شعراؤنا

بوِركَ هذا السِّفرُ النفيس شَكلًا ومحتوًى وبُعد مرمًى، يَحفِزُ إلى بُنيانِ عَمارَةٍ أدبيّةٍ فنيّةٍ متكاملة، بلْ انسيكلوبيديا، أو مجموعة تُؤَرّخ الأدب والفنّ، وبالتالي الحضارةَ الأرمنيّةَ بكَمالِها، ترْكِزُها إلى جانب الحضارات العالميّة العُظْمى لِتكونَ كما مجموعة “ديل ديورانت” المؤرِّخ والفيلسوف الأميركيّ الكبير “قصّة الحضارة” في ستّةٍ وأربعين جزءًا، من خِلالها تتعمّقُ معارف الدُّنيا وأحجام شُعوبها الثقافيّة.

إنّ هذا الكتابَ الفريدَ ما كان لِيُجْترَحَ لولا ثلاثٌ:

– قيمةُ الإرث الشِّعريّ الفَنِّيِّ الأَرمنيّ، وقد خَطَّهُ جَهابذةٌ من أهلِ الدِّين والدُّنيا بِدم القلوبِ، لا بِمِدادِ المحابر.

– مَوْهِبةُ مُترجِمةٍ اسمها جولي مراد، وعِشقها تُراثًا له هَويّةٌ خاصّةٌ وبَصَماتٌ وَشَمَتْ على صدر الزَّمانِ والخلودِ أجملَ القصائدِ واللَّوحاتِ، وقد نَقَلَتْها عنِ الأرمنيّةِ بِدقّةٍ مُتناهية، ولم تُفقِدْها عُذريّتَها وتأثيرَها البالغ.

– إنَّ الشعبَ الأرمنيَّ، وبالأَحرى الأُمّةَ الأرمنيَّةَ النابضةَ بالحيويّةِ والدِّيناميّةِ ورُكوبِ المخاطرِ والأَهوالِ، خرّجتْ أبطالًا قَهَروا الموتَ بِمَوتِهم، كما الذي سُمِّرَ بالمساميرِ على الصّليب، وَدَحْرَجوا الحجرَ ليترُكوا صوتًا صارخًا في بَرَاري الأَرضِ وبِحَارِها وجبالِها، لينتصرَ صاحِبُ حقٍّ ويعودَ إليه ما سُلِبَهُ، إذ “لن يضيعَ حقٌّ وَرَاءَه مُطالِب”. والشُّعراءُ والفنّانونَ الكِبارُ، في أكثَرَهِمْ، قَضَوا في رَيَعانِ الصِّبا، فكتبوا باستشهادِهم مَلاحِمَ خالِدةً، يومَ كان الضَّميرُ في إجازةٍ غائِبًا. أَلَمْ يكنْ على صوابٍ ﭙول ﭬاليري لمّا قال: “الضَّميرُ يملِكُ ولا يَحْكُمُ”، هذا، إنّما يعني أَنّ حُكّامَ الجامعة البشريّة ماتتْ ضَمائِرُهُم وهي نائِمةٌ على فُرْشٍ وثيرةٍ نومةَ أهلِ الكَهْفِ.

إذا كان ما قالَهُ بلزاك الفرنسي… “إنّ الرّوائِعَ الفنِّيةَ لا تَخْلُدُ إلّا بجانِبِها العاطفيّ”، فالأدبُ الأرمنيُّ من فضَلاتِهِ الخلودُ. قال سولّي ﭘرودوم الشّاعِرُ الفرنسيّ: “إنّ الزّفرةَ الحَرّى من القلبِ هي التي تجترِحُ البَيْتَ الشِّعريَّ الأجمل”.

لقد بَلَغَتِ الرّومنسيّةُ أَوْجَها في الشِّعرِ الأرمنيّ متخطّيةً ذاتَها إلى ساحِ الرّواقيّةِ الجبّارةِ، وعَابِرةً من مِسَاحاتِ الفاجِعةِ(Drame) التي يَتَمثَّلُ فيها صِراعُ الإنسانِ مع المصيبةِ، إلى حدودِ “المأساةِ” Tragédie وَيتَمثَّلُ فيها صِراعُ الإنسانِ مع القَدَرِ.

