د. رفيف رضا صيداوي
(كاتبة وباحثة- لبنان)
في سياق الكلام الكثير على مشكلات عِلم الاجتماع العربي والتحدّيات التي تواجه العلوم الإنسانية بعامّة، وعِلم الاجتماع منها بخاصّة، تتردَّد في الأوساط الفكريّة والأكاديميّة والثقافيّة مقولة أنّ علماء الاجتماع الذين ينتجون باللّغات الأجنبيّة، الإنكليزية بشكل خاصّ، والفرنسيّة وغيرهما بشكل عامّ، هُم في الغالب، وبسبب ارتباطهم الأكاديمي بالغرب، بعيدون عن مشكلاتهم المحلّية. فإلى أيّ حدّ تصحّ هذه المقولة؟ ولئن صحَّت، فهل نختزل بها مشكلات عِلم الاجتماع في مجتمعنا العربي؟
لا شكّ أنّ نشأة عِلم الاجتماع، أسوةً بكلّ العلوم الحديثة، من إنسانيّة أو غيرها، جاءت في سياق انفتاحنا على غربٍ ربطتنا به، ولمّا تزل، علاقات غير متكافئة، بحيث لم يكُن بإمكان الباحثين الأوائل في العلوم الإنسانية بعامّة، من خرّيجي الجامعات الغربية، “أن يطرحوا سؤال التمييز بين السوسيولوجيا الاستعمارية والسوسيولوجيا التي تتّجه لمعرفة الظواهر خارج مخطّطات الهَيمنة الخارجية” (“تأصيل العلوم الإنسانية في الفكر العربي المعاصر”، كمال عبد اللّطيف). غير أنّ ترسّخ عِلم الاجتماع، من حيث تكوين الباحثين والأكاديميّين والجامعات والمعاهد، أسهم في تجذّر هذا العِلم في مجتمعاتنا على الصعيدَيْن الشعبي والأكاديمي من جهة، بقدر ما أسهم من جهة ثانية في إبراز نخبة من علماء الاجتماع العرب البارزين، أمثال عالِم الاجتماع العراقي علي الوردي، وعالمَيْ الاجتماع المصريَّيْن عبد الباسط عبد المعطي ومحمود حجازي، وعالِم الاجتماع اللّيبي مصطفى التير، والتونسي الطاهر لبيب، والمغربي المختار الهراس وغيرهم كثير. هذا الجيل من علماء الاجتماع، فضلاً عن الأجيال التي تبعته، تلّقى تكوينه الأكاديمي في الجامعات الغربيّة، حتّى أنّ البعض منهم ظلّ مقيماً في الغرب، ينتج منه وبلغته عن مجتمعنا العربي والإسلامي. فلم ينقطع هشام شرابي يوماً مثلاً عن دراسة المجتمع والسلوك الاجتماعيّ العربي، وبُنية العائلة العربيّة والنظام البطريركي والذكوري العربي والمثقَّف العربيّ، فيما أبدع إدوارد سعيد في دراسة الاستشراق الغربي المختصّ بدراسة ثقافة الشرقيّين، منتقداً ومُفكِّكاً خلفيّته الإمبرياليّة، واختصّ محمّد أركون في تفكيك العقل الإسلامي…إلخ. لم تبتعد الجهود البحثية الخاصّة بعلماء الاجتماع أو غيرهم من المختصّين في فروع العلوم الإنسانيّة والمقيمين في الغرب عن رصد مشكلات الواقع العربي بتعقيداته المختلفة، وخصوصاً أنّ عقدة التبعيّة للغرب، البارزة في الثقافة العربيّة، تفكّكت شيئاً فشيئاً. وهنا أستحضرُ مقولة للباحث المغربي عبد الإله بلقزيز، نظراً لأهمّيتها في توصيف الإطار الفكري العربي العامّ، وهي أنّه في سياق الموجات الفكريّة الثلاث التي شهدها الفكر العربي منذ ثلاثينيّات القرن التاسع عشر حتّى اليوم، اتّسم جيل الحداثة الثالث، الذي يمتدّ من عقدَيْ الخمسينيّات والستينيّات من القرن الفائت إلى يومنا هذا، مقارنةً بالأجيال السابقة، بسمات أربع هي أوّلاً، اتصال مفكّريها بمصادر الفكر الغربي وبتيارات الحداثة أكثر من سابقيهم، ثانياً، غلبة المنزع الأكاديمي في التأليف لديهم ونقص في منسوب التبشيرية، ثالثاً، ارتباطهم بعلاقة نقدية بالمرجعَين الثقافيَّين التراثي والغربي، رابعاً تميّز خطابهم الحداثي بنزعة تركيبيّة بسبب علاقتهم المفتوحة والمتوازنة بالمنظومتَين والنظرة النقدية المزدوجة غير الأحادية التي حمكت تلك العلاقة (عبد الإله بلقزيز، من النهضة إلى الحداثة – العرب والحداثة -2-).
