قزحيا ساسين
(شاعر-لبنان)
أعترف لكم، أيّها الأحبّاء، أنّ العلاقة الّتي تربطني بـ جورج طرابلسي علاقة طفلة، عمْرُها بضع سنوات. إلاّ أنّني تورَّطت في الانتساب إلى حديقة الأطفال في قلبه الّذي يليق بأن يكون للطّفولة أيقونتَها.
صدمَني هذا الرّجُل، بأنّه ليس من قطّاع الطّرُق في صفحات الجرائد الثّقافيّة. وليس بحامل عُقَد أدبيّة،، فهو لا يعرف الثّأر الصّحافيّ، ولا يناصر أقلامًا على أخرى، إنّما يكتفي بعَرض البضاعة الإبداعيّة، ويترك لقارئه أن لا يكون أسيرَ الصّنف الواحد على الطّريقة الهتلريّة الأدبيّة. جورج ساحة الضَّيعة. يلتقي فيها الجميع. لا قلم يطرق بابه ويبقى خارِجًا. وإنْ يكُن القلم ذو الكوخ غيرَ القلم ذي القصر الفريد. هو يعرف طعْمَ فمِه جيِّدًا، لكنّه من الصّارخين في بَرِّيَّة الحبر:” أعِدّوا طريق الجمال”، وعليه، فإنّه يبارِك حمَلَةَ الأقلامِ شموعًا، ولا يقيس بمسطرتِه نور كلّ شمعة.
صدمَني هذا الرّجُل، بأنّه لم يتسلَّق قلمَه إلى الشّجرة المُثْقَلَة بالمال، فلم يدَعْ ورقته البيضاء تأخذ شكلَ كفٍٍّ للاستعطاء على رصيف السّياسة الّذي منحَ الكثيرين أقلامًا ذهبًا، غيرَ أنّ جورج طرابلسي آثرَ أن يكتب بقلم من تراب الكلمة الذّهبيّة.
صدمَني هذا الرّجُل، بأنّه يعتبر الصّوت بينه وبين النّاس خبزًا ومِلْحًا، ويغتالك بتواضُعه، ويشْعرُك حينن يعطيك بأنّه يأخذ منك، ويحاصرك بلغة عاطفيّة، فتقول في سرِّك:” سبحانَك ربّي، كيف لقلبٍ أن يصيرَ رَجُلاً”؟!
أيها الأحبّاء، إنّي أحبّ فقْر جورج طرابلسي. فالفقْر أثمنُ ما يملكُ الشّرفاء. أحبّ وجعَ القلبِ والرُّكبتَينن فيه، لأنّ القلوب الّتي تحبّ كثيرًا تتعب قبل الأوان، ولأنّ الوقوف عزًّا يتعب الرّكبتَين كثيرًا.
والحمد للّه أنّ كرامة صديقي جورج ما دخلَت غرفة العناية الفائقة يومًا، وأنّ ضميرَه لم يعانِ يومًا “سفقةة هواء”. لصديقي جورج من الكبرياء خرَزاتُ ظَهْر، وله شبَعُ الأنبياء من أرغفتهم الصّغيرة، فالأنبياء يأكلون وصاياهم حين يجوعون.
أعطى صديقي الصّحافة اللّبنانيّة بياضًا يشفع بسواد حبرها، و”طعَّمَها” بالآدميّة، وكتبَ قليلاً، لأنّه لا ينتمي إلى ميادين الثّرثرة. فجورج طرابلسي جزء حميم من ضمير الصّحافة اللّبنانيّة. ويقيني أنّه إذا كتب سيرتَه يكون قد ساهم بصدق في كتابة تاريخ لبنان الحديث، التّاريخ الّذي أخشى أن يصادرَه منتصِرو السّيف أو منتصِرو المال، والّذي يجب ألاّ يُكتَبَ إلاّ بقلم لم يُرِقْ دمًا، لا بالرّصاصة ولا بالدّولار. إنّه التّاريخ المنتظِر قلمًا لا ناقةَ له ولا جمَلَ في تجارة الهيكل. إنّه التّاريخ الحزين إذا كُتِبَ بـ “شيكٍ” موقَّعٍ من أسياد الحروب، الموهوبين في هندسة مجاري أنهار الدّماء.
جورج طرابلسي جادت عليّ الأيّام بصداقته، ومشكلتي معَه أنّني حين أحمل قلبي على كفّي وأركض،، يمتطي قلبَه حصانًا ويسبِقني. مشكلتي معَه أنّني أسرقُه على غير علْم منّي فأكتب ما مرَّ غمامًا في خاطره، أو مطرًا على أوراقه المخبَّأة في الجوارير، وحين أنشر في صفحة “الأنوار” الثّقافيّة، كأنّني أوقّع باسمي ما كتبَه هو، وأنا أعترف بكامل قناعتي: كم من النّصوص كتبَها الآخَرون على غير علْم منّا، ووقَّعْناها نحن.
صديقي جورج، أرجو أن تستمرّ خرزةً زرقاء تردّ العين الفارغة عن الصّحافة اللّبنانيّة، وأتمنّى أن يبقىى قلمُك من تراب وكلمتك من ذهب.
*****
(*) ألقيت خلال تكريم جورج طرابلسي في الحركة الثّقافيّة، أنطلياس، الخميس 11 أيّار 2017