً بالخلاص من نير الاستبداد والديكتاتورية، وهو شعور طبيعي بعدما ذاقت الشعوب العربية طعم التسلط والعسف، ووصلت الى مرحلة من الإحباط واليأس من العجز عن تغيير واقعها نحو الأفضل.
اذا كانت المراهنة على الخلاص من الاستبداد شعوراً طبيعياً دفع الكثيرين الى إطلاق مواصفات الثورات او الربيع العربي على هذه الانتفاضات، إلا أن ما لم يكن طبيعياً هو عدم التبصر في البنى المجتمعية التي تسقط عليها هذه الانتفاضات، وعلى انعدام القوى الحاملة لهذه الدفعة من التمرد على ما هو قائم، مما جعل من غير الطبيعي الانقلاب في التوصيف من «ربيع وثورة الى خريف وشتاء ومؤامرة خارجية»، وهو ارتداد دفع بقوى ونخب سياسية وثقافية الى العودة الى أحضان الأنظمة الديكتاتورية.
اذا كان من تلخيص لما أنجزته الانتفاضات العربية حتى اليوم، فيمكن القول انه يقع في باب الهدم الشامل لما حوته المجتمعات العربية، أنظمة سياسية وبنى حزبية وثقافة سائدة وأيديولوجيات عابرة. لا غرابة في هذا المآل الذي سلكته الانتفاضات وستسلكه في بلدان عربية أخرى. ليس في التحولات الكبرى التي عرفتها المجتمعات البشرية مساراً لا يبدأ بالهدم لينتهي بالبناء الجديد القائم على انقاض القديم. هدمت الانتفاضات من خلال النزول الى الشوارع والتجرؤ على المطالبة بإسقاط الأنظمة، السجون التي وُضعت فيها الشعوب. حطمت هالة الحكام وأذلتهم، وهو مكسب سياسي وسيكولوجي حققته الشعوب العربية المقهورة. كشفت هشاشة الثقافات السياسية السائدة والايديولجيات التي تربعت على عرش الحياة الفكرية، سواء أكانت قومية عربية ام ماركسية واشتراكية ام ليبرالية ام دينية. عرّت الأحزاب القائمة والمدعاة «تقدمية» وكشفت هزال برامجها وتقادمها وانفصالها وانفصامها عن الواقع.
في مسار الهدم الذي تحقق، لم يؤد مباشرة الى بناء الجديد الذي تطمح اليه الشعوب العربية. انتج هذا الهدم من الويلات ما لأحد له، وما لم يكن لأحد توقعه. لكن ما نتج من عملية الهدم لم يكن مؤامرة خارجية على ما يحلو للأنظمة ومثقفيها الأصليين او الملتحقين بها، بل كل ما نشهده من نتائج الانفجارات المجتمعية وما تولده من فظائع وموبقات، انما هو ما تحتضنه هذه المجتمعات في جوفها، وما راكمته على امتداد عقود من حكم الديكتاتوريات. اذا كانت الانتفاضات تحولت حروباً أهلية طائفية ومذهبية، فلأن كياناتنا بنيت وهي تحمل هذه الألغام في الأصل، كرستها أنظمة الاستبداد عبر الامتناع عن التسويات التي تحفظ حقوق المجموعات، فما إن أتيح لهذه المجموعات ارتفاع الغطاء عن الاستبداد، حتى انفجرت مطالبة بحقوقها بواسطة العنف.
واذا كانت الانتفاضات أعلت من شأن الإسلام السياسي بحيث سارع في كل مكان الى استخدام العنف من أجل الاستيلاء على السلطة، فإنما هذا ايضاً من نتاج التسلط من جهة، ومن الفشل في تحقيق مطالب الشعوب بالحرية والعيش الكريم، ومن العلاقة التي نشأت دوماً بين السلطة السياسية والمؤسسة الدينية، بحيث تعطي هذه الأخيرة المشروعية لقرارات السلطة السياسية، فيما تبيح هذه المجتمع لرجال الدين وثقافتهم وهيمنتهم على المجتمع. واذا كان هناك من يتفاجأ بصعود التنظيمات الإسلامية المتطرفة من قبيل «داعش» وأخواته، فإنما يجب الإدراك أن هذه التنظيمات هي الإبن الشرعي للأنظمة الديكتاتورية قبل الانتفاضات وبعدها. وقد جرى استخدامها لضرب الانتفاضات نفسها وإلصاق تهمة الإرهاب بها.
يبدو المشهد الراهن الذي آلت اليه الانتفاضات مدعاة للتشاؤم وانسداد الأفق. ليست هذه النظرة وحيدة الجانب. فعملية الهدم التي حصلت جعلت من المستحيل العودة الى الماضي كما ساد قبل الانتفاضات، وهذه نقطة مهمة. في المقابل، من يقرأ التاريخ سيرى أن عملية الهدم على المستوى الوطني والبنى المجتمعية لا تستتبعها بالضرورة ومباشرة ولادة القوى البديلة، من سياسية وفكرية وثقافية واقتصادية… في كل المراحل والتحولات التاريخية، هناك مخاض محكوم بالفوضى والعنف والضياع، وأحياناً عودة قوى الاستبداد نفسها الى السلطة… لكن هذا المسار يحمل في جوفه ايضاً بدائله التي تختمر وتنمو بما يسمح لها لاحقاً بإزالة ما تكون الحروب الأهلية قد سببته من دمار في البشر والحجر.
لن يطول الزمن كثيراً على المجتمعات العربية لتشهد تحولات إيجابية، فما نراه من صعود اليوم لقوى هجينة ومتخلفة، رسمية وغير رسمية، انما هو في الوقت نفسه تعبير عن هزيمتها واستحالة نجاح مشاريعها. فالهدم الجاري هو مفتاح التحولات نحو الحرية والديموقراطية وحقوق الإنسان.