سنة 1940، اراد الجنرال Weygand التعرّف على الفن اللبناني، فطلب من سعدي السينيفي (Saadi Sinevi)، وهو خريج معاهد فرنسا، تنظيم معرض في البرلمان اللبناني للفنانين الطليعيين في تلك الحقبة أمثال: عمر الأنسي، مصطفى فرّوخ وقيصر الجميّل.
عند توزيع مساحات العرض اعترض قيصر الجميّل وقرر الانكفاء، فما كان من سعدي السينيفي، بعد مشاورات وتقصِِّ أن قرر التوجه إلى صليبا الدويهي في زغرتا. هناك التقاه وطلب منه المشاركة في المعرض فوافق، طالباً من السينيفي انتقاء الأعمال.
هكذا كانت اول مشاركة لصليبا الدويهي بمعرض في بيروت. طبعاً لم يكن الثلاثي الفني لينشرح لهكذا مشاركة ناجحة من قبل دخيل عليهم. بعد ذلك تتالت النشاطات، فأقام الدويهي بداية في محترف السينيفي، وهو فنان مخضرم أول من أدخل صناعة النيون إلى لبنان، وكانت كل إعلانات بيروت بإمضائه (سعدي).
كان محترف صناعة الآرمات والرسم يقع في آخر سوق الطويلة في بيروت قرب خان أنطون بك، وفيه غرفة خاصة للسكن.
بعد ذلك انشأ الدويهي أول محترف له في بيروت في شارع محمد الحوت، وأقام أول معرض فردي عام 1948 في فندق السان جورج في بيروت. كذلك شارك عام 1947في معرض الفنانين اللبنانيين الذي أقيم في المتحف الوطني. في السنة نفسها تعرّف إلى أنطون سعادة ربما بمبادرة من النحات يوسف الحويّك، فطلب منه “الزعيم” المشاركة في مخيّم في ضهور الشوير (في جبل لبنان)، بحسب ما رواه فناننا للصحافي الصديق جان دايه، فأجابه: صحيح أنا من زغرتا لكنني لا أتقن حمل السلاح، فبادره أنطون سعادة بالقول إن المخيّم هو للتدريب والتثقيف، عندها قبل الدعوة، وخُصصت له خيمة أمضى فيها وقته بالرسم ومناقشة طلابةالحزب.
في كتاب “الرسائل” الجزء الثالث رسالة وجهها الوعيم أنطون سعادة إلى صليبا الدويهي يدعوه فيها للمشاركة مجدداً في مخيّم ضهور الشوير. وهنا لا يمكننا الجزم بأنه شارك للمرّة الثانية.
تقول الرسالة:
حضرة الأستاذ الكريم المحترم
إن نزولكم ضيفاً في مخيّمنا القومي الاجتماعي في الصيف الماضي أتاح لي أن أعرف فنكم ومزاياكم الشخصيّة، وأن اهتمامكم بدهان رسم عرزالي وتقديمه هديّة إلى منفذيّة الطلبة القوميين الاجتماعيين التي كان المخيّم القومي الاجتماعي في عهدتها دلّ على نفسيّة الفنان السوري الواعي، الذي يعرف الفن في الإبداع ويجمع بريشته بين الألوان وقيم أمته وتاريخها.
إن المخيّم القومي الاجتماعي سيعود هذا الصيف في مكانه في ضهور الشوير، والحركة مهتمة بجعله اوسع وأفضل مما كان. فإذا رغبتم في قضاء بضعة أيام في هذه المنطقة الجميلة فتفضلوا بقبول دعوتي لتكونوا ضيفاً على المخيّم مدة ستة أيام تختارونها بين 15 يوليو و15 أغسطس.
لكم سلامي وتقديري واحترامي في 22 يونيو 1948.
في الرسالة كلمة “دهان رسم عرزالي” تعني تلوينه.هذه العبارة “دهان” ترد دائماً عند البطريرك عريضة حين يدعو الدويهي لمقابلته أو يتحدث عنه.
لنرجع قليلا إلى الوراء. في الديمان التي أمضى فيها فناننا ما يقارب الأربع سنوات، يرسم جداريات الكنيسة. في أحد الأيام، زار الجنرال ديغول البطريركية الصيفية وكان برفقة البطريرك عريضة. سار الموكب داخل الكنيسة وحوله الرسميين، فكانت لفتة منه إلى سقف الكنيسة جعلته ينبهر بالرسومات. سأل ديغول البطريرك عن الفنان راسم الأعمال، فتجاهل البطريرك السؤال، فالوقت وقت وليمة رسمية، إلا أن الدويهي في زاوية يراقب، فانتبه إلى اهتمام الجنرال بأعماله، تقدّم وعرّف عن نفسه، وكان حديث عن الفن دام ما يقارب دقائق عدة. وكانت هذه الدقائق كافية ليفهم من يهمه الأمر قيمة هذا الفنان العظيم.
