“وَجَعُ العُبُور”  

   (قِراءَةٌ في كِتابِ “وَجَعُ العُبُورِ إِلى النَّصِّ الآخَرِ” لِلأَدِيبِ الدّكتُور يُوسُف عِيد)

وُجِدَ النَّقدُ مُذْ بَدَأَ الكائِنُ النَّاطِقُ يَتَفاعَلُ مَع بِيئَتِهِ المَحدُودَةِ وأَخِيهِ الإِنسان. ويَومَ راحَ يَبُثُّ مَشاعِرَهُ شَذَراتِ وَجدٍ وتَصَبٍّ ومُعاناةٍ، مِن غَزَّارَةٍ مَبرِيَّةٍ، على وَرَقَةِ بَرْدِيٍّ، أَو رَقٍّ مَشغُولٍ، أَزهَرَ الشِّعرُ والأَدَبُ، ونَما التَّحاسُدُ، فَنَتَجَ النَّقدُ فِجًّا، شَخصانِيًّا، في بِداياتِهِ، ثُمَّ أَغَذَّ في مَسِيرَةِ التَّطَوُّرِ إِلى أَمكِنَةٍ أَجدَى، وأَصفَى، وأَنصَف.

وفي بِيئَةِ الضَّادِ نَما وتَطَوَّرَ مُتَوازِيًا مَعَ مُجْمَلِ الآداب.

مِنَ الجاهِلِيَّةِ حَتَّى العَصرِ الأُمَوِيِّ، كانَ انفِعالِيًّا في مُعظَمِهِ، أُفُقِيًّا في رُؤْيَتِهِ، إِجمالِيًّا في تَقرِيرِهِ، فِيهِ لِلهَوى الشَّخصِيِّ اليَدُ الطُّولَى.

ومَعَ الأَعصُرِ العَبَّاسِيَّةِ صَلُحَ النَّقدُ إِلى حَدٍّ، فَتَوَشَّحَ بِبَعضِ العِلمِيَّةِ، والتَّخَصُّصِيَّةِ، مَع عَبدِ القادِرِ الجَرَجانِيِّ في كِتابِهِ “أَسرَارُ البَلاغَةِ ودَلائِلُ الإِعجازِ”، والعَسكَرِيِّ صاحِبِ “الصِّناعَتَين”، وغَيرِهِما.

وفي عَصرَي النَّهضَةِ الأُولَى والثَّانِيَةِ، وبَعدَ كَسادٍ مُمِيتٍ في عَصرِ الانحِطاطِ، بَدأَ النَّقدُ يَتَّخِذُ مَساراتٍ أَكثَرَ صَرامَةً مع اليازِجِيَّينِ ناصِيف وإبراهِيم، والبَساتِنَةِ، ومارُون عَبُّود، ومِيخائِيل نُعَيمَة، وصُولًا إِلى نَقدٍ أَكادِيمِيٍّ صارِمٍ يَتَّسِمُ بِالسَّبرِ المُمَنهَجِ لِلنَّصِّ المَدرُوسِ، مع أَدُونِيسَ، ورَئِيف خُورِي، وجابِر عَصفُور، ومُحَمَّد بُرادَة، وخالِدَة السَّعِيد، وكَوكَبَةٍ أُخرَى مُجاهِدَةٍ، مَبرُورَة.

واليَومَ، في خِضَمِّ المَعمِيَّاتِ والطَّلاسِمِ والمَتاهاتِ الَّتي تَنهَمِرُ عَلَينا في السَّاحَةِ الأَدَبِيَّةِ، وفي غَيهَبِ لُغَةِ النَّقدِ الحَدِيثَةِ، وفي انحِرافاتِ بَعضِ المَدارِسِ الجَدِيدَةِ عَنِ الخَطِّ الجَمالِيِّ البَدَهِيِّ في الكِتابَةِ، وفي صَخَبِ “بُرجِ بابِل” النَّقَدَةِ، وفي تَخَبُّطِ أَقلامِنا العَرَبِيَّةِ عِندَ تَدَبُّرِ تُراثِنا المُتَطاوِلِ عَبرَ قُرُونٍ، تَبرُزُ الحاجَةُ مُلِحَّةً إِلى إِضاءاتٍ تَكشَحُ بَعضَ الحُلكَةِ، وتَقُودُ القارِئَ المُتَعَثِّرَ في دُرُوبٍ تَزايَدَت فِيها مُفرَداتُ النَّقدِ وتَفاقَمَت، فَخَبَت أَنوارُها، وتَعاظَمَت أَشباحُها.

