الأزمنة الدينية، النص سيف السلطة

غلاف الكتاب

صدر عن “مكتبة بيسان للنشر والتوزيع” كتاب  “الأزمنة الدينية،النص سيف السلطة” للكاتب والباحث خالد غزال، في ما يلي  قدمة الكتاب.

تشهد المنطقة العربية انفجارًا لبناها المجتمعية بشكل لا شبيه له على امتداد تكوّن دولها منذ مطلع القرن العشرين. يعبّر هذا الانفجار عن نفسه بحروب طائفية ومذهبية تعمل حثيثاً على تفكيك المنظومات الدولتية القائمة وتعيد تقسيم عدد من البلدان إلى دويلات يغلب عليها التصارع. يستظل الانفجار العربي اليوم بالتطرف الإسلامي الذي يجسده الإسلام السياسي بتياراته المتشعبة والمتضاربة والمتناقضة والمتناحرة، يجمعها اعتبار العنف طريقاً لتحقيق أهدافها، وهو ما يتجلى اليوم في أبشع صوره من خلال ممارسات تيارات تعتبر نفسها “جهادية”، من أمثال “جبهة النصرة” و”دولة الخلافة الاسلامية” ومثيلاتها الكثيرة المنتشرة والمزدهرة في أكثر من ساحة ساخنة في المنطقة.

إذا كان العالم العربي وغير العربي يقف اليوم مشدوها من مشهد التطرف الإسلامي على الأرض، فإنّ ذلك لا يحجب ما عرفته المجتمعات الأوروبية من تطرف مشابه خلال العصور الوسطى وقبل أن تدخل في مدار الحداثة. تشير كتب التاريخ إلى الحروب الدينية التي اندلعت بين مكونات المسيحية وحصدت مئات الآلاف  من البشر، قتلا وذبحا، تحت راية المقدس الإلهي واعتبار كل طائفة لنفسها أنها تحتكر الكلام باسم الله، فيما تقيم الأخرى في الهرطقة والكفر بما يحلل إبادتها. لم يكن المشهد المتطرف مسيحياً أقل بشاعة وعنفاً مما تشهده المنطقة العربية باسم السعي لسيطرة الإسلام السياسي على مجتمعاتنا العربية. إذا كانت المجتمعات الغربية قد ردت على التطرف الديني بإنتاج التنوير الفلسفي والفكري، وتكوّن قوى مناهضة للفكر الديني المتطرف الذي شكل “المرشد النظري” لمذابح الكاثوليك والبروتستانت، ووصلت بمجتمعاتها إلى الفصل بين الدين والسياسة ووضع الدين في مكانه الفعلي، فإنّ المجتمعات العربية ما تزال في محطة التدمير لمقومات الدولة، وانفلات قوى الطوائف بغرائزها ووحشيتها، مما يعني أنّ التطرف الديني في هذه المجتمعات هو اليوم في مرحلة الصعود، فيما تفتقد المنطقة ولادة قوى اجتماعية واقتصادية وسياسية وفكرية بديلة يمكن المراهنة على تبلورها والتغلب عبرها على هذا المد المنتسب زورًا إلى الدين وجوهره.

إذا كان المشهدان الأوروبي والإسلامي هما المظهرين النافرين في وضوحهما لجهة تعبير التطرف الأصولي عن نفسه، فإنّ ذلك لا ينفي كون جميع المجتمعات منذ قيامها وتعرفها على الأديان، سواء أكانت توحيدية أم غير توحيدية، قد شهدت صراعاً باسم الدين للسيطرة على النفوذ والسلطة والموارد، واتخذ الصراع فيها أشكالاً متنوعة وفق حال المجتمع الذي دارت فيه الصراعات. لكنّ انفجار الحروب الدينية وصعود التطرف الأصولي، لأي دين انتمى، لا يعني الحكم سلباً على الأديان، بما يستدعي الدعوة إلى تجاوزها أو زوالها، وهي نظرة افترضت ان التطور العلمي سيساعد في زوال الأديان من خلال معالجة العلم للاسئلة الكبرى في الطبيعة أو الاجتماع، وهي أسئلة كان الدين يتولى الإجابة عنها وتفسيرها. فالظاهرة الدينية التي عرفها كل مجتمع وجد على الأرض، والتي منها انبثقت الأديان المستندة إلى التوحيد أو التعدد، إضافة لما يترتب على هذه الظاهرة من ممارسات، تظل تشكل مصدرًا أساسياً لبلورة القيم الإنسانية والأخلاقية، وهو ما يشير إليه الفيلسوف الألماني هابرماس عندما يقول :”إنّ الممارسات والمنظورات الدينية تبقى تمثل مصادر أساسية للقيم التي تمد بالحياة أخلاقيات المواطنة متعددة الثقافات، وهي تفرض التضامن والاحترام المتبادل معا” (قوة الدين في المجال العام). كما أنّ هذه الظاهرة مثلت في مراحل تاريخية دعامة للإحتجاج والتمرد على الاستبداد والطغيان. كما كانت هذه الأديان ، ولا تزال، تعتبر أشبه بثورة روحية تساهم مساهمة رئيسية في الحد من همجية الانفعالات البدائية للإنسان، خصوصاً عندما لا يجري توظيف نصوصها المقدسة في الصراعات المجتمعية.