لا نعرؤف بالتأكيد كل أعمال صليبا الدويهي التي رسمها في بداياته. كان دارجاً وقتها تلزيم الفنانين رسم قديسي الكنائس. من دواوود القرم إلى حبيب سرور وغيرهم. وفي المرحلة المتقدمة سمير أبي راشد وميشال روحانا وغيرهم. لم يُستثنَ صليبا الدويهي من تلك المرحلة.
حدثني صديق من مزيارة أنه خلال ترميم كنيسة مار سركيس وباخوس في مزيارة، اختفت لوحة القديس يوحنا المعمدان وكانت من رسم الدويهي على أنها عتيقة. يجري اليوم البحث عنها لإعادتها إلى مكانها الأصلي. هذا مثال من أعماله المغمورة في الكنائس.
عدا رسم الكنائس رسم صليبا الدويهي الطبيعة القروية بشغف عظيم. كان يلتقط المشهد بعشق الحبيب. أعماله انطباعية تسجيليّة، لا تقلّ أهميّة عن أعمال الفنانين الذين عاصروه، من عمر الأنسي إلى مصطفى فروخ إلى مارون طنب، بل ربما تعدّاهم إلى حال القرية المعيوشة. هو من الجبل وهم من المدينة.
رسم الدويهي أعماله بذوبان كامل في الطبيعة. ضبطها وفلش ألوانه بذهنيّة المؤرخ. هذا في مرحلته اللبنانية التي امتدت إلى سنة 1950.
أراد نقل تجربته إلى الغرب، فسافر إلى الولايات المتحدة ظناً منه أنه سيلاقي ترحيباً من الأميركيين واللبنانيين المهاجرين. هناك اكتشف أن عمله لا يجاري الحركة العالمية، فعاد إلى ذاته واستنبط من داخل مكنوناته أفكاراً جديدة.
انتقل من رسم الطبيعة التسجيلية إلى طبيعة تجردية، لاغياً الظل، متمسّكاً بالمنظر المجرّد بألوان تلاقي العمل الأيقوني وكأنها ببعدين. هذه كانت مرحلته الثانية، وشكلت تجربة فريدة سجّلت له نجاحاً كبيراً، لكنه لم يتوقف عندها بل تخطّاها إلى مرحلته الأخيرة في التجريد المطلق بخطوط وألوان زاهية مبتكرة.
لم يسقط المرحلة الثانية، بل بقي على تواصل معها، إلا أن مرحلته الأخيرة قادته إلى نجاحات باهرة في الولايات المتحدة، متخطياً كل مراحله السابقة ما أدخله إلى متحف الميتروبوليتان والصحافة الفنية الأميركية.
يبقى الحديث عن العمل الكبير الذي قام به في كنيسة مار مارون عنايا عن حياة القديس شربل.
إنها تجربة فريدة وحديثة، واكبه فيها الأب عبده بدوي. إنه عمل بالزجاج التراكمي بمواد لاصقة شفافة “الإيبوكسي”. أعطى كامل حركة الرسومات بأدقّ تفاصيلها بتراكم الزجاج بسماكات متفاوتة تصل إلى أكثر من 15 سنتم. في بعض المواقع.
المحزن أن هذا العمل تضرر خلال حرب الإخوة، فطُلب من الأب بدوي الترميم، بدلّ تكليف فناننا الكبير بالمهمّة، وهذا ما لم يُرضه بحسب ما قاله لي.
التقيته في لندن سنة 1983، وكان لي معه جولات. أطلعني خلالها على أعمال جديدة قديمة. كان بصدد إعادة رسم المرحلة الثانية بمنظور جديد، ولا أدري إن فعل.
في تلك المرحلة كان مشغول البال على خمس عشرة لوحة من أعماله الأولى، عرضت عند أحدهم في شارع الحمراء. لم يكن يعرف مصدرها. اشترى منها وضاح فارس، ناديا التويني ومروان حمادة، كما توارد إليه، فكلفني الاستقصاء عنها لكن للأسف بسبب وضع اليد لم أتمكّن من تلبية طلبه.
آخر لقاء لي معه كان في معرض سليمى ذود في غاليري دروان في باريس. كتب لها كلمة معبّرة عن فنّها، تعتزّ بها. بعدها تركت مهمة المتابعة للصديق سيزار نمور.
ارجو أن أكون أضفت شيئاً جديداً على مسار هذا الفنان العبقري العملاق.
******
(*) ألقيت في الندوة حول الفنان صليبا الدويهي من تنظيم اللجنة الثقافية بلدية زغرتا –اهدن في 2 يونيو 2017 في المسرح البلدي قاعة بيار فرشخ. سبق الندوة إزاحة الستار عن جدارية الفنان صليبا الدويهي.