رِوايَةُ مَعرِفَةٍ وحياة!  

      

 

إِنَّا هُنا، بَينَ الصِّحابِ، كَأَنَّنا بَين                      الجَنائِنِ، والثَّواءُ هَناءُ

نَحنُ الطُّيُورُ على بُحَيرَةِ سارِدٍ                   نَسَقَ الجَمالَ، فَسَردُهُ أَضواءُ

نَسعَى إِلى آياتِهَا، يا لَيتَها                    تَبقَى، ونَبقَى، كَي يَطُولَ صَفاءُ

لكنَّهُ قَدَرُ الثَّوانِي تَنقَضِي،                        يَنفَضُّ صَحبٌ، إِثرَها، ولِقاءُ

تَأوِي الطُّيُورُ إِلى الوُكُونِ، وتَنثَنِي        سَكْرَى الحُرُوفِ، زَهَت، ويَبقَى الماءُ!

 

أَلرِّحلَة مع أَنطوان الدّوَيهِي في كِتابِهِ الجَدِيدِ “غَرِيقَةُ بُحَيرَةِ مُورِيه Lac de Moret”، هِي، لَعَمرِي، لذَّةٌ يَحُفُّها العَناء. فَثِمارُه ليست مُنداحَةً على بُسُطٍ أَمامَكَ ومَدَى ذِراعَيكَ، بَل هي مُعَسَّلَةٌ بَرَّاقَةٌ، ولكنْ على الغُصُونِ العالِيَةِ مِن دَوحَةِ الأَدبِ والفِكر. قد يَرُوقُكَ مَنظَرُها، مِن بُعْدٍ، تَتَلَأْلَأُ في النُّور، ولا يَصِيرُ إِغراؤُها إِلى تَلَمُّظِ قَطْرِهَا إِلَّا أَنْ تُعَبَّأَ المَدارِكُ، فَكُلُّ سَطرٍ جَسَدٌ يَتَوارَى وراءَهُ سَطرٌ هو رُوحُهُ الخَفِيُّ وخَلِيَّةُ الجَمالِ فِيه.

يَبدَأُ الكاتِبُ رِوايَتَهُ بِضَمِيرِ الأَنا، ما يَدُلُّ على أَنَّها سِيرَةٌ ذاتِيَّة. ولا يَظُنَّنَّ أَحَدٌ أَنَّها “أَنا” شَخصٍ رِوائِيٍّ تَصَوُّرِيٍّ، فالنَّاصُّ كَشَفَ عن كُلِّ البَراقِعِ إِذ أَخَذَهُ خَيالُهُ إِلى “بَلدَتِهِ الجَبَلِيَّةِ، بَلدَةِ الصَّيفِ، وهي تَستَيقِظُ على كَتِفِ الوادِي الكَبِير… وإِلى بَلدَةِ السَّهلِ، بَلدَةِ الشِّتاءِ المُقِيمَةِ فَوقَ تَلَّتِها، المُزَنَّرَةِ بِنَهرَيها” (ص 29). فَهَل مِن إِخفاءٍ لإِهدِنَ وزَغَرتَا في هذه الصُّورَة الجَمِيلَة؟

كما يَذكُرُ بِالحَنِينِ مَطارِحَ نَشأَتِهِ وصِباهُ، مِن “قَرْنِ أَيْطُو” (ص 67) إِلى “بِرْكَةِ جُوعِيت” (ص 68)، مِن يَنبُوعِ “عَينِ الوَحْشِ” إِلى “جَبَلِ الحِصْنِ”، وغَيرِها مِن الإِشاراتِ الواضِحَة.

