المناطق الآمنة إذ تستنسخ وقف النار

خالد غزال

(كاتب وباحث- لبنان)

للوهلة الأولى يبدو اتفاق «آستانة 4» الذي وقعته دول روسيا وتركيا وإيران مختلفاً في الشكل والمضمون عن الاتفاقات السابقة في شأن وقف النار. الاتفاق الجديد كان صريحاً في تحديد المناطق التي ستعتبر «آمنة»، وهي «مناطق الحد من التصعيد ينبغي أن يتم إنشاؤها بهدف إنهاء العنف في شكل عاجل وتحسين المناطق». وهذه المناطق تحديداً: محافظة إدلب وأجزاء معينة من المحافظات المجاورة (اللاذقية، حماة وحلب)، مناطق معينة من شمال محافظة حمص، الغوطة الشرقية، مناطق معينة من جنوب سورية (محــافظتي درعا والقنيطرة)، وفق ما نصت عليه الاتفاقية.

كما ينص الاتفاق على وقف الأعمال العدائية بين النظام والمعارضة ووقف الأعمال العسكرية الجوية من قبل دول التحالف الدولي، مع استمرار الأعمال العسكرية ضد «جبهة النصرة وداعش».

في الاتفاق ما هو جديد، وفيه ما يتطابق مع اتفاقات وقف إطلاق النار السابقة. الملاحظة الأولى تتصل بتنفيذ الاتفاق على الأرض، فعلى رغم مرور أيام عدة على إعلان تنفيذه، يستمر النظام السوري في عملياته العسكرية ضد قوى المعارضة على مختلف أنواعها. لا شك في أن النظام يتصرف من موقع إبلاغ القوى «الضامنة» بأن تجاهله في الاتفاقية وفرض القرارات عليه مسألة لا يقبلها، وخير ترجمة لرفضه أن يتابع القتال. هذا من جهة. من جهة أخرى، لا يزال النظام أسير منطق أحادي الجانب، يرفض أي تسوية سياسية تحد من سلطاته المطلقة، بل ويصر على الحسم العسكري وإعادة توحيد سورية تحت قبضته. هذا من دون أن ننسى أن النظام يخشى فعلياً بعد هذه السنوات من صفقة دولية يدفع رأسه ثمنها. وإذا كان النظام أعلن قبوله بالاتفاق، فلا يجب أخذ هذا الإعلان على محمل الجد.

الملاحظة الثانية تتصل بموقف المعارضة المسلحة. فالوفد العسكري الذي ذهب إلى مفاوضات آستانة رفض التوقيع على الاتفاق، وتوعد الآخرين بالرد على الأرض في سورية. كان الوفد العسكري مدركاً تداخل القوى العسكرية على الأرض، ولم يخف عليه أن القرار بتواصل العمليات العسكرية ضد التنظيمات المتطرفة هو قرار ملتبس وغامض سيأخذ الجميع بالجملة ولن يقتصر على «داعش والنصرة». وهذا الأمر سبق وعرفته قوى المعارضة المسلحة عندما تعذر التمييز بين معارضة معتدلة ومعارضة متطرفة.

هذا الموقفان من النظام السوري والمعارضة المسلحة يضعان تطبيق الاتفاقية في مهب الريح، ويؤشران إلى صعوبة تنفيذها في الأشهر الستة المحددة لها. وهو أمر جديد – قديم في الأزمة السورية والاتفاقات التي صيغت حولها لوقف إطلاق النار.

الملاحظة الثالثة تتصل بالموقع الجديد المعطى لإيران في ضمان المناطق الآمنة. في الموقف من إيران في سورية، لا يمكن سوى التحصن بسوء الظن في الأهداف الإيرانية من التدخل في سورية. لم تخف إيران أهدافها من أن تدخلها أبعد من الحفاظ على النظام السوري الذي يشكل منع سقوطه هدفاً جوهرياً لإيران. جاهرت إيران ولا تزال بمشروعها الإقليمي الذي يجعل من العالم العربي، خصوصاً دول بلاد الشام، مدى حيوياً لإيران، وكان تعبير الهلال الشيعي أحد ترجمات هذا المشروع الذي لا تزال إيران تعمل بقوة لتحقيقه. أن إدخال إيران ضمن القوى الضامنة يجعل منها الخصم والحكم في الوقت ذاته، وهو ما يثير الشكوك حول الأهداف البعيدة لصفقة ما مع النظام الإيراني، تهيئ لها روسيا ضمن تقاسم المصالح في منطقة الشرق الأوسط. إن إدخال إيران في لعبة المناطق الآمنة لن يوفر الأمن لهذه المناطق، بل سيسعّر من الصراع في الداخل.

وعطفاً على الملاحظة الأخيرة، تزداد الشكوك من تعيين مناطق محددة لفرض وقف إطلاق النار فيها، وهي شكوك تصل إلى ترجمة ما يثار حول مصير سورية وتفكيك كيانها إلى كانتونات، قد تكون هذه المناطق «البروفه» الأولى لتقسيمات أخرى تستند هذه المرة إلى إعادة تركيب ديموغرافيا سورية على قاعدة الطوائف والمذاهب والإثنيات. لا أحد يتحدث عن تبدلات في الكيان الجغرافي لسورية، ولكن إعادة تركيبها من الداخل بدأ يطرح نفسه بقوة بعد أن وصلت الأمور إلى حد يصعب على أي طرف من أطراف الصراع حسمه عسكرياً، وبعد أن باتت السلطة الرسمية ومعها قوى المعارضة ألعوبة في يد القوى الإقليمية والدولية.

يبقى السؤال مطروحاً عن الموقف الأميركي، والحديث الجاري عن صفقة إقليمية ودولية أساسها الاتفاق مع روسيا، ما سيطرح أسئلة عن هذا الموقف، خصوصاً أن الغموض لا يزال يخيم عليه، بين تصريحات تؤيد الصفقة التي تمّت في آستانة، وبين التحفظ عن هذه الاتفاقية. يحتاج الأمر إلى بعض الوقت ليظهر الخيط الأبيض من الخيط الأسود.

 

 

اترك رد