فْـــرِيكــــي

كـان صديقـي من أرض أخـرى، يجوب الطـرقات نهارا، وينام على الأرصفة ليلا، يحمـل سبحة في يده ويتمتـم، وإلى جانبه صحن فارغ، يضـع المارّة فيه قطعا نقدية، ، يتصدق عليه، كل حسب طاقته.

التقيت به، ذات ليلة بـاردة، وهو تحت وابل من المطر، قرب العمارة التي أسكن بها، كان الوقت مساءا، والليل بدأ يرخي سدوله، هرعت إلى منزلي، وحملت له نصيبي من العشاء، وبعض الملابس الشتوية وأغطية، ونبهته إلى أن يبقى في مدخل العمارة، لم أجرؤ على إدخاله بيتي، لأني لا أعرفه، فأنا أشفقت عليه فقط.

لم أنم ليلتها، كنت مشغولة بحاله، وبأحوال رفاقه، في ليلة ممطرة و رعدية باردة، قضاها في الخارج، وفي أول النهـــار، أحضــرت له حليبا ساخنا، وخبزا بمربى المشمش، لم أقترب منه جيدا، فقد كان لا يزال متكورا على نفسه، لقد كان صباحا باردا وجليديا.

وضعت الفطور عند قدميه، وقلت له:

ـ هاي…هاي..

رفع الغطاء عن رأسه، واستوي باسما، وبلكنة لم أفهمها، وبإشارة منه: تفوه قائلا:

ـ فْ…رِ..ي.. كِي

ابتسمت في وجهه، وقلت:

ـ فْـرِيكي .. فْـرِيكي…

هزّ رأسه فرحا، لأنني عرفت اسمه.

وبإشارة منه، فهمت أنه يريد أن يعرف اسمي، في البداية، تردّدت، ورجعت إلى الوراء خطوة أو خطوتين، وكأنه أحس بارتيابي منه، هزّ رأسه مرة ثانية، وهو يتمتم ، كأنه يريد أن يطمئنني وأن لا أخاف منه، و فهمت ذلك.

و قلت له بإشارة مني، وأنا أحاول أن أنطق له اسمي بحروف متقطعة:

ـ هـ..ا..ج..ـر…. هاجر….هاجر…

حاول فـريكي أن يلفظ اسمي بطلاقة، لكنه لم يستطع، ثم ابتسم ومدّ يده للمصافحة، في البداية، تردّدت، وبقيت يده ممدودة للحظات، وكل الخواطر المريبة والمرعبة جالت في تفكيري حينها، الأمراض ..الإيدز..الملاريا.. وكل أمراض الفقر المعدية والفتاكة، و كأنه فهم ما يدور في خاطري، هزّ رأسه مرة ثانية، وهو يبتسم، ويلح علي أن أمد يدي لمصافحته.

مرت الأيــام باردة، وحاله وحال أمثاله يؤرقنــي، وبعد أسبوع، تعرفت على والدته (بْيَانْكَـــا)، وعلى أخيه الصغير (بوكاموسو) الذي تحمله على ظهرها في ترحالها.

لقد اكتشفت نفســي من خلال وجوه متشابهـــة، وعيــون متعبة تلاحق الحنين والذكريات، من مكـان إلى أخر.

وقفت، ذات ليلة، كعادتي، أتابع من على شرفتي المطلّة على الشارع، وعيناي تلاحقان الأمكنة، أبحث عن فريكي، وعن أمه بيانكــا، أبصرت في الشارع الطويل للمدينة الكبيرة التي تضيء فيها الواجهات الحزينة، بألوان الضوء أوجه المهاجرين، من أجناس افريقيا، سمعت صوت أحدهم ينادي على رفيق له بجانبه باسمه، وهو يمده قطعة الخبز الحافي:

ـ سَامْبــا، سَامْبــا.

وهذه لكِ : أَفْيَــا بَابـَــا.