ويَرُوقُ لِي أَن أُشِيرَ إِلى قَرِينَةٍ على ذاتِيَّةِ هذه السِّيرَةِ، حَيثُ يَقُولُ البَطَلُ “وَراءَ مَظهَرِي البالِغِ الهُدُوءِ، كُنتُ حَسَّاسًا إِلى حَدِّ أَنَّ هُبُوبَ النَّسِيمِ يَجرَحُني، ومِثالِيًّا على نَحْوٍ لا يُعقَلُ، كَأَنِّي لَستُ مِن هذا العالَمِ، وكانَت نَفسِي مَسرَحًا لأَشَدِّ العَواصِفِ وأَقسَى الهَواجِس” (ص 14)، و”أَنا المَلِيءُ بِالخَفَرِ، المُتَوارِي في داخِلِي، الَّذي لا أَكشِفُ شَيئًا مِن نَفسِي أَمامَ أَحَد” (ص 103). نَعَم! هذا هو أَنطوان بِكُلِّ كِيانِه. أَوَلَيسَ القَولُ صُراحًا، والمَقُولُ صُورَةً عنهُ في كُلِّ مَراحِلِ عُمرِه؟ فهذه خُلَلُهُ مَنقُوشَةٌ على مَسَامِّهِ، وأَنا أَعرِفُهُ بِهذا الإِهَابِ مُذْ تَرافَقنا على دُرُوبِ الجمَّيزَة في أيَّامٍ عِتاقٍ عِذَابٍ رِقاقٍ في أَواخِرِ سِتِّينِيَّات القَرنِ العِشرِين، ذَهابًا وإِيابًا إِلى المَطبَعةِ، نُساهِم في صَفِّ الحُرُوفِ لِمَجَلَّةِ “الوَعْيِ” الَّتِي كانَ هو عِمادَها الرَّئيسَ، وعَقلَهَا المُدَبِّر.

قد يُلَوِّنُ أُحدُوثَتَهُ، ويُضِيفُ إِلى طَبِيخِها بَعضَ الإِدَامِ، كَي تَكتَمِلَ الظُّرُوفُ القَصَصِيَّةُ، ولكِنْ بِدُربَةٍ عالِيَةٍ، وقُوَّةِ إِيهامٍ تَجعَلُ المُتَخَيَّلَ واقِعًا، وأَذيالًا في رِداءِ الحَقِيقَة. إنَّها مَلَكَةٌ في الرِّوائِيِّ المُتَمَرِّسِ ذِي المَوهِبَةِ الخالِصَةِ الوَلُود.

رِوايَةُ “البُحَيرَة”، هذه، بُحَيرةٌ لِلعَقلِ في جَدْبِ سَقْطِ النِّتاجِ الَّذي يَنهَمِرُ في ساحِ الكِتابَةِ العَرَبِيَّة. وهي رِوايَةٌ فِكرِيَّةٌ بامتِياز.

في مَغمَغاتِ القَصِّ الحَدِيثِ، يَملَأُ المَدَى ضَبابًا يُعمِي، وغُبارًا يَسُدُّ الحُلُوقَ، يَتَبَدَّى رِوائِيُّنا قَلَمًا وَقُورًا، لِلكَلِمَةِ في مَحفِلِه وَزنٌ ورِسالَةٌ، حَفِيًّا بِقارِئِهِ واثِقًا به وبِحُكمِه الصَّواب.

ليسَ ما جاءَنا به مَشهَدٌ مَأخُوذٌ مِن الحَياةِ ومُلقًى على الوَرَقِ بِحَيثِيَّاتِه وجُزئِيَّاتِه، بل هو دِينَامِيَّةٌ فنِّيَّةٌ تُعمِلُ في هذا المَشهَدِ أَنَامِلَ الخَيالِ المَضبُوطِ، وقَلَمَ المُكْنَةِ اللُّغَويَّة في بَيانٍ يَرقَى إِلى مَراتِبِ الشِّعر. والرِّوايَةُ ذِي مِنَ الحَياةِ، مِنْ أَعماقِها، لا تَركُنُ لِحَذلَقاتٍ سَطحِيَّةٍ مِن عُقدَةٍ وتَشوِيقٍ وحَلّ. فَـ”الرِّوايَةُ رَدِيفٌ لُغَوِيٌّ ومَسَارٌ مُوازٍ لِلحَياةِ، في تَفاصِيلِها وبِنيَتِها”، كما رَأَى الرِّوَائِيُّ الجَزائِرِيُّ واسِينِي الأَعْرَج؟

رِوائيُّنا يأنَفُ صَخَبَ العَيشِ، والاختِلاطَ المُضنِيَ، ويَمِيلُ إِلى الانفِرادِ، غائِصًا في “أَقاصِي ذاتِهِ”، مُسافِرًا في داخِلَتِه، وقِبلَتُهُ النَّفسُ البَشَرِيَّةُ يَستَكشِفُ مَجاهِلَها، ويَسبُرُ قَرارَها البَعِيدَ المُظلِمَ، مُبرِزًا نَوازِعَها انطِلاقًا مِن سُلُوكِيَّاتِها المَرئِيَّةِ، راسِمًا الإِنسانَ، هذا الكَونَ الفَسِيحَ المُغلَقَ المُبهَمَ. وكَمُعظَمِ الرُّومانسِيِّينَ، وهو لا مِراءَ مِنهُم، تَبقَى الطَّبِيعَةُ امتِدادًا لِذاتِهِ، يَرَى فيها الهَناءَة، ولا تَنطَلِقُ نَفسُه على سَجِيَّتِها إلَّا في رِحابِها، لَكأَنَّ في نُسغِهِ قَطْرًا مِن نُسغِها، وفي نِداءِ رُوحِهِ نَغَمًا مِن هَتَفاتِها الشَّجِيَّة. وهي، بِكُلِّ مَظاهِرِها، مع الحُبِّ الأوَّلِ الَّذي ما تَأَتَّى له الوِصالُ، جَمْرٌ في الحَنايا، و”جَمالٌ وَحِيدٌ، دائِمٌ، باقٍ” (ص 171).