في جَوْلَةٍ عابرةٍ، عاجلةٍ في الديوانِ بدْءًا بالقدّيس مِسْرُوب ماشدُوتس واضع عِلمِ الأوزانِ ومؤلِّف الأناشيد والترانيم (362- 440 م)، إلى القدّيس نرسيس شنورهالي، هَرَمِ الكنيسة الأرمنيًةِ وواضع أناشيد الميلاد والفصح، رِحلةٌ مُمتِعةٌ في فكرٍ وأدبٍ ولاهوت، ونُكمِلُ المسيرةَ مع بيدروس توريان “لامارتين أرمينيا” مُترجِم بعض هيغو وشكسپير، إلى الشاعرة سيبيل درّة الشِّعر والرِّواية، إلى أرشاك تشوبانيان الذي أنشأَ في باريس جريدة “الزهرة” (1895)، إلى أﭬيديك إساهاكيان “عمر خَيّامِ الأرمن” حائز جائزتَي لينين وستالين، إلى ﭬاهان تيكِيان الذي صوّر في أدبه المجازرَ ومآسي التهجير، إلى سيامنتو شاعر الثورة المقدّسة وشهيد الإبادة القائل: “أُريد أن أموت وأنا أُغنّي”، إلى مِيساك ميزارينتس الذي حاربَ اليأسَ بالرّجاء والموتَ بالقيامة، إلى يغيشيه تشارنتس غَضَنفَر الأُمّةِ وشاعر الحُبّ الذي ضمّه لويس أراغون، الشَّاعر الفرنسيّ، إلى عُظماء الشعراء العالميّين، إلى أنترانيك زاروغيان شاعر الإبداع الذي انتُزِعَ من حُضن أمّهِ في الثانية من عمرِهِ (1915م) ليَصيرَ في مَيْتَمٍ في حلب، إلى موشيغ إِشخان شاعر الخُبز والحُبّ الذي حُمِل هربًا من المجازر، إلى دمشق، وهو في عامِهِ الأَوَّل، والذي قال ذات يوم: “… أذهبُ آخذًا أوجاعَ الأرضِ كُلّها معي إلى لَحْدِي حينَ أغرُبُ”، إلى باروير سيـﭬاك معبودِ الأرمن الذي قُتِلَ بحادِث سيّارةٍ مُدَبَّر مع زوجته.

وبَعدُ، لنا أن نسألَ: هل يقومُ الشِّعرُ، وهو رأس الفنون، وبعد فشلِ الأديانِ السماويّة أو تَفشيلِها في أداءِ مهامِّها الروحيّة والإِنسانيّة، بِجَمعِ كلِمةِ الناسِ على المحبّة؟ هل يكونُ وحدَه منقذَ العالم؟

لقد تأكّد لنا أنَّ حيواتِ هؤلاءِ الشُّعراءِ الأرمنِ تُمثِّلُ مآسيَ أو ملاحِمَ خُطَّت بِدموعٍ ودماء، فهذا الوَجعُ الذي عاناه الأرمنُ إلى حدودِ الضنكِ أكْبرُ من الأَفرادِ والأُممِ، إنّهُ جلجلةٌ كونيّةٌ تهُزُّ الأرضَ، وتهتَزُّ لها السماءُ، فلا بُدَّ من أن يأتي يَومٌ ويَصدُقُ فيه كلامُ الإمامُ عليّ، رضيَ اللهُ عنه: ” يومُ المَظلومِ على الظّالم أَشدُّ من يومِ الظّالِم على المظلوم “.

نحنُ والأرمنُ، بين أرارات السّليبِ وصنّين والمَكمِلِ حيثُ الأرزُ يعانِقُ الغَمامَ والنجومَ، وشائجُ صِلاتٍ عِشْنا ونَعيشُ على شَفا المذابِحِ والمجازِرِ عبرَ التاريخِ وإلى اليومِ، وسنُكمِلُ ويُكمِلونَ المسيرةَ صوبَ الحُرِّيّةِ والظَّفرِ الموعود.

لبنان وأرمينيا وطنا الرِّسالةِ الإنسانيّة، في أرارات رَسَتْ سفينةُ نوح لِيكتمِلَ الوَعدُ بالخلاص، وفي قانا الجليل بِدايةُ العهدِ الجديد وإيذانٌ بِفجرٍ جديدٍ للبشر.

قال البطريرك يوحنا كسباريان لأحد سياسيِّينا: “… لقد اخترنا لبنان لأنَّنا هنا في ربوعِهِ نُحافِظ على أَرْمنِيّتِنا مع لبنانيَّتِنا الصافية”.

من المعاناة وجُلجُلة الآلام تولَدُ القُدرةُ والعظمةُ وكِدتُ أقولُ الأُلوهة!