هذا الانبعاث للتطرف الأصولي في العالم خلال هذه الفترة، يطال أيضاً المسيحية واليهودية بأشكال مختلفة، كما بدأ يدق أبواب أديان لم تألف ظواهر عنف ديني سابقاً، كالهندوسية والبوذية، مما يطرح سؤالاً جوهرياً: هل هو ممارسة للدين أم ممارسة أشكال من التدين؟ اذا كان الدين في جوهره يجسد قيماً إنسانية وروحية وأخلاقية تتجاوز في طبيعتها الزمان والمكان، فإنّ ما يجري ممارسته من شعائر وطقوس وتشريعات، إنما تقع في باب التدين الذي لا يمكن تصنيفه في وصفه من جوهر الدين. فالتشريع الذي يمكن اختزاله اليوم بالفقه واللاهوت الذي انتجته المؤسسات الدينية واجتهادات العلماء ورجال الدين هو الذي يقع في باب المتغير وفق تطور المجتمع وتغير مظاهر حياته. فالتشريع الوحيد المستند حقاً إلى الإرادة الإلهية، والذي يقع ضمن الثوابت هو القانون الأخلاقي الكلي، أما سائر التشريعات فيكون انتسابها إلى الإله بمقدار مواءمتها للقانون الأخلاقي. يطرح التشريع مسألة الفقه الذي بات اليوم يفرض نفسه على الممارسات الدينية والدنيوية على السواء. المشكلة في هذا الفقه، والذي يشكل سمة عامة في الأديان، أنّ منتجيه من الفقهاء ورجال الدين باتوا يضعونه في خانة النصوص المقدسة الأصلية للأديان، ويعتبرونها نصاً إلهياً مقدساً، كل اعتراض عليه هو اعتراض على الدين الأصلي. تتجلى المشكلة في كون هذا الفقه هو، في حيز أساسي منه، انعكاس للصراعات الاجتماعية والسياسية التي نشبت بين الفرق الدينية عندما انقسمت هذه الأديان إلى فرق ومذاهب، فباتت كل فرقة تنتج الفقه المناسب لموقعها وموقفها. لم تتوان أي جهة عن استخدام النص المقدس نفسه في فقهها للتشديد على أنّ ما تطرحه هو الذي يمثل الدين الحق والصحيح فيما سائر الأفكار الأخرى تبحر في الضلال. ناهيك عن أنّ الفقه مرتبط إنتاجه بدرجة الوعي الذي كان سائدًا حينذاك، وبحدود المعرفة العلمية التي تسمح بالإنتاج الفكري، وبطبيعة ثقافة المجتمع وتقاليده، وهي قضايا تتبدل في الزمن، مما يعني أن الفقه أو التشريع مفروض عليه مواكبة هذه التبدلات المعرفية والمجتمعية والعلمية، فيما لا يزال الفقه يقف عند حدود الزمن القديم ويقيم فيه.

لعل أخطر ما ينتج عن ممارسة التدين في المحطة الراهنة من تطور المجتمعات العربية، وقبلها في المجتمعات الغربية، تكمن في سعي الفقه واللاهوت إلى انتاج فكر متخلف، تمتزج فيه التأويلات الشخصية بالخرافات والأساطير، وشحن الهويات، وبث منوعات من الفكر الذي لا وظيفة له إلا إثارة النعرات والأحقاد بين مكونات المجتمع، بما يرافق ذلك من تخوين وتكفير وإهدار الدم. تقوم الوظيفة الأساسية للتدين على الهيمنة على المجتمع وعلى إلغاء حرية الفرد وربط المواطن برباط الطائفة أو المذهب على غرار المثل الشائع لبنانياً، حيث على اللبناني “أن يولد ويعيش ويموت طائفياً”. ليس من قبيل المبالغة وصف الفقه الذي تنتجه المؤسسات الدينية ورجال الدين اليوم في المجتمعات العربية انه في معظمه “فقه الكراهية” . لعل ممارسات الحركات الأصولية على الأرض في أكثر من مكان ليست سوى ترجمة متنوعة ومتعددة الأبعاد لهذا الفقه، وهو ما ينفي مسؤولية الدين في جوهره عن قسم كبير من هذه الممارسات.