إِنطِوائِيٌّ، هو، “يُمضِي الكَثِيرَ مِن الوَقتِ مُصغِيًا إِلى أَعماقِ الطَّبِيعَةِ وإِلى أَعماقِ نَفسِه” (ص 7)، “مُتَأَمِّلًا العاصِفَةَ كَطِفلٍ ضائِع” (ص 27). وتَبَدَّى هذا المَنحَى التَّأَمُّلِيُّ، والانغِماسُ في مَظاهِرِ الطَّبِيعَةِ شَغَفًا واستِغراقًا، نَفَسًا رُومانسِيًّا يَنضَحُ مِن شِحِنَاتِ الوِجدانِ المُتفَجِّرِ مَدَى الرِّوايَة. فَلِلطُّيورِ والبُحَيرَةِ والشَّجَرِ والبَيتِ المُتَوَحِّدِ في حِضنِ الغابَةِ أَدوارٌ فاعِلَةٌ بينَ الشُّخُوصِ، مُهَيمِنَةٌ في جِوَاءِ الحَلَبَات. ومِن شَغَفِهِ يَبُثُّ النَّبْضَ في عُرُوقِ الشَّجَرِ، وَيُناجِيهِ كما يُنَاجَى الحَبِيبُ، إِذ “باتَت تَربِطُه بِهِ عَلاقَةٌ وَطِيدَةٌ، وتَواصُلٌ داخِلِيٌّ غَنِيٌّ وعَمِيق” (ص 151).

عَرَفتُه شَفِيفًا كَبِلَّورٍ، رَقِيقًا كَخَاطِرِ عَذراءَ، خَجُولًا كَطِفلٍ، صادِقًا كَسَرِيرَةِ رَسُول. كما أَنَّنِي عَرَفتُه، عِندَ اصطِكَاكِ الرُّكَبِ، رَجُلًا فارِسًا لا تُرهِبُه أَسِنَّةٌ ويَنحَني أَمامَ الحَقّ. يُريدُ التَّحَرُّرَ مِن خَطَأِ المَورُوثِ، فَتُكَبِّلُهُ سلاسِلُ صُلْبَةٌ، و”يُدرِكُ استِحالَةَ انفِصالِهِ عن الجَماعَةِ الَّتي فِيه” (ص 169). وهَيهاتَ له الخُروجُ الهانِئُ مِن رَواسِبِ الذَّاكِرَةِ، وهو “الشَّدِيدُ التَّعَلُّقِ بِالأَمكِنَة” (ص 172)، وحَتَّى بِأَوهَى الجَمادِ، يُؤَنْسِنُهُ ولو كانَ “كُرسِيًّا خَشَبِيًّا مُخَلَّعًا”؟ (ص 70).

تَجرِي رِوايَتُه عَبرَ أَحداثٍ، وهيَ، في شَطرِها الأَهَمِّ، جَوَّانِيَّةٌ بِامتِياز. هاجِسُه، فِيها، أَبعَدُ مِن مَروِيَّاتٍ لِحياةٍ تَعبُرُ إِلى نِسيانٍ كَغَيرِها؛ هو واجِسُ الذَّاتِ التَّوَّاقَةِ إِلى حُرِّيَّةٍ مُطلَقَةٍ، وَسَمْتٍ مَنشُودٍ، مُجانِفٍ غالِبًا لإِرادَةِ الجَماعَةِ ومَخزُونِ الإِرْثِ الضَّاغِط. ولِلأَحلامِ في طَرحِهِ حِصَّةٌ وَازِنَة. في الغَفوَة الَّتي أَخَذَتِ البَطَلَ (ص 32)، يَمْتَحُ البَاطِنُ واللَّاوَعيُ مِن بِئْرِ الأَهواءِ والمَشارِبِ في قَرارَةِ النَّاصّ. وأَظُنُّنِي رَأَيتُ في جَمْهَرَةِ “الاحتِفالِ الجَنائِزِيِّ” بِيئَةَ الكاتِبِ في زَمَنٍ ما، وفي “المِصعَدِ” الَّذي يَعلُو به تَوْقَهُ المُضْمَرَ الدَّفِينَ إِلى حَياةٍ تَأبَى الخُضُوعَ لِأُطُرٍ مَورُوثَةٍ، وفي المَشاهِدِ الَّتي تَمُرُّ أَمامَهُ تِبَاعًا أَحلامًا وأَشواقًا وحَنِينًا تَختَبِطُ نَفسَهُ الجَيَّاشَةَ، ودُرُوبًا يَهدِيهِ إِليها وِجدانُهُ العَامِرُ بِالأَحاسِيسِ والهَواجِس.

