مبارحه… من خمسين سنه

جوزف أبي ضاهر

(أديب ورسام وإعلامي- لبنان)

 

مبارحه،

تقريبًا مبارحه، من خمسين سنه،

قبل ما ينزل النّفناف.

ولدين تركو تياب الهوشله معلّقين خلف باب البيت، وطلّعو ع الشمس.

طلّعو ع الحريّه.

شو كان في إرهاب بْـ مدرسة إيام زمان:

قضيب رمّان، كفّ معلّم متل كفّ المشحرّجي، وبيعلّم. سطوة مدير، أو خوري، بترجّف، متل ما الهوا بيرجّف القصب.

بس القصب بيغنّي، وما بيبكّي متل ما بكيو الولاد.

فَلّت هاك الايام.

الولدين؟

صارو أكبر من ولدين.

صارو شبّين،

أخدتن الحياة من قلبن لـ عندا، بعدما تْرَسّمَلو من العلم.

لبَّستن قميصين بلون الزهر، الـ بعدو شي عم يفتّح.

شكّلتن عَ الصدر بـ قلمين حبر ناشف. ما عاد في خوف يرخي الحبر حالو عَ الصبيع.

والعينين؟

الله عَ العينين كيف كانو يزوغو، كلّ ما لمحو العطر مارق عَ الدّرب.

… والدّرب؟

شوق ولهفه، وتطليعة الـ غير شِكل بـ الأوّل مرّه.

هيك كنّا… وعَ صوت واطي، منقول اليوم: «رزق الله».

الشبّين دلّن القلم المشكوك بـ قميصن المعرّق بـ الزهر عَ فرد مطرح:

  • «هونيك بدّو يبلّش مشواركن»

… وراحو.

الأوّل خبّى بـ جيبتو «قمر مشغره»… وما عِرِفْ ليش.

يمكن القمر هوّي اللي تخبّى بـ جيبتو تـ يسمع الكانو يقولوه عنّو.

«حشري القمر»؟

يمكن… ويكون، شو همّ.

التاني راح ومعو موج البحر الْـ ما بيهدا. ما هوّي بيشبهو من وَقتْ الـ وعي ع الشيطنه، لَـ حدّ ما ندهو المشوار.

… وتلاقو سوا،

مبارحه،

كأنّه مبارحه، من خمسين سنه.

تلاقو بـ دار «الجريده»، الكانت جامعه حدّ «الجريده» اليوميّه مجلّتين: «الديار» و«رجال الأعمال».

  • مرحبا

لفظو الكلمه سوا.

تشابكو الإيدتين.

ما هنّي بيعرفو بعضن، من قَبل ما يتلاقو.

بيشبهو بعضن، من قبل ما يشوفو بعضن.

مشوارن هوّي ذاتو، ومن دون ما يسألو أي سؤال.

… وبلّشو سوا.

… بس الصدفه ما بتكمّل الخبريّه متل ما نحنا بدّنا.

ما بتشاور حدا، ما بتسأل حدا.

اللي بْـ راسا بتعملو.

قيعدت كلّ واحد بْـ مكتب.

المسافه بين المكتبين ما كانت أكبر من وساعة مَسْكَبة بنفسج أبيض.

ضلّ العطر يتباهى بـ حّالو بهَـ الشبّين الْـ ما كانت الدنيه سايعتن، خصوصي بعدما لمحو إسمن تاني يوم، أو، يمكن تالت يوم… ويمكن بعد جمعه، ما عِدْت متذكّر..

لمحو إسمن مكتوب بـ «الجريده» أو بْـ مجلّة تحت أوّل مقاله كتبوها.

كانو معتقدين إنو هـ المقاله رح تخلّي كلّ الناس تَعرِفن بس يقروها. وصارو هنّي وماشيين يتطلّعو بـ الناس.

يمرقو الناس وما ينتبهولن.

هيك بلّشو سوا من خمسين سنه.

كأنّه مبارحه.

٭٭٭

حوالى السنه، أو أكتر شوي، كلّ يوم هَـ الشبّين يمرقو بْـ مسكبة البنفسج الأبيض، كلّ واحد عَ مكتبو.

