… وكانت حال الله مع العالم قد ابتدأت بوِفاق، الى أن أُعلنَت الأَحكام العِرفية على المرأة في أزمنةٍ ذَلول، وانتهت الحال بشِقاق. فقد أَحجم الله عن تزيين الأرض والسموات كلّ يوم بِلَون جديد، وما عاد ينفخ من روحه فيمن اصطفاهم للإحساس والبيان، فما بقيَ الإبداع أداةً تُعرِب عمّا تريد القدرة أن تصوِّر به محاسن هذا الوجود.
لبيبة هاشم صاحبة الفكر التنويري، كانت قضية المرأة أَنضَجَ ثمرة في نتاجاتها ونضالها، وقد جعلت دفاعها عن المرأة سجيّة فُطِرت عليها منذ أن أُلقِي بها في هذا العالم. فوَجدُها الدَّفين الى فَكّ أغلال الظّلم، نال من مِبضع التَّنكيل بالمرأة الشرقية، ودعا الى حقِّ تَشارُكها مع الرَّجل في وقاية القَدْر ومَنار الإسم وعِظَم المِزية وأَزيَن الأوصاف، ما يحوطها بالإنصاف وحظّ الكرامة. ولأنّ فساد الزّمان كان عظيماً في هذا الأمر، ذلك ما حدا بلبيبة الى سؤاله متى كان صالحاً ؟ لقد امتنعت عَين هذه المرأة عن الغَمض في مسألة المرأة، فبدأت معركةَ نزاع حول فكرةٍ هي الحقّ، أو بالأحرى توحيد الحقّ بين أصحاب الوداعة والرقّة وبين الفُحول المُتَشَبِّثين عنوةً بالسيطرة والتغلّب. وهكذا، انضمّت لبيبة الى منتدى الأديبات العربيّات، وبينهنّ مي زيادة، اللواتي حَملنَ لواء نُصرة المرأة الشرقية القويّة الرّوح والمَهيضة الجناح، وهنَّ غيرُ مُفترِيات على مَن استَطعَموا النَّيل منها.
لبيبة هاشم لم تقف بعيداً عن قلبها في ما كتبَت، ولم تخلع نفسها عند أبواب الزمان وما طوى من أسباب النَّعيم. لقد صوّنت نفسها وأسرفت في التصوّن، إن كان في التصوّن إسراف، وكأنها انحازت الى عزّة النفس التي صيَّرتها لها سُلَّماً، فإن كان الهَوان مَشرب النّاس فنفسُ الحرّ تحتمل الظَّمأ. من قلب هذه القناعة التي تمظهرَت في حياة لبيبة، أفصحت في أقاصيصها ومقالاتها عن صُوَر النّفس الإنسانية التي تختزن ما يطيف بها من أغراض وأفكار وآمال، بعيداً عن ضروب الفُتون ومطامع الأهواء. وهكذا تيسَّر لها أن تنجح في نَقل آرائها الى الأذهان، هي التي تَعلم أنه لا يمكن أن ينتقل عِلمٌ الى ذهن آخر بمجرّد القول والصفة.
كانت لبيبة هاشم أول مَن أسّس مجلّة في الشَّرق العربي مُتخصِّصة بشؤون المرأة، وهذا يستوجب حماسةً واستعداداً بَالغَين. وكان لها في هذا الفصل فضلٌ بانت دلائله في مجلّتها ” فتاة الشرق ” التي أضاءت، وبنَفَس موضوعي، على شنيع الأخطاء وقبيح الأغلاط التي نالت من المرأة على مَرّ الأزمنة، كما سجّلت الغَدر الذي طاولها وكأنها لا تُنسَب الى آدم. فقد قاست هذه الشرقية من عُبوس المجتمع وجَفوة أهله، ما دفع لبيبة الى القول بأنّ المجتمع الذّاهب عن الحقّ هو ذاهِلٌ عن الرّشد. من هنا، كان كلامها ليس من جنس كلام الرِّجال، إذ خالفت ما درجت عليه الأقلام من حيث المُحتوى والمرمى، لكنّ أحداً لم يستطع أن يمنع ما تطرَّقت إليه من دلالات واضحة مُبينة، فهي لم تعبد الشيطان في نُصرتها المرأة، كما أنها لم تصدر من موقع الضديّة للرَّجل بهدف تبديل المَواقع، فهي موضوعيةٌ لم تخاطب الرِّجال وكأنهم الآثمون وقد أُلقِيَ بهم في نار جهنّم.