ويَقُولُ قائِلٌ: ولكِنَّهُ حُلمٌ، وهل يَستَدعِي الحُلمُ كُلَّ هذا التَّأويل؟

فَيُجِيبُهُ سِيغمُوند فرُويْد: “الحُلمُ يُمَثِّلُ الطَّريقَ المَلَكِيَّ إِلى اللَّاشُعُور”.

وما يَلفِتُ في مَقُولِه حَدْسٌ لاجٌّ، وشُعُورٌ باطِنِيٌّ مُبهَمٌ، قد يَرقَيانِ يَومًا إِلى مُستَوًى مِن اليَقِينِ، يَدُورانِ حَولَ تَدَرُّجِ الإِنسانِ في حَيَوَاتٍ مُتَتالِيَة. وهذا يَرِدُ في كلِّ كِتاباتِ الدّوَيهِي، ما يَدُلُّ على رُسُوخِهِ في قَرارَة ذَاتِه. ويُذَكِّرُنا به، في رِوايَتِهِ هذه، حيثُ يقولُ البَطَل: “كأَنِّي أَقَمتُ فيها خِلالَ حَيَوَاتٍ سابِقَة” (ص 20).

تُراهُ يَقِفُ مُتَأَمِّلًا، مُتَفَكِّرًا، حائِرًا، ورُبَّما مُتَناغِمًا، مع النَّسْخِ والمَسْخِ مِن عَقِيدَةِ التَّنَاسُخِيَّةِ وقد أَدرَجَ في قَصِّهِ ظَواهِرَ غَرائِبِيَّةً، مِن مِثلِ ظُهُورِ الرَّاهِبَةِ في مَكانٍ غَرِيبٍ واختِفائِها المُرِيبِ وشَبَهِهَا بِالمُنتَحِرَةِ في بِلادٍ قَصِيَّةٍ أُخرَى (ص 113)؛ والطَّائرِ اللَّيلِيِّ الغَرِيبِ الحاضِرِ أَبَدًا في حَدِيقَةِ عَمِّهِ المُتَوَفَّى مِن زَمَن (ص 109)؟ فَهَل تُرَاوِدُه، ولا يَبُوحُ، فِكرَةُ بَقاءِ الأَرواحِ ماثِلَةً بَعدَ المَوتِ، وتَقَمُّصِها أَجسادًا جَدِيدَة؟

ومَن يَدرِي… قد يَكُونُ الشُّعُورُ المُبهَمُ المُستَحوِذُ عَلَينا، والمَالِكُ على ذاتِنا، إِرهاصَةً على حَقِيقَةٍ تَهجُسُ في لاوَعيِنا، سَيُدرِكُها الوَعيُ في قَابِلِ أيَّامِه!

والمَوتُ مَاثِلٌ في تَصَوُّرِه أَبَدًا، ورُبَّما استَبَقَ حُصُولَهُ، بِصُورَتِه الَّتي سَيَكُونُ عليها، كما جَرَى لِـ”لُورَا”. وهو حَاضِرٌ طَاغٍ في الرِّوايَةِ، تَتَوالَى أَخبارُه على أَلسِنَةِ الشُّخُوصِ، ولا أَظُنُّها إِلَّا مِن هَواجِسِه عَيْنِه. ولَكَم تَشَهَّاهُ، و”رَغِبَ فيه” (ص 8 و 186 و 190)، وهو الَّذي خَابَ سَعيُهُ مع هذا الغامِضِ المُحدِقِ “بالعِرْقِ البَشَرِيِّ المَنذُورِ لأَلَمِهِ وظُلمَتِه” (ص 182). ولا غَرْوَ مِن فَشَلِهِ في سَبرِ سِرِّه، فَقَبْلَهُ قال نِيتشَه: “لا طَرِيقَ تُؤَدِّي مِن مَفهُومِ الأَشياءِ إِلى جَوهَرِهَا”…

