إغتراب الذات عن ذاتها في رواية “تماثيل مصدّعة”


 اللافت في رواية تماثيل مصدّعة هو عنوانها”، فتخال أنّك في محترف  فنّي للنحت أو في متحف يضم منحوتات ترك الزمان بصماته عليها حافراً بمخالبه القاسية مسامًا تترك الناظر إليها في حيرة السؤال ” لو نطقت هذه المنحوتات عن ذاتها وزمانها بمَ تخبر الحاضر؟ إلّا أنّ الراوئية والكاتبة ميّ منسّى لم تتركنا فريسة الصمت المطبق والحيرة الجارحة، بل جعلت تماثيلها تلفظ آهاتها ومكبوتاتها فتزيد من تصدّعاتها تصدّعًا .

إنّ القراءة السميائية للعنوان المتشكّل من كلمتين ” تماثيل” و” مصدّعة” تظلل مسار الأحداث والصراعات النفسية في الرواية وتكشف عن ذلك الخيط الرفيع والعميق الذي يربط  شخصيّاتها بعضهم بعضًا، وينشلهم من التداعي والسقوط. فلفظة تماثيل  ج. تمثال وهو مجسّم من مواد مختلفة التركيب كالصلصال أو الخشب أو الجصّ يخلقه الفنّان بحسب أهوائه وأحاسيسه لدرجة تحطيمه إذا لم تلبِّ جبلة الطين أحاسيسه… إنّه جسم جامد لا حياة فيه، بالرغم من أنّه يمتاز بصلابته وقدرته على الانتصاب بوجه الطبيعة، وبحضوره المؤثّر بتعابيره الدقيقة ك” صرخة تدوّي في الصلصال والقطران الأسود” . فانتقلت علاقة الدال ” تماثيل” بمدلولها أي معناها التعيينيّ  كما أرادتها الكاتبة ، الى علاقة قصديّة أعمق ، نفخت في شيئيّة الجماد روحًا إنسانيّة أخرجته من صمته من خلال التمثال الصامت… الفنّ الصادق يحكي عن ذاته،مع اختيار اللفظة نكرة غير معرّفة أي غير محدّدة، وإضافة نكرة أخرى عليها تصف حالتها وتنعتها بال”مصدّعة؛ فهذا التصدّع، مع ما يحمله من معنى التفسّخ والتخلخل الذي يؤدّي الى الانهيار والسقوط في غفلة من الزمان، قد تآلف فعلًا وتكامل مع تكسّر المفرد في جمعه ( تماثيل ج. التكسير للمفرد تمثال) ، وكونه ممنوعًا من الصرف فقد أدّت وظيفته الى التلاحم مع صورة منعه من التفاعل مع محيطه.

إنّ ميّ منسّى لم تقف عند هذا الحدّ الدلالي لرسم الفضاء الروائي للرواية، بل راحت تَحثّ القارئ الى طرح تساؤلات عديدة، إنطلاقًا من العنوان نفسه “تماثيل مصدّعة“.  فالدلالة العميقة لهاتين اللفظتين قد انصهرت  متّحدة في التركيب، لتضع القارئ أمام حقيقة ما تمثّله هذه التماثيل. فلمَ لم تختر الكاتبة لفظة منحوتات أو مجسّمات بديلًا عن التماثيل ؟ لمَ استهلّت جملتها الاسميّة بمحذوف أصيل تخبر عنه وتصفه ( بنيتها السطحيّة كانت: هي تماثيل مصدّعة)؟ فمَن يكون هذا الضمير المنفصل المحذوف ” هي“، وقد شبّهته ببلاغة التشبيه (هي كتماثيل مصدّعة)؟ وما استخدام اسم المفعول لفعل متعدٍّ(مصدّعة من فعل صدّع)إلّا دلالةٌ على قوّة خارجة عن إرادة الكائن، تعدّت على وجوده،وسيّرته بأحكامها وتحكّمت في مصيره ؛ غابت ” هي ” ولم تبقَ إلّا الآثار والهياكل شبه الميتة بتصدّعاتها تتحدّث عن ذاتها دعوا جبلات الطين والصلصال تتكلّم عنّي، فهي أكثر منّي إلمامًا بما يعتريها من قلق وخوف وتيه وهرب… وهذيان(ص133) .. وقد شكّل هذا الانفصال والتكسير والمنع والتعدّي إطارًا بزواياه الأربع  تسبح في فضائه شخصيّات هذه الرواية ، كلٌّ بما يكتنزه من أسرار وتجارب قاسية.. فكان انفصال الذات عن ذاتها وعائلتها ووطنها، والتكسير والتصدّع بين العلاقات الإنسانيّة لدرجة القطيعة، كما المنع من التعبير عن المعاناة أو الدفاع عن المظلوم، الى التعدّي على الوجود الإنساني.