ويُطِلُّ عَلَينا النَّاقِدُ الشَّاعِرُ، والأَكادِيمِيُّ المُتَمَرِّسُ، الدُّكتُور يُوسُف عِيد، في كِتابِهِ الجَدِيدِ المُفِيدِ “وَجَعُ العُبُورِ إِلى النَّصِّ الآخَرِ”، و”الجُرحُ مَفتُوحٌ، ومَواسِمُ الحَكِّ في الأَوجِ” (ص 199)، بارِعًا بِتَزوِيدِنا آلِيَّةً سَهلَةَ المُتَناوَلِ، وَضَّاحَةَ الإِرشادِ، ثَرَّةَ المَردُودِ، لِلعُبُورِ في النَّصِّ المُتَلَبِّدِ بِمُكنَةٍ تُحِيلُهُ إِلى “النَّصِّ المُرِيحِ”، بِالأَقَلِّ مِنَ الوَجَعِ، وتَقطِيبِ الغُضُونِ، والُّلهاث.

د. يوسف عيد

وهُوَ، بِدُربَتِهِ المَعهُودَةِ، يَتَجَلَّى، غِبَّ كُلِّ شَرحٍ لِنَظَرِيَّةٍ ما، أُستاذًا كَبِيرًا مُحايِدًا، يَعرِفُ مَكامِنَ التَّساؤُلاتِ، وأَلَمَ الضَّياعِ، عِندَ مُتَلَقٍّ مُرتَبِكٍ، طالِبًا كان أَو رائِدَ ثَقافَةٍ وأَدَب. فَيُشِيرُ بِالإِصبَعِ المُضِيئَةِ إِلى السَّبِيلِ المُمَهِّدِ لإِدراكِ النَّظَرِيَّةِ وتَمَثُّلِها تَمَثُّلًا صَحِيحًا، مُدَعِّمًا القَولَ بِقُطُوفٍ مُلائِمَةٍ استَلَّهَا مِن إِبداعاتِ أُدَباءَ وشُعَراءَ مِن كُلِّ الاتِّجاهاتِ والمَدارِس. وهُوَ، في هذا، لا يُغالِي بِتَكدِيسِ الأَمثِلَةِ تَوَخِّيًا لإِكثارِ الصَّفَحاتِ، تارِكًا لِلنَّهَلَةِ عَطَشَ السُّؤَالِ، وشَهوَةَ البَحثِ والتَّنقِيبِ والاستِزادَة.

وقَد أَحاطَ بِمُصطَلَحاتِ النَّقدِ الهامَّةِ، تَفصِيلًا حَسَنًا، وتَبوِيبًا عِلمِيًّا، وأَغناها بِالنَّماذِجِ، والشُّرُوحِ الوافِيَةِ، ما يَروِي أُوارَ طالِبِ التَّثَقُّفِ، ويُشَكِّلُ زادًا دَسِمًا وَفِيرًا لِرُوَّادِ الاختِصاصاتِ الأَدَبِيَّةِ، وطالِبِي الرِّفدِ في مَعمَعانِ الحَقلِ النَّقدِيِّ الشَّائِك. فَمَن أَمَضَّتهُ، تَمثِيلًا، تَعَابِيرُ مِن مِثلِ التَّناصِّ، والمَناصِّ، والمُتَناصِّ، والمِيتانَصِّ، والنَّصِّيَّةِ بِفُرُوعِها، والبَينَصِّيَّةِ، والتَّضامِّ، والسَّبكِ، والانزِياحِ، والمَحوِ، والتَّوازِي، والإِحالَةِ، وغَيرِها مِن هذه المَعزُوفَةِ العَبُوسِ، نُحِيلُهُ إِلى هذا المَرجِعِ الوَقُورِ، فَفِيهِ النُّجعَةُ، وفِيهِ المَلاذ.