الأوّل بيستقبل الشمس هيي وجايي.

والتاني بيودّعا قبل ما يسرّب عَ الأحلام.

الْـ عرفون قالو: شو بيشبهو بعضن: بْـ أفكارن، بْـ أحلامن، بْـ عشقن لَـ المعرفه… كإنّن توم.

بس التوم ممكن يختلفو، يتزاعلو، يغارو من بعضن، يحسدو بعضن.

هنّي؟

كانو برات هَـ الأفكار.

كانو الأقرب لـ بعضن البعض: بْـ الروح، بْـ الفكر، بْـ الحماسه، بْـ التفتيش عن الحلى… وعن الأحلى، من دون ما يتنازل أي واحد من هَـ التنين عن الخصوصيّه الـ بتتميّز فيا شخصيتو، وبتشكلّو هويّه إنسانيّه وثقافيّه.

٭٭٭

 

مبارحه، من خمسين سنه، ولَـ اليوم مَرَق عَ الشبّين التوم ناس كتير:

قسم وقع فوق التراب،

قسم وقع تحت التراب،

قسم بيعَدْ بس وصِل ع البدّو ياه،

قسم أَكَلو الحسد…

والبقيو؟

البقيو قلال، بِقْدُر عدّن عَ الصبيع.

لأ، ما رح عدّ، بخاف يوقع شي إصبع. أنا بحاجه لـ صابيع الإيدتين كاملين.

٭٭٭

بعد سنه، أو أكتر شوي بـ دار «الجريده»، أَصدَرت «صاحبة الجلاله»، (هيك كانو يسمّو الصحافه، رزق الله)… أصدرت أمر خضعنالو تنيّنا. نقل الأوّل عَ مطرح جديد، عَ «دار الصيّاد»، يكمّل الدور المطلوب منّو بـ خدمة الكلمه اللي بتشبهو. وبقيت وحدي بْـ فيّة المطرح البلّشت فيه أكتر من خمس سنين.

بيعدنا المطرح؟

بس ما تَرَكنا اهتماماتنا الجديده تاخدنا من دَفى أخوّتنا الْـ بحلف عَ صوت عالي: ولا يوم، ولا ساعه، ولا لحظه حسّينا بـ الغيم الأسود مارق فوقنا، ووقع منّو علينا نِتَف من غبرة الحسد، أو الشك، أو امتلاك الذات، من دون ما يكون لَـ هالتنين نبره واحده، وصوت واحد، ولو اختلفو الإسمين والشكلين… والمطرحين اللي تقاسمونا… وما قَسَمو، ولو عن بُعد، اللهفه الْـ بعدها ذاتها جوّاتنا، متل ما بلّشت مبارحه من خمسين سنه…

بس…

بس هَـ المره نزل النفناف، نزل وكتّر. وْعينا عَ تَعَب عم يتكدّس جواتنا، وهْموم، وصور بْـ الأبيض والأسود، وضجّة طواحين الهوا الْـ مَا تركتلنا غير الغْبار العَم خَفّف من علاماتو… وسميتو نفناف.

صحيح التسميه أخف عَ السمع، بس المفعول ذاتو.

٭٭٭

يا ألله…

كيف بـ لحظه، ويمكن عَ غفلة عين بيرجع كلّ هـ الماضي يتكوّم قدّامنا.

بتركض المشاهد. بتركض متل المجنونه ما بدّا يانا نكمشا، نوقّفا، أو نكمش صوره منّا، لون، مطرح، اسم، وجّ… حتّى ولا زوغة عينين…  شو بوّستن كلّ ما لمحت المرايه عم تتطلّع فيّي…

تَ تذكرني؟

يمكن.

بس أنا ما نسيت، ولا رح إنسى النبض الْـ ماشي بـ عروقي.

بعدو هوّي ذاتو.

النبض الماشي بْـ عروق الوجّ التاني لهـ التوأم، واسمو: جورج طرابلسي.

*****

(*) «تحيّة إلى جورج طرابلسي»، الحركة الثقافية – أنطلياس، 11 نوّار 2017.

اترك رد