كما وهو غارِقٌ حَتَّى أُذُنَيهِ في جَفْنَةِ الفَلسَفَةِ، ويُؤَرِّقُهُ ما أَرَّقَ أَربابَها، مُشكِلَةُ الزَّمانِ، مُشكِلَةُ اللَّحظَةِ الهارِبَةِ، الَّتي لا تَستَقِرُّ فَتَكُونُ حاضِرًا بَل تَنسَرِبُ إِلى الماضِي فَتُصبِحُ عَدَمًا، واللَّحظَةِ الَّتي هي في بالِ المُستَقبَل وهي لَيسَت بَعْدُ في حَيِّزِ الوُجُود. لَكَأَنَّ الزَّمانَ عَدَمٌ كُلُّهُ، وهُنا الإِشكالُ القائِمُ فِعلًا. في هَجْسِهِ الزَّمَنُ والهَشاشَةُ والتَّلاشِي. يَقُولُ بِلِسانِ البَطَلِ الَّذي هو الكاتِبُ نَفسُه: “ماذا يَحُلُّ بِمَن يَفقِدُ رَكِيزَةَ الحاضِر؟ ماذا يَحصُلُ حينَ يَقوَى الشُّعُورُ بِأَنَّ الحَدَثَ الرَّاهِنَ مُتَلاشٍ، مُنهارٌ في انسِيابِ الزَّمَنِ، لَحظَةَ حُدُوثِه؟ إنَّه لَشَيءٌ رَهِيبٌ أَن يَشتَدَّ الشُّعُورُ بِالتَّلاشِي، بِلا هَوادَةٍ، بِلا تَوَقُّفٍ، في نَهْرِ الزَّمانِ، بِلا لَحظَةِ بَقاءٍ واحِدَة” (ص 26). وسَبَقَ وقالَ الفَيلَسُوفُ هايدغر (Martin Heidegger): “العَدَمُ هُوَ مِن نَسِيجِ الوُجُود. فَاللَّحظَةُ الَّتي وَلَّتْ باتَت في العَدَمِ حينَ تَأثِيرُها بَاقٍ في الحاضِرِ، ولَحظَةُ المُستَقبَلِ الَّتي لم تُولَدْ بَعْدُ هي مِن شَواغِلِنَا في الحاضِر”.

بَيْدَ أَنَّهُ لا يَغرَقُ في العَدَمِيَّةِ بِدَلِيل قَولِه: “كُلُّ هذه الكائِناتِ، كُلُّ هذه الأَشياءِ، الواضِحَةِ، المُبهَمَةِ، لَكِنِ الأَكِيدَةِ الوُجُودِ بِلا ذَرَّةِ شَكٍّ، المَوصُولَةِ بِي، المَوصُولِ بِها، المَوصُولَةِ في ما بَينها، كُلُّها مَعِي، في الحُضُورِ العَمِيقِ، الغَنِيِّ، الدَّائِمِ، الَّذي لا يَنضُب. وهو الحُضُورُ الأَقوَى، وهوَ نَبْعُ الحَياةِ الحَقِيقِيَّة” (ص 46).

تُراهُ حُلُولِيًّا يُؤمِن بِوَحدَةِ الوُجُودِ وهو يُشِيرُ إِلى “رابِطٍ واحِدٍ أَوحَدَ، مَوجُودٍ بِقُوَّةٍ فِيكَ، مُقيمٍ في يَقَظَتِكَ وفي رُقادِكَ على مَدَى حَياتِكَ، وقَبلَ وِلادَتِكَ وبَعدَ رَحِيلِك” (ص 107)، حَيثُ لا نَجِدُ في هذا القَولِ “اللهَ” الأَديانِ السَّماويَّة الَّذي يَبرَأُ الإنسانَ مِن عَدَمٍ وما كانَ قَبلَ ذا في الوُجُود؟

صاحِبُنا مُصَوِّرٌ دَقِيقٌ حاذِقٌ لِمُجتَمَعِهِ، مِن خِلالِ بَلدَتِهِ، بِبَعضِ ماضِيها المَثلُومِ بِالدَّمِ، وَسَوادِها المُنحَسِرِ راهِنًا والَّذي لا تَزالُ صُوَرُهُ مَطبُوعَةً على جِدارِ ذاكِرَتِه.

