بقلم: د. فردريك معتوق*
ثمة ظاهرة تتكرّر عند كل صيف في لبنان، في الظروف والأوضاع كلّها، هي حفلات الزواج. وهذه الحفلات التي لا تقتصر على عمليات عقد زيجات تسبقها، وتُجرّ خلفها، سلسلة من النشاطات ذات الدلالة الكبيرة، تتمحور كلها حول فكرة مركزيّة هي غلبة الحياة على صعابها. في ما يلي نظرة إلى هذه الظاهرة الاجتماعية من زاوية أنتروبولوجية، ومن منظار تاريخي وسوسيولوجي في آن.
منذ عقود عديدة ابتكر اللبنانيون عادة جديدة، وهي إقامة حفلات الزفاف، خارجاً، خلال موسم الصيف، فيما كانت تُعقد هذه الحفلات في ما مضى، داخلاً، خلال موسم الخريف، أو الشتاء. فالمجتمع الزراعي الذي كان قائماً بقوّة في لبنان حتى نهاية الحرب العالمية الأولى، أي طوال الحكم العثماني، وما قبله، كان مجتمعاً يفضِّل عقد عمليات الزواج، في نطاق عائلي موسَّع قد يشمل القرية كلها أحياناً، خلال مواسم الاسترخاء، أي خلال الفصول الماطرة، التي كان يضمر فيها نشاطه وتسترخي حركته. فالزواج كان هدفه إنجاب عدد وفير من الأولاد، يسهمون لاحقاً في تأمين العائلة باليد العاملة شبه المجانية. ولذلك كان منطق العمل، والإنتاج، هو الذي يحكم التصرّفات كافة، بما فيه الزواج. وعليه لم يكن يُسمح بكسر هذا التقليد الاجتماعي سوى نادراً، على ما تشير إليه سجلات الزواج العائدة لبعض الكنائس إبّان المرحلة السابقة للحرب العالمية الأولى.
علاوة على أن العثمانيين كانوا يفرضون ضريبة على الذكور المتزوجين كان يُحسب لها حساب، بحيث لا يقدم العريس على الزواج إلا من ضمن سلسلة معطيات يسعى من خلالها دوماً إلى الحدّ من الخسائر في ميزانيته العامة، المتواضعة أصلاً.
كما أن عقد الزواج شتاءً، كان يتناسب أكثر مع رغبة العروسين في إطالة أمر الفرحة، والاحتفالات والسهرات. إذا كان العُرف العام يقضي بأن يغيب الرجل عن عمله ليوم واحد فقط، بداعي الفرح، فيما كان يسمح له بأن يغيب ثلاثة أيام بداعي الحزن. لذلك كلّه كان فصل الشتاء، فصل التعطل القسري عن العمل، حيث لا نشاط في الحقول، أو الطواحين، الفصل الأنسب موضوعياً للزواج.
أما بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى، ودخول الانتداب الفرنسي لبنان، بدأ المجتمع الزراعي بالانحسار تدريجاً أمام توسّع هامش المجتمع المديني. حيث تشير الإحصاءات إلى أن سكان لبنان، في ظل الحكم العثماني، كانوا يتوزّعون على النحو الآتي: ريفيون 90% ؛ مدينيون 10%.
في المقابل، يشير الإحصاء العام الذي أجراه الانتداب الفرنسي في العام 1932 – والذي هو الإحصاء السكاني الشامل الوحيد الذي أجري حتى اليوم في البلاد – إلى النسب الآتية: ريفيون 67%؛ مدينيون 33%. ثم أُجريَ مسح بالعيّنة في العام 1960، قامت به وزارة التصميم وبعثة “إيرفيد” IRFED آنذاك، أظهر أن نسبة الريفيين من سكان لبنان تدنّت إلى 49% مقارنةً بارتفاعٍ لنسبة المدينيين في البلاد إلى 51%.