وقد أَولَى مُصطَلَحَ “التَّنَاصِّ” أَهَمِّيَّةً كُبرَى في دِراسَتِهِ. ولا غَرْوَ في هذا، فالتَّناصُّ سِمَةٌ لَصُوقٌ بِالأَدَب. وهَل لِكاتِبٍ أَن يَتَجَرَّدَ مِن كُلِّ المُؤَثِّراتِ، ومِن مَخزُونِهِ المُتَراكِبِ عَبرَ قِراءاتٍ طَوِيلَةٍ، قَد تُظَنُّ مَنسِيَّةً، أَحيانًا، حِينَ هي مَصُونَةٌ في خِدْرِ العَقلِ الباطِن؟ وقالَها صاحِبُنا: “والكاتِبُ يَسرِقُ مِنَ الآخَرِينَ حَتَّى لَو لَم يَقصِد ذلك” (ص 17).

وهَلِ التَّناصُّ، ولَو كان لاشُعُورِيًّا وغَيرَ مُتَكَلَّفٍ، إِلَّا مَتْحٌ مِن مَعِينٍ واحِدٍ هو الذَّاتُ البَشَرِيَّةُ وقد انداحَت على القَراطِيسِ عُصاراتٍ مُبارَكَةً لِعُقُولٍ شَعَّت مَدَى الأَزمِنَة؟

نَعَم… وقالَها بُول ﭭـالِيرِي (1871-1945 Paul Valéry): “لَيسَ الأَسَدُ إِلَّا خِرافٌ عِدَّةٌ مَهضُومَة”!

وقد أَلمَحَ كاتِبُنا إِلى هذا فَقال: “النَّصُّ الجَدِيدُ هو إِعادَةٌ لِنُصُوصٍ سابِقَةٍ لا تُعرَفُ إِلَّا بِالخِبرَةِ والتَّدقِيق” (ص 19). وقد أَورَدَ ما جاءَ على لِسانِ النَّاقِدَةِ البَلغارِيَّةِ جُوليَا كرِيستِيـﭭـا (Julia Kristeva, née 1941): “لا يُوجَدُ نَصٌّ جَدِيد” (ص 17)، و”كُلُّ نَصٍّ هو عِبارَةٌ عَن فُسَيفِساءٍ من الاقتِباسات” (ص 19)، وعلى لِسانِ النَّاقِدِ الكَنَدِيِّ نُورثرُوب فرَاي (Northrop Frye، 1912-1991): “الأَدَبُ دَوَرانٌ بَينِيٌّ مُغلَقٌ للنُّصُوص” (130).. ولا نَنسَى أَنَّ جاحِظَنا كان له السَّبقُ بِقُرُونٍ حِينَ أَشارَ مُخَصِّصًا الشِّعرَ، والقَولُ يَنسَحِبُ على مُجمَلِ الفُنُون: “المَعانِي مَطرُوحَةٌ في الطَّرِيقِ، يَعرِفُها العَرَبِيُّ والأَعجَمِيُّ والبَدَوِيُّ والحَضَرِيُّ، وإِنَّما الشِّعرُ صِياغَةٌ، وضَربٌ مِنَ التَّصوِير”. كما وصاغَها، شِعرًا، كَعْبُ بنُ زُهَير بنُ أَبِي سُلمَى، ولو نُسِبَ البَيتُ إِلى أَبِيهِ، حَيثُ قال:

“ما أَرانا نَقُولُ إِلَّا مُعارًا               أَو مُعادًا مِن قَولِنا مَكرُورا”.