كانت الوجوه الأخرى تروح وتجيء، وأخرى على الأرصفة تفترش الأرض ليلا، وتلتحف السماء غطاءا لها في منامها، وأخرى واقفة تنام متكئة على الحائط من شدّة الخوف والإعياء، تغفو هنيهة، وتصحو أخرى، ثم لاح بصرها في ركن من زاوية مظلمة بالشارع الخلفي لعمارتها، وأذنها تلتقط سماع خبر من مذيعة النشرة الإخبارية، وهو يقول:

ـ “طالبت منظمة العفو الدولية (أمنسيتي)، في بيان لها، اليوم، من المجتمع الدولي، بفتح تحقيق، حول وقوع انتهاكات ضد مواطنين أفارقة، ورفع الحصار عن المهاجرين واللاجئين، و ضــرورة تقديم المساعدات الغذائية لهم….، ”

ثم استدرت برأسي، أحدق في الزاوية المظلمة، وإذا بمجموعة من النسوة يحملن أطفالهن عراة على ظهورهن، يجلسن تارة، ويسرعن الخطى، تارة أخرى، نحو المارة، وأحيانا كثيرة، يقتسمن الخبز اليابس المخبأ، منذ أيام، في سلال مهترئة، كنّ قد جمعنه من عابري الطرقات، أو من الصدقات التي تجود بها الأيادي الرحيمة والقلوب الرهيفة.

المدينة لا تنام، ليلا، فهي لتلك العيون الساهرة التي ترقب الصباح، كل ليلة، على ما تجود به أشعة شمس دافئة، تدفئ أجسادهم العارية، وأخرى عارية، من موت، أو رصاص غادِر، أو نيران تحاصرها، في وضح النهار.

تعبت حقا من النظر، كل ليلة، إلى تلك الوجوه السوداء التي لفحتها شمس الصحراء الافريقية الحارة، والهاربة من وجعها، ولسان حال أم فريكي صارخا في وجه العراء الانساني يقول، وهي تخبرني بمأساتها، ذات ليلة، حين اقتربت منها:

ـ أنا امرأة بشرتها سوداء، ودمها أسود، وأرضها سوداء، تحمل فلذة كبدها على ظهرها جائعا، عاريا، تهرب به بين الفيافي القفار، خوفا من نار تأكل الهشيم والجسد.

امرأة تختفي عن الأنظار هاربة، تخفي جسدها بين الظلاّل من اغتصاب، وختان وحشي، أو قتل الجوع والرصاص.

أنا سيدتي امرأة سوداء تائهة بين الحقيقة والخيال، امرأة تبحث عن الأمان، هاربة من ايبولا الفتاك، والسيدا اللعين، وحروب لا تنتهي.

امرأة سوداء مزقت جسدها طائفية الأعراق، ونسى الجميع، و للحظة، أنني امرأة تدفن وليدها جوعا، وتبكيه بألم وحسرة، كل صباح، تئن تحت لفح شمس حارقة، ورشاش يدوي في أرضها البائسة .

أنا المرأة الحبشية والبلالية والأرض القاحلة، أنا المرأة السوداء والماسيــة التي تغري الرجل الأبيض للتوغل في قفـاري…

في الصباح الباكر، لملمت أوراقي وكتبي المبعثرة، فوق مكتبي الصغير، وهممت بالخروج إلى مكان عملي، الساعة كانت السابعة صباحا، وأنا في طريقي إلى محطة القطار رأيت وجوها أخرى، هذه المرة لم تكن ببشرة سوداء كما ألفتها، ليلا، في الشارع الكبير للمدينة، لقد كانت وجوها نائمة على حقائب الترحال ومقاعد المحطة، جلت ببصري أمسح المكان، وأتفقد الوجوه، وكأني أعرفها، ثم انكفأت جانبا، وقد تغيّر لون وجهي، واغرورقت عيناي بالدموع، دون أن أشعر، حتى كدت أن أهوى أرضا، فأمسكت بي يـــد بــاردة. تطلعت في وجهه بحيرة كبيرة، وهو يضمني إلى صدره، قائلا:

ـ لا أدري….

ـ .. فريكي !!

ـ كنت كظلك.

صمت لوهلة، ثم أضاف:

ـ القادمـون هم هاربــون من أرض الله، ولكـــن إلى أرض الله دائما…

*****

1 ـ ذكر التسمية المؤرخ الحسن الوزان (1488-1554)، والذي قال أن الكلمة اليونانية فريكي د (φρική)  وتعني برد وخوف.

(*) حائـزة الجائزة الأولى  دوليا في مسابقة أدب المرأة عن هيئة اتحاد الأدباء الدولي بأميركا.

(*) مجلة الاتحاد.

اترك رد