أما دراسة ” القوى العاملة في لبنان” التي أجرتها “دائرة الإحصاء المركزي” في العام 1970، فقد بيَّنت أن الغلبة باتت بعد ذاك نهائياً لمصلحة المدينيين الذين بلغت نسبتهم العامة في هذا الإحصاء 59%، في حين بلغت نسبة الريفيين 41%. ثم تكرَّست المعادلة الجديدة، بحسب الدراسة التي أجرتها وزارة الشؤون الاجتماعية في العام 1996، حيث تبيَّن أن نسبة المدينيين في لبنان، باتت تبلغ 78% ، في حين أن نسبة الريفيين تراجعت إلى 22%.
أي أنه خلال قرن من الزمن، حصلت ثورة صامتة في لبنان – وبأشكال متشابهة نسبياً في معظم بلدان العالم غير الغربي – انقلبت إبّانها المعادلة السكانية رأساً على عقب، ما بين بداية القرن العشرين ونهايته، مع عقد مميَّز لهذا التحوّل تمثَّل في لبنان في الستينيّات. وقد استتبعت هذه العملية الخطيرة والصامتة سلسلة كبيرة من التغييرات في مجال الأعراف والعادات والتقاليد التي كانت تتمحور في ما مضى حول المجتمع الزراعي، وأضحت بعد ذاك تتكوكب حول مقتضيات الحياة المدينية. ومن هذه العادات، بطبيعة الحال، ما يتعلق بالأعراس ومناسباتها على نحو عام ساحلاً وجبلاً.
وهنا نعود، من حيث لا ندري، إلى التأثير المديني على الاحتفال بالأعراس. فالسيارة علامة من علامات المدنيَّة الغربية والتمدّن على نحو عام. واعتماد انتقال العروس بداية، ثم العروسين لاحقاً في ما يُعرف بــ “برمة العروس ” في شوارع المدينة أو البلدة أو المنطقة، يرتبط بنمط التفكير الجديد، المديني، الذي يشدّد على أن لا مجال لإقامة حفل زفاف، من دون إظهار خارجي لجاه العروسين المديني المتمثّل بالجولة السيّارة.
فرضت السيّارة نفسها كمعطى صامت، وثابت، ومديني جديد، حتى عندما تُقام الأعراس في القرى الجبلية. وهذا المعطى المعرفي الجديد، الذي لا نجد ذكراً له في زغاريد الأعراس التي كانت تنشدها جداتنا، يشير بوضوح إلى أن شيئاً ما قد تغيّر. فالمدينة بمدنيّتها المستوردة قد غزت العرس التقليدي.
بقي العرس تقليدياً في جوهره، لكنه في إشاراته الخارجية، غدا يرتدي علامات فارقة جديدة. ذلك أن “برمة” العروس السيّارة، حلَّت مكان جولة العروسين الراجلة في أزقة القرية، أو شوارع البلدة سابقاً. لم يعد الانتقال يعتمد على الذات، بل أضحى يقوم على وسيط أخذ جزءاً من وهج العرس. فالتعليق على المناسبة، قبل نصف قرن ونيّف، كان يطول العروسين أثناء جولتهم الراجلة في القرية، أو البلدة، إذ كان يتوقف الحاضرون عند حركات العروس والعريس، التي تخضع للمتابعة والرصد الدقيق (فلانة مشت وتعثرَّت، أو مشت وتغندرت كالغزال؛ فلان مشى منحنياً ومكسوراً نوعاً ما، أو مشى شامخ الرأس معتداً بنفسه، إلخ).
أما اليوم، فلم تعد تستوقف شخصيّة العروسين، أو حركاتهم الجسمانية الأنظار، بل بات المهم يقوم في مكان آخر، في نوع وشكل السيّارة التي تركبها العروس، وفي شكل الموكب وزينة السيارات.
ما من شك أن هذه العملية الصامتة، ولكن الموضوعية، قد أفقدت الأعراس الحالية شيئاً كثيراً من حرارتها الإنسانية، لكن للانتقال من البداوة إلى الحضر، أو من الأرياف إلى المدن، ثمن لا بدّ من دفعه. والجاه المديني، بأدواته وآلياته المستوردة، أو المستعارة، هو في جوهر هذا الثمن.