ومِن هُنا، قَد تَكُونُ الحُلَّةُ الجَمالِيَّةُ، وبَلاغَةُ التَّعبِيرِ، المِعيارَ الرَّئِيسَ في تَقيِيمِ النَّصِّ الأَدَبِيِّ، ومِحَكَّ جُودَتِهِ، إِذا اعتَبَرنا أَنَّ الأَفكارَ تَتَكَرَّرُ وتَتَناسَخُ عَبرَ العُصُورِ بِحَيثُ يَتَضاءَلُ فَضلُ ابتِداعِها. وقالها غوستاف فلُوبِير (Gustave Flaubert) يَومًا: “إِنَّ بَيتًا مِنَ الشِّعرِ جَمِيلًا وخالِيًا مِنَ المَعنَى هُوَ أَرفَعُ وأَفضَلُ مِن بَيتٍ يَعنِي شَيئًا ويَقِلُّ عَن الأَوَّلِ جَمالًا”.

وقد حَدَّدَ أَدِيبُنَا عُدَّةَ النَّاقِدِ المُفلِحِ بِتَمَلُّكِهِ “العُمقَ الثَّقافِيَّ، والحِسَّ الذَّوقِيَّ، والتَّربِيَةَ الجَمالِيَّةَ، والمَعرِفَةَ الاجتِماعِيَّةَ، والقِراءَةَ النَّفسِيَّةَ، والحَصانَةَ العَقلِيَّةَ، والغِنَى الفِكرِيَّ، والتَّعبِيرَ السَّلِيم” (ص 198)، فَأَصابَ الحَقِيقَةَ، ولَم يَترُك زِيادَةً لِمُستَزِيد.

لَم يَفُت كاتِبَنا الحَصِيفَ ثِقَلُ القارِئِ في مِيزانِ ما يَقرَأُ فَقال: “إِنِّي أُؤمِنُ بِالعَلاقَةِ المُتَبادَلَةِ بَينَ القارِئِ والنَّصِّ، بِحَيثُ يُنظَرُ إِلى القِراءَةِ بِما هي فَعالِيَّةٌ تُعِيدُ كِتابَةَ النَّصِّ المَرصُودِ لذلك” (ص 14).

لقد كانت رَميَتُهُ صائِبَةً، فالقارِئُ، في مَواضِعَ مُختَلِفَةٍ، مُشارِكٌ في النَّصَّ، ومُؤَوِّلٌ إِيَّاهُ على مَرايا ذاتِهِ الَّتي تَعكِسُ “أَنا” الآخَرِ على الـــ”أَنا” الشَّخصِيِّ، لِتَستَجلِيَ، في التَّجرِبَةِ المَرئِيَّةِ، زَوايا وأَركانًا مُشتَرَكَة؟

ثُمَّ أَلَيسَ الوِجدانُ المُفرَدُ لَبِنَةً في هَيكَلِ الوِجدانِ الجَمعِيِّ الَّذي هو أَساسٌ لِكُلِّ إِبداع؟

ولكنَّهُ يَقُولُ أَيضًا: “الحُكمُ بِالجَمالِ هُو حُكمٌ حَدْسِيٌّ” (ص 80). والشِّعرُ، يا أُستاذَنا الكَرِيمَ، “جَمالٌ قَبلَ كُلِّ شَيءٍ”، كما رأَى أَنطُون قازان. لِذَا وَجَبَ الحُكمُ في الشِّعرِ، بَداءَةً، على الحَدْسِ والذَّوقِ والتَّحَسُّسِ والانفِعالِ، أَللَّهُمَّ إِلَّا أَن نكونَ على جَفاءٍ مع الحَرفِ، وعَداءٍ مع الرِّقاع.

ويُضِيف: “الشِّعرِيَّةُ حُكمٌ عِلمِيّ” (ص 80). أَفَلَيسَ هذا إِسرافٌ في التَّزَمُّت؟ أَكانَ المُتَنَبِّي أَكادِيمِيًّا تَمَثَّلَ القَواعِدَ العِلمِيَّةَ جَيِّدًا قَبلَ أَن يَنظِمَ دُرَرَه؟ ثُمَّ هَل كان شكسبِير مِن كِبارِ الأَساتِذَةِ المُنَظِّرِينَ حين خَرَجَ بِآلائِهِ الخالِدات؟ وشاعِرُنُا الياس فَرحات الَّذي كان أُمِّيًّا، فَتَدَبَّرَ أَمرَهُ بِأَمرِهِ حتَّى تَوَصَّلَ إِلى “فَكِّ الحَرفِ”، ثُمَّ شاطَ في قَواعِدِ اللُّغَةِ، ولكن لَيسَ إِلى بَعِيدٍ، أَفَنُحاسِبُ جَمالِيَّاتِهِ الشَّجِيَّةَ، وأَبياتَهُ البِللَّورِيَّةَ، بِمِيزانِ الأُسُسِ العِلمِيَّةِ الصَّمَّاء؟