في المشكلات البنيويّة
غير أنّ المشكلات الفعليّة التي راحت تُواجِه عِلم الاجتماع، نابعة من عوامل بنيويّة مرتبطة بإشكاليّة تكوّن دولنا الوطنيّة، وما راح يتفرّع عنها من إشكاليّات ومشكلات أسهم في تفاقمها عدم جهوزيّتنا – مع تفاوت في الجهوزيّة بين بلد عربيّ وآخر – لمواكبة التغيّرات العالميّة التي رافقت العَولمة. فكان قطاع التربية والتعليم من القطاعات التي تأثّرت سلباً بتلك التغييرات، ولاسيّما أنّ مشكلاتٍ جديدة تراكبت على تلك القديمة مُفضيةً إلى المشهد الراهن للتعليم الجامعي العربي، وبخاصّة في فروع عِلم الاجتماع. فإلى جانب الاهتمام الضئيل بالعلوم الإنسانية والاجتماعية كفروع معرفيّة ذات قيمة أو تستحقّ الاهتمام، ثمّة مشكلات مزمنة ذكر بعضها “التقرير العربي الأوّل للتنمية الثقافية“، وهي تلك المتعلّقة بالأساتذة الجامعيّين، حيث بات الالتحاق بمهنة أستاذ جامعي التحاقاً بوظيفة أكثر ممّا هو التحاق بمهنة. الأستاذ الجامعي بحسب ما جاء في تقرير “مؤسّسة الفكر العربي”، يبقى في وظيفته طوال الخدمة، طالما أنّه لم يخالف القوانين، وبغضّ النّظر عن نشاطه العلمي وما ينشره من أبحاث، وبغضّ النظر عن ترقيته؛ هذا فضلاً عن غرق غالبيّة علماء الاجتماع العرب “في الموجة الضخمة التي مزجت الإنسانيات وعلوم الاجتماع بالإيديولوجيات السياسية التي كانت مُهيمنة على الجماعات العلمية، ما أدّى إلى تراجع المقصد العلمي والسعي إلى تراكم معرفة الوقائع والقوانين المجتمعية، لمصلحة انتشار النظريات والرؤى والبناءات الذهنية المحدّدة سلفاً”، وصولاً إلى دخول الأصولية الدينيّة بقوّة على موضوع العلوم الإنسانية والاجتماعية، وهي جميعها من الأمور التي أثّرت سلباً على جودة تعليم عِلم الاجتماع، ولاسيّما في ظلّ التحدّيات المتعلّقة بالتعليم العالي عموماً، ومنها اتجاهه أكثر فأكثر نحو التنوّع الذي راح يطرح معه مسألة جودة التعليم، فضلاً عن انخفاض الإنفاق على الطالب الواحد في وزارات التعليم العالي أو في موازنات الجامعات الحكومية منها أو غير الحكومية.
يُذكر أنّ الطلبة المُلتحقين بمجموعة حقول الإنسانيات/العلوم الاجتماعية يشكّلون نسبة 69 % من مجموع المُلتحقين بالجامعات العربية، وأنّ “العلوم الاجتماعية” تشكّل النسبة الأعلى (36.1 %) بحسب إحصاءات عائدة للعام 2006 (التقرير العربي الأوّل للتنمية الثقافيّة)؛ ما يعني أنّ جامعاتنا تُخرِّج للمستقبل طلّاباً – أساتذة لفرع عِلم الاجتماع يفتقرون إلى المعايير العلمية التي تأسَّس عليها هذا العِلم، وخصوصاً مع ازدياد حدّة الدمج بين الإنسانيات وعلوم الاجتماع من جهة، والإيديولوجيات السياسية من جهة ثانية. ففي لبنان مثالاً لا حصراً، أظهر تقرير صادر عن “مشروع إستيم” Projet Estime (مشروع تقييم القدرات العلميّة والتقنيّة في دول البحر المتوسّط) نَشَره المعهد الفرنسي للشرق الأوسط IFPO في آب (أغسطس) 2007، أنّ نحو 80 % من الباحثين مُرتبطين بجامعات، في حين أنّ النسبة الأكبر من الباحثين المرتبطين بجامعات في سوريا هُم الباحثون في عِلم الاجتماع والأنتروبولوجيا، وموزّعون في جامعات دمشق وتشرين وحلب (أي الجامعات الرسميّة)؛ ما يشير إلى العلاقة الوثيقة بين الباحث والأستاذ الجامعي، بحيث إذا ما تراجع الإعداد المهني للأستاذ، أفضى ذلك آليّاً إلى تراجعه كباحث.