وهوَ، بِرُؤْيَتِهِ الثَّاقِبةِ، ومَنطِقِهِ النَّيِّرِ الَّذي يَقرُنُ النَّتائجَ بِالأَسبابِ، وذِهنِهِ الوَقَّادِ، يَتَكَهَّنُ بِمصِيرٍ تَعِسٍ سَتَؤولُ إِلَيهِ أُمَّتُهُ الَّتي تَقُودُها “مَقاماتٌ سِياسِيَّةٌ وَرُوحِيَّةٌ تُنبِئُ هَشاشَةُ تَفكِيرِها وبُؤْسُ تَحلِيلِها بِما يُمكِنُ أَن يُصِيبَها مِن كَوارِث” (ص 44).

في وَصفِهِ الوَافِي لِمُجتَمَعٍ غَربِيٍّ عاشَ فيهِ رَدَحًا، واستِرجاعِهِ، تَذَكُّرًا، دَقائقَ أَرضِ مِيلادِهِ وصِباهُ، نَستَشِفُّ مُقارَنَةً خَفِيَّةً، تَأتِيهِ أَحيانًا عَفْوَ الخاطِرِ، تَنضَحُ مِنها مَعرِفَةُ هذا المُتَعَمِّقِ في عِلمِ الاجتِماعِ، المُتَنَسِّكِ في مِحرابِ الثَّقافَةِ، والمُتَمَثِّلِ فِكرًا فَيَّاضًا مُتَنَوِّعَ المَصادِرِ والأَغراض. وإِذْ يَتَأَلَّمُ مِمَّا يُعانِي مُجتَمَعُهُ إِزاءَ طُمأنِينَةِ المُجتَمَعِ الآخَرِ، يُنْطِقُ كامِيليا بِما يَطعَنُ قَرارَتَه: “لماذا كُلُّ هذا العُنفِ في هذه الأَرضِ الكَثِيرَةِ الجَمال؟ إِنَّه لَأَمرٌ يَفُوقُ الإِدراك” (ص 60).

ويُلمِحُ إلى الفُرُوقاتِ الَّتي تَحكُمُ العَلائِقَ بينَ الشَّرقِيِّ والغَربِيِّ، وإِلى خَطَرانِ اللُّبنانيِّ في بِلادِ الاغتِرابِ بينَ قِيَمٍ تَرَبَّى عليها، وأُخرَى وافِدَةٍ على ذُرِّيَّتِه. ولقد أَفاضَ في مُقارَنَتِهِ وكَفَى، في الفَصلِ الثَّانِي عَشرَ، راصِدًا الهُوَّةَ بين عالَمَينِ مُتفاوِتَينِ في الرُّؤَى والمُقارَبات. ولَستُ أَدرِي هل لاءَمَت هَواهُ مَقُولَةُ “الشَّرقُ شَرقٌ والغَربُ غَربٌ ولا يَلتَقِيان”، أَم هو في مَنْجًى مِن نَذِيرِها المَشؤُوم؟

وهو، إِلى هذا، مُرهَفٌ يَعِيشُ المُعاناةَ، مَسكُونٌ “بِماضِيهِ الذَّاتِيِّ والماضِي الجَمَاعِيِّ الماثِلِ فيه مُنذُ أَقدَمِ الأَزمان” (ص 107)، لأَنَّه، أبَدًا، في غُربَةٍ، يَتَنافَرُ خُلُقُهُ مع تَصَوُّرِ الجَماعَةِ الَّتي هو مِنها، وتَأبَى طِباعُهُ أَنماطَها والمَقاصِد. فقد رَسَمَ لِمَرابعِهِ إطارًا كان من يتَشارَكُ مَعَهُم المَصِيرَ خارِجَه. فَغَدَا “في وادٍ، والمُجتَمَعُ في وادٍ” (ص 97)، وباتَ “الفارِقُ عَمِيقًا بين واقِعِ الحَيِّ، وما هو عليه داخِلَ نَفسِه” (ص 41)، فإذا هو فَرِيسَةٌ سَائغَةٌ لِلتَّمَزُّقِ بين جانِبِها الطَّبِيعِيِّ المَرْضِيِّ و”جانِبِها الجَمَاعِيِّ” (ص 86). فهل أَقسَى وأَمَرُّ مِن هذا الطَّلاقِ القائِمِ بَينَ جَماعَةٍ لا فَكَاكَ عَنها، ومُبدِعٍ مُرهَفٍ شَفِيفٍ “مَهجُوسٍ بالمُطلَق” (ص 97)؟