وإِذ يَتَكَلَّمُ على أَحَدِهِم في مِضمارِ الشِّعرِ يقول: “… وعلى الرُّغمِ مِن ذلك لم يَستَطِعِ التَّحَرُّرَ مِن بَعضِ الفَواصِلِ الإِيقاعِيَّةِ المُتَشابِهَة…” (ص 108).

فَيا أَدِيبَنا، بِاللهِ عَلَيكَ.. هَل باتَ الإِيقاعُ، والجَرْسُ المُوسِيقِيُّ عُبُودِيَّةً تَستَدعِي جِهادًا في سَبِيلِ التَّحَرُّر؟ فَسائِل نَفسَكَ، كما يَجدُرُ بِنا كُلِّنا أَن نَفعَلَ، هَل وَعَت حافِظَتُها نُبذَةَ شِعرٍ تَتَرَنَّحُ مِنها، وتَسكُنُ إِلى دِفئِها، لم يَكُن عِمادُها الأَساسُ رَنِيمًا كَوَسوَسَةِ الحِلَى على نَحْرٍ كَالجَمْر؟

وَقُل لي، بِرَبِّكَ، مَن بِيَدِهِ الحَلُّ والرَّبطُ لِيُفتِيَ الشِّعرَ في صَوابِيَّةِ التَّفَلُّتِ مِنَ الإِيقاعِ، أَو شَطَطِه؟ فَلا نَقطَعَنَّ بهذا الشَّأنِ، ولا نُقَعِّدَنَّ الشِّعرَ أَو نُؤَطِّرَنَّهُ، ولا نَضَعَنَّ لَهُ النَّواهِيَ، أَو نُؤَسِّسَنَّ لَهُ المَساراتِ، وَلنَدَعَنَّهُ لِلشَّاعِرِ لِسانًا لِهَواجِسِهِ ولَواعِجِهِ، يَبُثُّها كَيفَما شاءَ، وفي أَيِّ رِداءٍ كان، شَرِيطَةَ أَن تَأتِيَ في مَوكِبٍ إِمامُهُ الجَمالُ وكاهِنُهُ الباطِنُ السَّلِيم.. إِنْ هُوَ إِلَّا حَمامٌ طائِرٌ في جَلَدٍ أَزرَقَ لا يَتَخَلَّى عَن هَدِيلِهِ الشَّجِيِّ، وهُوَ الحَياةُ بِكُلِّ ما فِيها مِن عُمقٍ وصَوتٍ ولَون. “هو اللُّغَةُ الَّتي تُضاءُ بِالحَياةِ، أَو هو الحَياةُ الَّتِي تُضاءُ بِاللُّغَةِ”، كما جاءَ على لِسانِ الشَّاعِرِ بِيتَر بُورتر (Peter Porter, 1929 – 2010). والإِبداعُ لا شَكلَ مُحَدَّدًا لَهُ، هو إِبداعٌ فقط. فَبِحَقِّ الرُّواءِ، والبَهاءِ، والصَّفاءِ لا نَظلِمَنَّهُ فَتِيلًا!