لن يموتَ مُستقبَلُ شَعبٍ أطلَعَ هكذا شُهداءَ وشُعراءَ ودفعَ ضَريبة دمٍ غالية، وستَصِلُ المسيرةُ عاجلًا أم آجلًا إلى محجّتِها وخواتيمِها السعيدة، فابنُ الإنسانِ يَومَ نَزَلَ الأرضَ وصُلِبَ وصَعدَ، فتَحَ لنا النوافِذَ على الرجاء، وأضاءَ على آتي أيّامِنا لبلوغ الخلاصِ والسًعادةِ ونيلِ مجدِ الانتصارِ المُتلفّع بِتِيجان الإيمانِ والقدرةِ وصولجانِ المحبة. آنئذٍ يقفُ الأرمنُ واللبنانيّونَ أمام وجْهِ العالم الصّامِتِ ويَصفعونَ ضَميرَهُ ليستيقِظَ من غَيبوبةٍ سحيقةٍ، ويقولون: “نحن لنا مطْرَحٌ على هذا الكوكبِ وموَقِعٌ مُتقدّمٌ، وكذلك في السّماء!”.

حانَ عَودٌ، أُمُّنا تنتظرُ!

يُوجِعُ الظُّلمُ وتُدميَ الذِّكَرُ،                         لا يَهُونُ الحُرُّ، لا ينكسِرُ!

أَرمَنُ الشَّرقِ، على مرأى الدُّنى                    روَّعوهم، كخِرافٍ نُحِروا،

شرّدوا الأطفالَ، غالوا أهْلهُم،                      لم يَرِفَّ الجَفنُ!.. رقَّ الحَجَرُ!!

ما نَسَوا أنّ “هُلاكو” جدُّهم،                       بدماءٍ، ما بِخَمرٍ سَكِروُا!..

قيلَ عُظمى دُوَلٍ تَرعاهُمُ،                         سادِنوها كَمْ بِهِمْ قَدْ غَدَروا؟!

أَسكنُوهُم خِيَماً بعدَ غِنًى،                         أفَترضي الّلهُمَّ قُوتًا كِسَرُ؟ّ!

يا لَقاضٍ لَيْسَ يرعى حُرَمًا!..                    هِيضَ عَدلٌ، حقُّهُمْ يَحتَضِرُ،

ليسَ حِقدٌ كامِنًا في صَدرِهِ،                      أرمنيُّ النُّبلِ لا يثّئِرُ!..

ما ضَميرٌ ماتَ في شِرعَتِكُمْ؟!                   أيقِظوهُ، أنتمُ مَن كفروا!

شُعراءُ الضَّنْكِ غنَّوا وطنًا،                       في كِتابِ الدّهرِ مَجدًا سَطَروا،

طِرْسُهُم قَلْبٌ، مِدادٌ دَمُهُم،                        إرثُهُمْ سِفرَ العُلى يَختَصِرُ!..

يصمُتُ الشّعبُ زَمَانًا ضائِعًا،                     ثُمَّ يَدْوي صَاعقًا يَنتَهِزُ

قاتِلِيه، ليسَ يجثُو أبدًا،                           لذّهُ المَوتُ، ولذَّ الخَطَرُ!

رأسُ روما قال: قُوموا اعترِفوا                     بِذنوبٍ… ليسَ مَن يعتَذِرُ!

دحْرِجِ الصَّخرَ، تدرّعْ غضبًا،                    وتَعَملَقْ، آنذا تنتَصِرُ!

قَاوِمِ الظُّلامَ لِودَاعٍ دَعَا،                           مِن نِعالِ الدُّهمِ شظّى الشّررُ!

إنَّ لُبنانَ جَريحٌ مِثلُكُمْ،                            وَسَماءً!… فاسمَعُوا يا بَشَرُ:

لَمْ نُقايِضْ بِذُرانا جنّةً                             شمسُنا فيها، وفيها القمَرُ!

هذا حقُّ النّاسِ في أوطانِهِمْ،                     لهُمُ الأرضُ، لِيُذعِنْ قَدَرُ!

قالَ شَعبٌ جُثَّ من أرباضِهِ:                     لوَّحَ السّعدُ، ولاحَ الظَّفَرُ،

قُلْ لِطَودٍ شامِخٍ: لا تنسَنا،                       حانَ عَوْدٌ، أُمُّنا تنتظِرُ!..  

*****

(*) الفيت في الندوة حول كتاب “هتاف الروح” شعراء أرمينيا  للأديبة والإعلامية جولي مراد الصادر حديثاً عن “دار المراد” و”جامعة القديس يوسف”.

اترك رد