هذا الرِّوائِيُّ ذُو الحَبكَةِ المُتَماسِكَة والإِيقاعِ الخَفِيِّ الشَّجِيِّ الَّذي غالِبًا ما يُسمِعُنا، مع صَوتِ الآخَرِ هَواجِسَنا وهَمَساتِنا، اللَّطيفُ السَّبكِ، الشَّفيفُ الخَيالِ، الدَّفِيءُ المَعانِي، البَعِيدُ المَقصَدِ، المُتأنِّي في اختِيارِ الكَلِماتِ والمُتَنَزِّهُ في رَصْفِها وتَولِيفِها، والمُتَسَهِّدُ كَي تَخرُجَ مِن مَشغَلِهِ نائيةً عن التَّخَلخُلِ، مَنظُومَةً كالعِقيانِ في أَدَبٍ رَفِيعٍ، مُغْدَودِنِ النَّمَاءِ، زَهرِيِّ المُلاءاتِ، يُوحِي بِالسُّهُولَةِ، ولكنَّه عَصِيٌّ مُعْجِز. فقد تَمُرُّ صَفَحاتٌ كُثُرٌ إذا أَرَدتَ تَلخِيصَها بِالوقائِعِ تَجِدُها ضَامِرَةً، فامتِلاؤُها نَفسِيٌّ مَعنَوِيٌّ، وأَحداثُها مَشَاعِرُ تَتَجاذَبُ وتَتَنازَعُ، وشُخُوصُها الخَفِيَّةُ نَزَواتُ جَوارِحَ، وخَواطِرُ تَخُضُّ السَّكِنَات.

لا مَجَّانِيَّةَ عنده، فَنَصُّهُ مَضبُوطٌ لا انفِلاتَ فيه، وكُلُّ لَبِنَةٍ في صَرحِهِ هي مِن أُسِّ مُعَالَجَتِهِ الفنِّيَّةِ والبِنَائيَّةِ، وكلُّ إشارَةٍ، ولو بِكَلِمَةٍ، لها في نَسِيجِهِ أَدَاءٌ وغَايَة.

ويَتَّسِمُ بِمعرِفَتِهِ أَمكِنَةَ القَصِّ، وبِدِقَّةِ الجُغرافيا يُدَعِّمُ بها صِدقِيَّةَ المَروِيِّ، بما يُعَزِّزُ القِصَّةَ ويُغنِي تَفاصِيلَها والسِّياقات. كما يَأخُذُكَ تَشَرُّبُهُ لِوَقائِعِ التَّارِيخِ المُتقاطِعَةِ مع هَدَفِهِ، ورُؤيَتِهِ، وأَحداثِهِ المَروِيَّة.

ولَكَم خِلْتُهُ، مُنْكَبًّا على رِوايَتِهِ، خَطَّاطًا مُستَغرِقًا في رَسمِ لَوحَةٍ خَطِّيَّةٍ تَأخُذُ بِمَجامِعِ قَلبِهِ، وحُنكَةِ بَنَانِه. وأَراهُ عاشِقًا لِكَلِماتِهِ، يَتَأَنَّى في اختِيارِها، وتَولِيفِها، وهذا يَنضَحُ جَلِيًّا مِن بَيانِهِ المُتقَنِ، المُنسابِ كَنَسِيمٍ في مَرجٍ عَشِيبٍ، والمُتَرقرِقِ كَصَفحَةِ بُحَيرَةٍ في لَيلٍ هادِئٍ، وادِعٍ، مُقمِر.

وما يَلفِتُ، في سَردِيَّتِهِ، تَنَامٍ لِلحَدَثِ لا يَشُوبُهُ اضطِرابٌ ولا ارتِكَاسٌ، تَرفِدُه إيحاءاتٌ ذَكِيَّةٌ مُتَنَاغِمَةٌ مع تَطَوُّرِ المَشاعِرِ، وتَلَوُّنِ الصِّرَاعاتِ الدَّاخِلِيَّةِ والحالاتِ النَّفسِيَّةِ، في أُسلُوبٍ مَضفُورٍ بِتَأَنٍّ، غَنِيٍّ بِالصُّوَرِ، ثَرٍّ بِالتَّداعِياتِ، مُعَزَّزٍ بِتَيَّارِ وَعيٍ مُتَّصِلٍ يُتِيحُ التَّحَكُّمَ بِأزمِنَةِ السَّردِ تَقدِيمًا وتَأخِيرًا، ولُغَةٍ سَلِيمَةٍ أَنِيقَةٍ غَيْنَاء.