بَيْدَ أَنَّ صَدِيقَنا العَرُوفَ يقول: “إِنَّ التَّفكِيكاتِ المِيكانِيكِيَّةَ لِلنُّصُوصِ الشِّعرِيَّةِ تُعَطِّلُ الحَواسَّ كُلَّها”. صَدَقتَ وأَصَبتَ كَبِدَ الحَقِيقَةِ، فَالعُمقُ الشِّعرِيُّ هو تَجرِبَةُ رُوحٍ، وأَرَقُ جُفُونٍ، وسَهَرُ قَنادِيلَ، لا يُدرَكُ بِمُعادَلاتٍ جَافَّةٍ مُحَنَّطَةٍ قد تَزِنُ الغَثَّ والسَّمِينَ في مِيزانٍ واحِد. فَتَقيِيمُ العَمَلِ الأَدَبِيِّ يَبدأُ بِتَلَفُّعِ إِهابِ مَن كَتَبَ، ويَستَقِيمُ في الوُلُوج خَلِيَّةَ المُبدِعِ القُصوَى حَيثُ تَفاعَلَتِ الأَحاسِيسُ، وتَمَخَّضَتِ الجَوارِحُ، وتَمَزَّقَتِ الأَورِدَة، فَوُلِدَتِ الصَّبِيحَةُ الهَيفاء.

ثُمَّ هَل يَتَخَلَّى النَّاقِدُ الأَرِيبُ، إِزاءَ عَمَلٍ ما، عَن نَظرَتِهِ الذَّاتِيَّةِ، وانطِباعِهِ العَمِيقِ، وَدَهشَتِهِ أَمامَ مَفاصِلِهِ الوَهَّاجَةِ، كَرْمَى لِمَقايِيسَ عِلمِيَّةٍ جافَّةٍ بارِدَةٍ مُؤَطَّرَة؟

وقالها الفَيلَسُوفُ الإِيطالِيُّ كرُوتشِه (Benedetto Croce, 1866 – 1952) يَومًا: “على النَّاقِدِ أَن يَقِفَ أَمامَ مُبدَعاتِ الفَنِّ مَوقِفَ المُتَعَبِّدِ، لا مَوقِفَ القاضِي، ولا مَوقِفَ النَّاصِح”.

ولقد دَلَّلَ صاحِبُنَا، في تَناوُلِهِ اليَسِيرِ لِبعضِ الشِّعرِ في مُؤَلَّفِهِ، على أَنَّهُ نَقَّادٌ بَصِيرٌ لا يَفُوتُهُ ما وَراءَ الأَكَمَةِ، وَيَكشِفُ البَراقِعَ عن بُؤَرِ الجَمالِ المُتَوارِي في السُّطُورِ، وخَلفَ الكَلِم. وتَظهَرُ دِرايَتُهُ أَكادِيمِيًّا وهو يَجُسُّ في النَّصِّ الماثِلِ بَينَ يَدَيهِ دَلالِيَّتَهُ وبَلاغَتَهُ، ويَتَحَسَّسُهُ بِشَغَفِ الشَّاعِرِ الرَّقِيقِ الَّذي تَتَناغَمُ نَفسُهُ الشَّفِيفَةُ مع نَفسِ مُبدِعِ النَّصِّ، وتَتَسَرَّبُ مَسامُّ شِعرِيَّتِهِ في مَسامِّ الآخَرِ، ولا “وَجَعَ في هذا العُبُورِ”، لأَنَّ رُوحَهُ وكُلَّ رُوحٍ مُبدِعٍ مِن سَدِيمٍ واحِد. وهَل عَجَبٌ، وبَراعَةُ الأُستاذِ الكَبِيرِ تَرفِدُها حَساسِيَّةُ الشَّاعِرِ المُرهَفِ اللَّمَّاحِ، ما يُوائِمُ البَلاغَةَ، والبَيانَ الصَّبِيحَ، مع الحِسِّ الجَمالِيِّ الخالِصِ، وتَفَلُّتِ الوِجدانِ مع هَوَى الجَوارِح. إِنَّهُ حَقًّا إِبنُ بُجْدَتِها، ويَعرِفُ جَيِّدًا “مِن أَينَ تُؤكَلُ الكَتِف”.

