توجد عدة قراءات للجسد منها فسلجية وظيفية، ومنها اعتبارية معنوية، وهذه القراءة تخط لنفسها طريقاً خاصاً فهي تركز على جواب سؤال لِمَ ؟ وهي تتناول بعض رموز الجسد الرئيسة.
تجيب هذه القراءة عن أسئلة :
لِمَ كان الرأس واحداً ومكانه الأعلى؟
ولِمَ صار القلب واحداً ومكانه الصدر؟
ولِمَ هناك لسان واحد أو مخبوء تحت فكين وشفتين؟
ولِمِ كانت في الجسد عينان؟
ولِمَ كان في الجسد أذنان وفم واحد؟
ولِمَ كان في الجسد رجلان وهما في الأسفل ويدان وهما في الجزء الاعلى؟
ولِمَ كانت لأداة الأعضاء التناسلية واحدة عند الذكر والانثى وهي في هذا الموضع بالذات؟
لا إشكال في أن هناك جواباً غيبياً تولته الآية الكريمة “تبارك الله احسن الخالقين”، كما أن هناك جواباً علمياً يتعلق بالدور الوظيفي، إلا أن هذه القراءة تذهب عميقا في التأويل الذي اتمنى أن يكون مفتاحا لوقفة تأمل في البعد الحسي للذات.
يرمز الرأس إلى الفكر والوعي والرأي، ويرمز القلب إلى الإيمان والاعتقاد والإحساس، ويرمز اللسان لحكاية الذات وخطابها. وفي كل هذه الموارد لا يمكن تصور التعدد، فهو تشتيت للذات وعلة فيها، ولذا فإن أي تشظي في تلك الموارد المشار إليها تعني بالتبع تشظي للذات وانكسار لها. وقد كان للوعي والرأي موضع الهيمنة من الذات وعلى نتاجها، كما ان للرأس رمزية الشخوص الإشاراتي الذي يتلائم مع كونه في اعلى الوجود الحسي. وفي هذا الرأس عينان لهما مساحة من الإحاطة لاطراف المشهد الحسي، لأن احادية النظر تنتج الصورة الناقصة التي تغيب جزءاً من الواقع الذي بطبيعته أن يكون ذا حدين في أقل حدود تمظهراته.
وكان للجسد فم واأذنان وهي علاقة وظيفية يشير بعدها الرمزي، إلى ضرورة أن يكون الاستماع ضعف الحديث في اقل صورة مقبولة ،كما ان محاور الاستماع ذات بعد منفتح يتوجه لكلا الاتجاهات بخلاف الفم الذي يتأكد بعده الموجه للمخاطب .
وفي سياق هذا التأويل أشير الى حالة غريبة حقق جزء منها هذا الفضاء المباح المتاح، فالكل يتحدث وقليل من يسمع ويصغي، فهناك تخمة في حجم ما ينشر وهو مجرد كلام وكلام وكلام، ويقابله ضعف في الإصغاء والاستماع، فضلا عن الاستيعاب والوعي، وهي دعوة لمزيد من الإصغاء والاستماع والوعي والتدبر، والحد من ركام الالفاظ الفارغ من المحتوى والدلالة. وقد شد الخالق على اللسان بشفتين وفكين حبسا له وتقليلا لشرور فعله وتحجيما لأثره، ودفعاً للمفاسد التي يمكن أن تأتي من وراء انطلاقه وحريته.
وكان للقدمين والساقين وهما يتحملان ثقل الجسد وعواقب أفعال أجزائه العلوية فكراً وموقفاً وإحساساً وإيماناً وقولا وخطابا، فصارت محل الاستناد والثبات وموضع التحمل وفي ذات الوقت موضع الاستقرار والطمأنية، واشارة إلى الفعل الانساني على الجغرافية الذي يشكل التاريخ، ويخلق الحضارة. كما ان مقياس الهمة في الحركة للوصول إلى المقاصد والمبتغيات.
وقد كانت اليدان في هذا الموضع من العلو للاحاطة والسيطرة ورمز القدرة المستجيبة عن قرب لمنطلق الإيمان والإحساس وحاكمية الوعي والعقل وهيمنة الرأس، وأن قدرتها لتناول البعيد عن الجسد ووصولها السلس، بخلاف باقي الاعضاء يرسمان حدود امتدادات الجسد اي الامتدادات خارج الذات، ولكن هذا الامتداد محكوم بسلطة العقل والقلب وببصيرة العين واشارة اللسان.
وقد كانت اعضاؤه التناسلية واحدة وهي اشارة الى وحدة هذه العلاقة، وإن تعدد مناشئها يضعها في صورة مبعثرة او على الاقل مختلفة متباينة، كما انها انعكاس للقلب والعقل والذات، وهي خيار يعرض به الجسد في المواجهة ولا يليق به المجانبة والمظاهرة، كما انه في موضوع يتوسط الارتكاز والثبات ومنطقة القرار والفكر والاحساس، ويكاد يكون المنتصف الذي يتقاسم كل الوجود فيكون موردا لتبادل خلاصة الذات في اخص منطقة تصلح للوصل والتكامل في حالة كانت فيها الثنائية كالاأحادية.
ان هذه القراءة التدبرية هي نحو من الاخلاص لذواتنا، وشعور بقدسية وجودنا الحسي الذي قد يتنصل او يترفع عنه بعض من يقرأ رسالة الإنسان في هذا الوجود بشكل منقوص وبفهم أعور.