جَمِيلٌ وبَلِيغٌ وبَعِيدٌ شَأْوُهُ في إِلباسِ الفِكرَةِ لَبُوسًا مُختَصَرًا مُكَثَّفًا، لا تَرَهُّلَ فيه، حَمَّالًا لِلمَعانِي الثِّقالِ، مُوحِيًا يُحرِّكُ أَوتارَ الرُّوح. يقول: “غَرِيبٌ كيف أَنَّ الصَّوتَ، بِصَرْفِ النَّظَرِ عن مَضمُونِهِ، قَادِرٌ على نَقْلِ عالَمٍ بِكامِلِهِ في لَحظَة” (ص 28)، وَ”ليس أَصعَبُ مِن مُعَايَنَةِ الوَحشِيَّةِ والوُقُوفِ بِلا فِعلٍ أَمامَها” (ص 138)، وَ”الرَّغبَةُ القَويَّةُ تَجعَلُ الأَكثَرَ غَرَابَةً مُمكِنًا” (ص 110)… هو ذا لَمْحُ الشِّعْرِ في بَيانٍ كالخَمْر.

في نَصِّهِ حَياةٌ مَوَّارَةٌ تَتخَطَّى التَّنظِيرَ حَولَ مُقَوِّماتِ القِصَّةِ، وأَركانِها الرَّئِيسَةِ، والنَّقدَ الصَّارِمَ الأَصَمَّ. إِنَّهُ سِرُّ الإِبداعِ، يَعصَى على التَّحلِيلِ والتَّشرِيحِ، وَشُرُوطِ المَدارِسِ والمَفاهِيم.

صُورَتُهُ مُكتَمِلَةُ التَّفاصِيلِ، مُوحِيَةٌ، وبِنَاؤُهُ القَصَصِيُّ لا يَشكُو فَراغًا أو نَقصًا أو اضطِرابًا. يَرُوقُكَ أن تُدَقِّقَ في أَدنَى نَمنَماتِهِ، وقد رُسِمَت بِقَلَمٍ سَنِينٍ، لما فيها مِن ضَبْطٍ وإِحكامٍ، كما يُشجِيكَ أَن تَتَأَمَّلَ مَشهَدِيَّتَهُ مِن بُعدٍ لِما في مُقَطَّعاتِها مِن تَناسُقِ أَلوانٍ، وانسِيابِ ظِلال. وإِصرارُهُ على تَسجِيلِ جُزئيَّاتِ اللَّوحَةِ كافَّةً لا يُمِلُّ القارِئَ بَل يُشعِرُهُ بِسِينَمائِيَّةٍ تُواكِبُ سُلُوكِيَّاتِ الشُّخُوصِ، وتُنِيرُ خَفاياها المُتَوارِيَة.

في هذا المُونُولُوجِ الطَّويلِ الَّذي أَشرَكَنا فيهِ، المُثقَلِ بِالتَّأمُّلاتِ، طَغَى الفِكرُ على السَّرديَّةِ التَّقلِيديَّةِ مِن مُقَدِّمَةٍ وعُقدَةٍ وحَلٍّ، فتَجَلَّى مُثَقَّفًا عالِيًا، مُحِيطًا بِشَتَّى النَّظَرِيَّاتِ، فَحَقَّ فيهِ قَولُ الرِّوائِيِّ حَنَّا مِيَنة: “الثَّقافَةُ العَرِيضَةُ تُتِيحُ تَفكِيرًا بِحَجمِهَا”.

لا زالَ قَلَمُهُ مِدْرارًا، ومِدادُهُ نَوَّارًا، لِتَبقَى جَنَّةُ بَيانِهِ أَمامَ أَعيُنِنا العِطاشِ، رَفِلَةً بالخَيرِ واللَّونِ والعَبيرِ، رَفَّافَةً في مَدارِجِ الرِّيح!

*****

(*) أُلقِيت في النَّدوَة الَّتي انعَقَدَت حَولَ رِوايَةِ “غَريقَة بُحَيرة مُورَيه”، للأَدِيبِ الرِّوائيِّ أنطوان الدّوَيهي، الحائِزَةِ على “جائِزَةِ الرَّوايَةِ الُّلبنانِيَّةِ بِالُّلغَةِ العَرَبِيَّةِ لِلسَّنَةِ 2015، الَّتِي تَمنَحُها وِزارَةُ الثَّقافَةِ في لُبنانَ، في الحَرَكَة الثَّقافيَّة أنطلياس.

اترك رد