وحينَ يَتَكَلَّمُ في الصُّوفِيَّةِ، جامِعًا أَربابَها بين أَطرافِ مَقُولِهِ، نُدرِكُ طاقَةَ هذا المُفَكِّرِ المُحِيطِ، إِذ يَغُوصُ في قَرارَتِها كاشِفًا دُرَّها، مُنسَرِبًا في ثَنِيَّاتِها، مُتَمَزِّزًا خَمرَها، مُستَغرِقًا تَسابِيحَها، مُتَنَعِّمًا بِفَيضِ اللهِ وبَخُورِهِ، مُتَمَسِّحًا بِجِلدِهِ الطَّهُورِ، فَنَخالُهُ آنَئِذٍ واحِدًا مِن مُتَزَهِّدِيها العِتاقِ ولو لم يُدَبِّج في التَّصَوُّفِ مَقاماتٍ وابتِهالات. وهو إِلى هذا، راسِخُ الفِكرِ، ثاقِبُ التَّأَمُّلِ، سَحِيقُ الأَغوارِ، يُدرِكُ، أَحيانًا، أَبعادًا في القَصِيدَةِ الماثِلَةِ بَينَ بَنانِهِ، قد لا يكونُ وَعاها مَن سَكَنَتهُ فَدَبَّج.

يُوسُف عِيد!

بِعُبُورِنا مَعَكَ “أَضَأْتَ حَدْسَنا والقَلبَ” (ص 217)، وحَمَّلتَنا زادًا، يُضافُ إِلى ما في جِرابِنا، “لِقِراءَةٍ مُتَفَهِّمَةٍ لِنَسِيجِ المَعرِفَةِ الشِّعرِيَّة” (ص 217). وإِنَّ مُحاوَلَتَكَ في تَبسِيطِ أُسُسِ النَّقدِ، وتَولِيفِها لِلأَذهانِ، وتَجمِيلِها لِعُقُولٍ تَرمُقُ القِمَّةَ بِشَغَفٍ وهي ما تَزالُ في السُّفُوحِ، لَمُبارَكَةٌ، وجَدِيرَةٌ بِأَن تُصَدَّرَ في مَحافِلِ السَّراةِ، لِأَنَّها تُساهِمُ في إِزاحَةِ شَيءٍ مِن غُمَّةٍ تُدَثِّرُ فَنَّ النَّقدِ الجَلِيلِ الَّذي قالَ فيه النَّاقِدُ الفَرَنسِيُّ رُولان بَارت (Roland Barthes, 1915 – 1980): “النَّقدُ تَشوِيشٌ، ودراما لِلحَواسِّ، وانفِعالٌ، وإِثارَةٌ لِلمَشاعِرِ، بِحَيثُ يَتَحَوَّلُ الإِبداعُ إِلى فَيْضٍ مِن الحِوارِ، والتَّحرِيضِ بين النَّاقِدِ، والقارِىءِ، والمُؤَلِّف”.

وقد أَغنَيتَ مُؤَلَّفَكَ بِاستِشهاداتٍ ثَرَّةٍ، مِن نُقَّادٍ عَرَبٍ كِبارٍ، في شُؤُونٍ وشُجُونٍ أَدَبِيَّةٍ ونَقدِيَّةٍ، ما وَفَّرَ على الكَثِيرِينَ مَؤُنَةَ البَحثِ والتَّنقِيبِ حَيثُ تَعِزُّ المَصادِر.

ويُدَلِّلُ على بَعضِ وَكْدِكَ المُثمِرِ كَثرَةُ المَصادِرِ الَّتي استَرشَدتَ بها.

لَكَ الشُّكرُ والامتِنانُ مِن كُلِّ مَن تَقُوتُهُ الكَلِمَةُ كما الخُبزُ، فَقَلَمُكَ طَمُوحٌ كَرِيمٌ، ورُؤْيَتُكَ ثاقِبَةٌ شافِيَةٌ، وقد وَضَعتَ إِصبَعَكَ في جُرْحِ الواقِعِ العَرَبِيِّ النَّقدِيِّ، غارِسًا في بَعضِ بَوارِه نَوْرًا وأَقاحًا، ومُضرِمًا في صُقْعِهِ البارِدِ مَوقِدَةً أَلُوفًا، ومُشِيرًا إِلى بَعضِ وَسائِطِ البُرْءِ مِن داءٍ لم يَبلُغ بَعْدُ نُقطَةَ الاستِفحالِ والتَّفَشِّي، ولكنَّهُ قد يَبلُغُها!

اترك رد