لبيبة خطيبةٌ لبيبة وبريئة من عوارض اللّبس، ابتعدت عن الغُلُوّ والإغراق، فاعتلت المنابر دفاعاً عن حقّ المرأة في التعليم والعمل، ودعت الى تعزيز وضعها في عالمنا العربيّ كونَها النّصف الإنسانيّ الذي تسري عليه حتماً، كما الرَّجل، معادلة الحقوق والواجبات وشرعة العدالة والمساواة. إنّ عمل لبيبة في النّطاق التربوي المُطَعَّم بعِلم الإجتماع، ذهب بها الى اعتبار تثقيف المرأة وتنويرها ليسا نادرة بل توصية، والتَّوصية حِمل ثقيل في مجتمع تقليديّ يودِّع الحقُّ فيه الحقّ. غير أنّ الله جعل لبيبة أَثقلَ الناس حِملاً، فقرنت الإقدام بالوعي ليجيء كلامها النَّضِرُ بالخَير، بما يحمل من سموّ المعنى وقوة الرّوح، يؤثِّر في المجتمع تأثيراً بليغاً.
إستغاثت لبيبة هاشم من نهج العالم المُتراخي في القضية الفلسطينية، وقلقت من عدم الجديّة في التعاطي مع ملفّ هذه المسألة العربية المركزية. ولأنّه لا يمكن أن يُجزى إحسانٌ من إساءة أهل السّوء، أشارت لبيبة بوضوح الى ما ينطوي عليه المشروع الصهيوني من أهداف عدائية مُدمِّرة، تنشط الى إنشاء وطن قومي لليهود على أرض فلسطين. فما كتبَتْه في هذا المَنحى يوازن بين الكآبة والقالب الثوري، فقد خَشيَت أن يشهق أبناء قومها من كآبتها، لكنها قصدت أكثر الى أن يرى الصهاينة ثورتها القويّة القوائم. هذا المزاج الإنتفاضوي المُسلَّح بشعور قوميّ راقٍ، نسجته لبيبة من انكبابٍ على ارتياض العصف الرَّفضوي الذي لا يستقرّ في النفس والذّهن إلاّ بطول المُلابسة. أمّا تنديدها بأهداف الحركة الصهيونية فأتى في وقت مُبكر، يستنهض همّة الذين يرتبطون بالقضية العربية الأمّ، ويحوّل التردّد بين الخير والشرّ الى شأنٍ جَدّي، ويرسل الى العالم أنّ هدم بنيان هذه الأمّة صعب.
لبيبة هاشم التي غرسَت فيها الحضارة الغربية غُروسَها، كانت عن حقّ نموذجاً فريداً وفاضلاً للمرأة العربية، وصاحبة تراث رياديّ بما تتمتّع به من عقلٍ طليق وإحساس حيّ ووجدان حرّ. لقد كانت أوّل مَن نادى، وبلسانٍ مُبين جريء، الى إنشاء جمعيّات غير نظريّة، تهتمّ بشؤون المرأة العربية. فنعيم هذه المرأة كما تراه لبيبة، ولو طال انتظاره، هو في بَوار الجهل وكساد الظّلم وانخفاض البَراقع، كما في الزَّواجر والمَواعظ ليفيء الشَّرق الى ما فقده من اعتدال المزاج والطريق في نظرته الى المرأة، فتنقلب معاملته إياها مناغاةً هي أندى على الفؤاد من مغازلة الوَرد. وليس هذا لأنّ المرأة ” إمرأة “، بل لأنّ لها دَوراً طليعياً إلزاميّاً في تقدّم الأوطان، ولأنّها متساوية فيزيولوجياً مع الرَّجل في القوى العقليّة، بحسب تعبير قاسم أمين في كتابه ” المرأة الجديدة “.
في الأدب، لم تَشِح لبيبة عن الشّعر، فوضَّبت له حديقة لم تكن كثيرة الفواكه، ولكنْ في الشّعر لا يُخشى العَدد، فورقاتُ الورد خِفافٌ على الطَّفح، والأقلامُ المُبدِعة لا بدّ من مكانها في زحمة المُنشِئين. لقد التزمت لبيبة في مَقطوعتَيها القليلتَي الأبيات بقيود الرزانة وأغلال الوقار ولفحات الرومنطيقية، فتسربلت برقّة الحسّ ودقّة الذّوق، والحسُّ والذَّوق يستحيل صَبغُهما. أما العَوَض فكان في القصّة والرواية، واللّتين أثبتت لبيبة فيهما حضورها المميَّز وإمساكَها بتقاطيع النّفس وشَرَهَها الى الإبداع، ولا سيّما في روايتي ” قلب الرَّجل ” و”شيرين”. ومهما قيل عن ضَلِّها القصدَ في القَصّ، ولا سيّما القصد التأريخي، غير أنّ لبيبة الروائيّة كان لها في شعاع الرقّة مَنفذ، وفي نور البيان نور، وهي في هذا المجال أَدرَبُ من كثيرين حسبوا أنّ زهرَهم تفتَّح وضاع عبقُه، وهم من غير المُستَطعِمين.