زفاف الفنادق
لم تكن أعراس أيام زمان تكلِّف الكثير، حيث إن عونات النساء والأهل، كانت تقدّم كل ما هو مطلوب تقريباً من إحاطة مادية ومعنوية واجتماعية. أما اليوم، فالجاه المديني المطلوب مكلف وباهظ الأثمان على المستوى المادي، كما على المستوى المعنوي. فالعريس يخرج اليوم من حفلة الزفاف “منتوفاً كالفروج”، مشدود الأعصاب ومستنفراً نفسياً. في حين أن مستلزمات أعراس أيام زمان، لم تكن تكبّد العريس عناءً نفسياً ومادياً مماثلاً، لأن محيطه الأهلي يتكفل عملياً بالتحضيرات المطلوبة.
وما زاد في الطين بلة، هو ظهور عادة اجتماعية جديدة تتمثّل اليوم بإقامة حفل الزفاف في فندق، أو منتجع مديني. لم تعد ساحة القرية، أو البلدة، أو ساحة الكنيسة، أو الجامع، أو العين كافية. إذ بات من المطلوب تأكيد جاه السيّارة المديني بعلامة أخرى هي الفندق أو المنتجع السياحي المديني. وبذلك تتكرَّس نهائياً مدينيّة العرس الجديد، الذي غدا يتمحور حول الجاه المديني، مع حشد من الخدم يقدمون وجبات بخيلة لمدعوين يتم إلهاؤهم بموسيقى صاخبة وانوار مبهرة.
فرضت العادات المدينية نفسها على الأشخاص والمكان. واستعيض عن المكان السابق، والعام ( ساحة البيت، أو بيوت الجيران المفتوحة على بعضها البعض) بمكان جديد وخاص، لا تدخله إلا إذا كنتَ مزوداً ببطاقة دعوة يتحدَّد فيها عدد الأشخاص المدعوين إلى الحفل. وبعدما كان الاحتفال بالعرس سابقاً يتمّ على مائدة غداء، بين الأهل والجيران والأصدقاء، فرضت المدينة توقيتاً جديداً للاحتفال هو الليل. فالعشاء حلّ مكان الغداء، ذلك أن مجتمعات الريف لا تحبّ السهر كثيراً، لأنه يلهي عن العمل. في حين أن المجتمعات الجديدة، المدينية، والتي تعيش على اقتصاد الخدمات على نحو ما، تعشق السهر، وتعتبره علامة فارقة مع ماضيها الزراعي.
بعد التغيير المكاني، ها قد جاء التغيير الزماني، وبات تطويق الزواج التقليدي منزوعاً من علاماته الموروثة لمصلحة إشارات جديدة وضعته على ضفّة جديدة. فمن احتفال جوهر منطقه، منطق المجتمع الزراعي، بتنا أمام احتفال جوهره المنطق المديني المتصنِّع الجديد.
صحيح أن هذا المنطق الجديد شكلي في محصلته العامة، لكن من قال إن الشكلي لا يتحوّل، بعد جيل أو جيلين، إلى مضمون، ويتعدل بعد ذاك المشهد برمّته؟
لا زالت البنية التقليدية ممسكة بزمام الأمور في مآل الزواج الاجتماعي العام عندنا (عقد ديني، هدف إنشاء عائلة بالمعايير التقليدية الموروثة) والتغيير المديني، لم ينفذ بعد عندنا إلى ما نفِذ إليه في التجربة الغربية (فردانيّة وعقد اجتماعي بالمعايير الحديثة)، لكن التحولات قد تحصل يوماً ما، ولا ندري متى.
في انتظار ذلك، نحن نتمتَّع في كلّ صيف بحفلات الزفاف الهجينة التي اخترعناها، والتي تعبّر عن تواصل في نزعة الحياة إلى تجديد نفسها في كل صيف، ونفرح لمنظر طرحات العرائس البيضاء أينما كان، ساحلاً وجبلاً، لأنها تشير إلى تعلّقنا كلبنانيّين بالحياة، على الرغم من كلّ الصعاب، وحقّنا بالحياة.
****************
(*)مؤسسة الفكر العربي، نشرة “أفق”
(*)عميد معهد العلوم الاجتماعية- الجامعة اللبنانية
كلام الصور
1- من تقاليد العرس ف الريف
2- مشهد من عرس في الفنادق