لسنوات خلت، كان النقاش والاجتهاد في النصوص الدينية يقع ضمن المحرمات التي يمتنع على غير المؤسسات الدينية الخوض فيها، خصوصا في المجتمعات العربية والإسلامية. دفع كثيرون أثماناً من القمع عندما تجرأوا على تفسير واجتهاد وتأويل لنصوص مقدسة استنادًا إلى قراءات عقلانية وتاريخية للنص بعيدًا عن الأسطرة والخرافة، من هؤلاء : الشيخ علي عبد الرازق، طه حسين ، محمد أحمد خلف الله، نصر حامد ابو زيد، محمد أركون، عبد المجيد الشرفي، عبد الله العلايلي، خالد محمد خالد.. وغيرهم كثيرون، ممن جرى اتهامهم بالهرطقة والخروج عن الدين والارتداد وصولاً إلى تكفيرهم وإهدار دمهم. هذا “غير المسموح التفكير فيه” وفق تعبير محمد أركون، جرى انتهاكه خلال السنوات الأخيرة، وخصوصاً بعد اندلاع الانتفاضات في بعض الأقطار العربية وتصدّر الإسلام السياسي للهيمنة عليها، سواء بفكره أو بممارسته على الأرض وعبر القواعد التي وضعها لسلوك البشر. بدأ النقاش حول علاقة الدين بالسياسة يفرض نفسه، في وسائل الإعلام، وفي نتاج فكري، عزز من انتشاره الصراعات التي اندلعت داخل المؤسسات الدينية المرتبط بعضها بالسلطات السياسية، أو بين رجال الدين أنفسهم حول من يمثل الدين الحق والصحيح، وعززها تعدد تيارات الإسلام السياسي وانتشارها كالفطر بالعشرات، كل ذلك جعل من كسر المحرمات أمرًا واقعاً خصوصاً أن الانتفاضات كسرت من وهرة وسلطة المؤسسة الدينية كما حطمت جدار الخوف الشعبي من النزول إلى الشوارع. يندرج هذا الصراع وتقاذف الاتهامات بين المؤسسات الدينية ورجال الدين أنفسهم في خانة الإيجابيات، حيث تفضح زيف ادعاءات بعضهم البعض وخروجهم عن منطق الدين وجوهره ، عبر توظيف النص الديني في السياسة وخدمة لهذا الطرف أو لغيره. لا يقلل من أهمية النقاش أنه منجدل اليوم بالسياسة وبالصراعات الدائرة حول السلطة، هو أمر له تاريخه المتواصل في المجتمعات العربية الإسلامية. إذا كان الإنتاج النظري في هذا المجال متفاوتاً في مقاربته للقضايا الدينية، إلا أن الانخراط في هذا النقاش هو الشرط الأساسي لبلورة فقه واجتهاد ديني متصل بالعصر ويجيب على مشكلات المجتمع في هذه المرحلة من تطوره، ويعيد الاعتبار إلى الدين وجوهره. هذا النقاش لا بد له أن يلامس مسائل توقف العقل الإسلامي عن التطرق اليها منذ القضاء على المعتزلة وسيادة الجمود العقائدي والديني منذ أكثر من الف سنة. إن مسائل لاهوتية تطال القرآن وخلقه والإرادة الالهية والقضاء والقدر..ممن انخرط فيه علم الكلام في القرون الإسلامية الأولى، ستجد موقعها في مراحل لاحقة من تطور النقاش الديني، سعيا إلى بلورة إصلاح ديني. في هذا المجال يجب التذكير بأن المحرمات “الإسلامية” ليست أقل حدة وعنفاً من “المحرمات” المسيحية قبل اندلاع الإصلاح الديني في القرن السادس عشر، وما تلاه من تطور فكري وضع على البحث كل النصوص المقدسة بما فيها الشكوك بوجود المسيح نفسه، وأخضع اللاهوت المسيحي إلى مبضع الجراحة، مما شكل عنصراً مركزياً في فكر التنوير وسيادة العقلانية.

اترك رد