بسيرة ذاتيّة للفنان هاني النحّات والرسّام، تتكشّف العلاقة العضويّة بين المبدع وتحفه أو تماثيله، بين الخالق ومخلوقاته، بين المعاناة والإبداع العلوي هذا البوح النابع من مآسي كلّ فنّان”” فنسمع من مسام الطين توسّلًا وبكاءً ويأسًا(ص256)، فنصل الى حقيقة ال” هي ”  المحذوفة والمهشّمة والمستترة وراء ذات غريبةعن ذاتها الأصيلة، والهاربة عبر الأمكنة علّها تصل الى حقيقتها الوجوديّة وقيمتها الإنسانيّة، والمكتسيةً حلّة العلم والثقافة والإبداع الفنّي؛ فمن هي تلك ال”هي“:

” هي” مأساة إنسانية، ضحيّتها طفولة تعثّرت في وحول الأنانيّة والهمجيّة، واستغلال كائن طاهر وبريء، ضعيف غير قادر على الدفاع عن نفسه، بدم بارد وقلب قاسٍ من خلال غياب الدفء العائلي والحبّ الغامر تلك النفس البريئة ، والممسك بيدها للتطلّع صوب الشمس . إلّا أنّ الكاتبة المصقلة بالتجارب ، تتقن فنّ الترميم، فراحت تنشل هذه الطفولة الفاقدة أساسَي انتمائها في هذا الوجود، الى تثبيت دعامة أقوى لها تجنّب هذه التماثيل السقوط والانهيار، ألا وهي روح الصداقة المحيية والمحبّة بمجانيّة، التي تعوّض النقص العاطفي ” جبلة إنسانية ما زالت يانعة، لم تسقط مع أوراق الخريف اليابسة(ص143).

هي صرخة تدوّي في وجه الجهل والظلم والحروب التي تنكّل بمصائر  الشعوب والإنسانيّة جمعاء تبعثر أحلامهم وآمالهم وتهشّم ذواتهم، أرادتها ميّ منسّى خروجًا عن محدوديّة المكان والزمان الى إنسانيّة الوجود، حيث تتوحّد المصائر والمصاعب في المعاناة، من لبنان الى إفريقيا، الى المانيا… تحاول أن تخطّ إنسانًا جديدًا منبعثًا من الهشيم، تنفض عنه غبار فوضى الحواسّ، تبلسم جراحه المغروسة عميقًا ؛ تدفع شخصيّاتها الى أن تعبّر عن وجعها بجرأة الأحرار، إيمانًا منها بأن البوح يشفي النفس من تقوقعها لتواجه حقيقة وجودها مهما كانت صعبة ومؤلمة لقد آن الأوان، بعدما تعرّيت من ثقل سرّك، أن تجابه الشمس بحروقها لا أن تحتمي في فيئها“(ص73).

هي اغتراب الذات عن ذاتها ” مَن أنا؟ / مَن أنت يا رجل؟“، والاستسلام لواقع مفروض عليها، مأزوم، يتتوأمانأهيم بين التماثيل الواقفة المتأهّبة دومًا للرحيل، تبدو لي شريدة، لا وطن لها ولا هويّة“(ص56) . رفضت الكاتبة استسلام شخصيّاتها بالرغم من مآسيهم وأعلنت الثورة ، تحاول معهم البحث عن ذواتهم الحقيقيّة، باعثة من رماد الأزمات نارًا لهّابة لا تنطفئ، إرادة صلبة لمواجهة مرآة الذات أنت ثائر يعني أنّك حيّ”. نجدها صامدة بوجه الأعاصير، متمرّدة على رياح الزمان، قاهرة الخنوع بالوعي والأيمان بقدرة الأنسان على أن يعيد ترميم ذاته فلا يعود التمثال شيئًا ضائعًا، بل بترميمي قطعه المبعثرة، أرى الوجود أكثر وضوحًا، وأكثر تماسكًا، دون أن أكون بذلك قد وجدت علاجي ضدّ القلق والخوف(ص8).وهذا الإيمان يستمدّه من ذاته الإنسانيّة العلويّة المخلوقة على صورة الله ومثاله، الذي جبله من طينه الإلهي وشكّله بيد من حبّ وحنان ونفخ فيه روحه الحرّة ؛ فمهما قسا الزمان الله محبة ولا غير المحبّة تبلسم الجراح وترمّم التصدّعات؛ وهذه العلاقة العمودية لا تثبّتها إلّا محبّة الآخر له ودعمه الصامت في مواجهة تحدّي الذات المبدعة للكون عبر خلق إنسان جديد وتوطيد علاقة روحيّة بين المرئي واللامرئي تفصلها حدود رقيقة جدًّا كلّما جبلت التراب وعجنته وتحسّست ملمسه، تكون في صدد خلق علاقة وهميّة مع اللامرئي”(ص 188).

غلاف الكتاب

منذ روايتها الأولى “أوراق في دفاتر من شجرة الرمّان” الى ” تماثيل مصدّعة“، نلمس قدرة إبداعيّة في اختيار عناوين الروايات لفنّانة محترفة، تتقن تشكيل الكلمات ونحتها لتسبغ عليها فعل الوجود وقيمته. نجد ميّ منسّى صامدة دومًا بوجه مآسي شخصيّاتها، تكفكف دموعهم، تثور معهم على الظلم والحقد والعنف كأنّها تصرخ مع الأخوين رحباني ” بحرب الكبار شو ذنب الطفولي، شو ذنب الضحكات الخجولي”، فتزرع في قلوبهم الأمل والرجاء، ترفض الهروب بهم خوفًا من مواجهة الواقع،كما تحمّل العالم الخطيئة الكبرى المرتكبة بحق الطفولة التي فقدت الأمان والأرض والهويّة…فقدت الحبّ.

.. للتطهّر من براثن الماضي القاتم وتصدّعاته، بنظرها، لا بدّ من ثورة حقيقيّة تبدأ بمصالحة الذات مع كينونتها ومع الآخرين للخلاص، ولو أدّى ذلك الى تصدّع الهيكل إلّا أنّه يبقى واقفًا شاهدًا حيًّا…حرًّا.

 

 

اترك رد