في هذا السياق، أستحضر تصنيف مايكل بوراووي لأنواع عِلم الاجتماع في دراسته “نحو سوسيولوجيا للعموم” (المنشورة في مجلّة إضافات، العدد 10، شتاء 2010)، وهي أربعة: السوسيولوجيا المهنيّة Professional Sociology والسوسيولوجيا النقديّة Sociology Critical المتّصلتان بالجمهور الأكاديمي من جهة، وسوسيولوجيا العموم Public Sociology وسوسيولوجيا السياسيات Policy Sociology المتّصلتان بجمهور أوسع؛ حيث يشرح أهمّية كلّ نوع من هذه الأنواع لتبيان أهمّية سوسيولوجيا العموم (والتي هي بحسب شرحه عبارة عن سوسيولوجيّات). لكن، من أهمّ ما جاء في دراسته أنّه من دون وجود “سوسيولوجيا مهنيّة توفّر المنهجيّات الصحيحة التي تمّ اختبارها، والمعارف التي تمّ جمعها، والأسئلة الموجِّهة لمسار العمل، والأطر المفاهيميّة”، لا يُمكن لبقيّة السوسيولوجيّات أن تقوم لها قائمة. ذلك أنّ السوسيولوجيا المهنيّة هي التي توفِّر لسوسيولوجيا السياسات ولسوسيولوجيا العموم “الشرعيّة” و”الدراية”، ولاسيّما أنّها تتألّف “من عدّة برامج بحثيّة مُتداخِلة، يضمّ كلّ منها افتراضاته الخاصّة، ونموذجه الأصلي، وأسئلته المحدَّدة، وأدواته المفاهيميّة، ونظريّاته المُستنبَطة”؛ فيما يكمن دَور السوسيولوجيا النقديّة “في دراسة أُسس البرامج البحثيّة للسوسيولوجيا المهنيّة – سواء منها الأُسس الواضحة والضمنيّة، أم الأُسس المعياريّة والوصفيّة”.
نحو توازن السوسيولوجيّات
في رأيي أنّ دعوة مايكل بوراووي المشجِّعة لسوسيولوجيا العموم في مجتمعه، لا تستوي في مجتمعاتنا، بسبب معاناة عِلم الاجتماع من كلّ المشكلات والتحدّيات التي ذكرناها آنفاً، ولاسيّما أدلجة هذا العِلم، فضلاً عن مُمارَسة الأستاذ الجامعي/ الباحث في عِلم الاجتماع دوره كداعية إيديولوجي، أو ناشط حقوقي، وكاتِب مقالة يوميّة وغير ذلك من الأنشطة التي تصبّ في سوسيولوجيا العموم، أو تحوّله إلى مستشار أو خبير، وهي صفة اشتدّ تداولها في العقود الثلاثة الأخيرة، في ظلّ العَولمة والتحرير التجاري، ولاسيّما مع تزايد أعداد المنظّمات غير الحكوميّة المدعومة بتمويل أجنبي، والتي يصعب التمييز بين الغثّ والسمين منها، وافتقارنا إلى دراسات تتناول المستوى العِلمي لتقاريرها وأبحاثها ودراساتها لجهة قدرتها الفعليّة على خدمة النظريّة الاجتماعية والسوسيولوجية، انطلاقاً من معطيات الواقع المحلّي العربي. وهي معطيات تسمح لنا، عبر تملّكها بشكل منهجي وعلمي، باستخلاص القوانين الاجتماعيّة المتحكِّمة بمختلف الظواهر الاجتماعيّة العربيّة، وبتطوير النظريّة الاجتماعيّة العامّة في آن، عبر إعادة إنتاجها، والإسهام في تطويرها بوصفها نظريّة علميّة كونيّة مُسيِّرة للبحث العلمي.
إنّنا، والحال كذلك، غارقون، إذا ما استخدمنا مصطلحات بوراووي، في سوسيولوجيا العموم على حساب السوسيولوجيا المهنيّة. ولئن كان لدينا علماء اجتماع أفذاذ، فإنّه ينقصنا عِلم اجتماع مهني يكون قاعدة ومرجعيّة لجماعة علميّة مُنتجة لنظريّات اجتماعية. المسألة ملحّة إذن، وخصوصاً إذا ما علمنا أنّ منظِّرين غربيّين مختصّين في دراسة الإسلام، وعلى رأسهم الأميركي من أصل بريطاني برنارد لويس Bernard Lewis، وغيره من المُحافظين الجُدد الراسِمين للاضطّرابات في الشرق الأوسط، هُم بأغلبيّتهم الساحقة (كما يرد في دراسة الدكتور محمّد شرقاوي: “الربيع العربي بين نظريّة المؤامرة ونظريّة قوس الثورة المشدود”، من “التقرير العربي الثامن للتنمية الثقافيّة: العرب بين مآسي الحاضر وأحلام التغيير: أربع سنوات من الربيع العربي“، مؤسّسة الفكر العربي، 2014) متخصّصون في العلوم الاجتماعيّة.
*****
(*) مؤسسة الفكر العربي- نشرة أفق.