هدى عيد
(أديبة وروائية وشاعرة- لبنان)
تمثل رواية ” استراحة مفيستو ” للروائي والشاعر العراقي بُرهان شاوي، والصادرة عن منشورات ضفاف في طبعتها الأولى 2016، قراءة عميقة لجوهر الوجود البشري المحكوم بحركة دائرية مغلقة، لا سبيل إلى الفرار من إسارها.
ينسج الكاتب عبر روايته، ومن خلال الشخصيات التي يحمّلها رؤيته ومنظومته الفكرية الفلسفية، بناء سردياً خاصاً يحكمُه مبدأ نسبية الحقائق، حيث لا حقيقة ثابتة أو نهائية، لا شخصية نموذجية، ولا رؤية يقينية.
تظهر في الرواية شبكة من العلاقات المتشابهة في ظروفها، وفي نشأة تَماسّها، عاكسةً رغبة الخلاص عند الإنساني المأزوم العالق في أُطر العلاقات الاجتماعية الدنيوية المادية المعقدة، مظهّرةً رغبة الفهم للذات، والوعي لمأزقها الوجودي، والرغبة في تخطيه طوال الوقت.
نحن في ” استراحة مفيستو” أمام رواية أفكار أكثر منها رواية تجربة إنسانية واقعية. يتوخّى صاحبها الغرائبيَّ سبيلاً لتمرير منظومته الفكرية حيال الوجود الإنساني البائس والمفسد للحياة. تلك الحياة التي استحالت مكاناً دائم الحثّ على الهرب منه. حياة تشبه الفندق بالنسبة للإنسان القلق الهارب: ” لكن لا مكان لك في هذا الفندق، لقد امتلأ منذ وقت طويل… ليس أمامك سوى المقبرة… فهي المكان الآمن الوحيد في الحياة… هناك النوم أكثر أمنأ وهدوءا من هنا…”[1]، ورغم ذلك قد تنعدم الأمكنة لاستمرار وجوده فيه.
وإذا كان الكاتب يبتكر شخصية “آدم المسكين ” وشخصية حواء، بنُسخهما المتعددة، ليولد حبكته الفنية التخييلية فإنما يفعل ليمرّر جملة من الأفكار الفلسفية المعروفة يؤكد من خلالها على نسبية الحقيقة، على طبيعة الوجود: الحياة/ الوهم، اليقظة/ الحلم، نافذاً إلى هدفه المتمثل في تسليط الضوء على الاجتماعي الخرِب حيث انعدام الأخلاق على الصُعد: السياسية الاجتماعية الخلقية الثقافية…
فآدم المسكين غارقٌ في مأزقه المعيشي، ومبعثه اقتصادي: الدين الذي أصبح تراكماً أفسد عليه حياته، وعرّضه للخطر، وحواؤه تعاني الملل والشغف به لكن مؤسسة الزواج الفاشلة تشكل حائلاً بينهما. أزمة الدَّين مع قابيل والخوف منه تدفعه للفرار من الشقة. يصل إلى الفندق : فارغ وممتلئ في آن، أزمة/ وحلّ في الوقت عينه، المقبرة هي المكان الوحيد الآمن في الحياة.
يتمثّل الحدث المحرك بإيجاده الغريب،في المقبرة، لحقيبة النقود، يقبض عليها. لكنّ رزمها التي أسعدته لا تظهر عبر المرايا. فتتبلور عبر القول الفني لعبة الوجود الهشّ المقارب للفقد. فكل شيء في الحياة سرابيّ، وهميّ، والوعي يشابهُ انعدامه، أمّا اليقين فاستحالة.
ويسأل القارئ نفسه لمَ آدم مسكين؟ هل لأنه أدرك؟ هل المعرفة تدعو للإشفاق من هول الكشف لأنها تدخل الإنسان في شرنقة المأزق والوعي؟ كل الشخصيات الموظفة في متن السرد الحكائي: آدم المسكين، آدم الضائع، آدم الطيار، آدم المحامي… أو النسخة الأنثوية منها : حواء الدلو، حواء الصوفي، حواء النمرود، تبدو مجرد حاملات لأفكار جاهزة تقوم بعرضها وتفصيلها، ويتولى الراوي العليم الكشف على ألسنتها.
فالشخصيات تتكلم وتهجس لتعرض أفكارها ( ومن خلفها الكاتب) الأيديولوجية المتمحورة حول الرؤية لهذا العالم ” استراحة الشيطان” التي تضمن الخلود لمن يقبل الإقامة فيها، على أن يبيع نفسه له. عن الإنسان الذي تردّى ” قابيل القاتل المرابي” الذي يسترد حقه مضاعفاً، بالقوة والترهيب. عن المجتمع الذي فسدت حركة أبنائه حتى المثقفين منهم أو مدّعي الإبداع : ” أترى كلما ازدادت ثقافة المرء وتميزت مكانته وإمكانياته ازداد خبثاً وحيلة ووحشية” [2]. عن المرأة التي تبدو قوية لكنها تحافظ على شحنتها العاطفية المعروفة فتسارع إلى الاندفاع واستثمار المغامرة المتاحة.
إذا كان برهان شاوي قد تخلى في روايته هذه عن مفردة “المتاهة” التي وظفها في عدة روايات سابقة له، إلا أن المتاهة بقيت حاضرة بقوة في عمله الروائي هذا الذي اشتمل، على الكثير من مشاهد الحبكة البوليسية ( التخفي والظهور المفاجيء)، يجعلها ذريعة إغراء بتقديم المتعة للقارئ.
أمّا لعبة التشابه في الوجوه، والأسماء الموظفة، والملامح المقدَّمة عبر الوصف الدالّ فقد تقابلت طوال الوقت، مع الاختلاف لمشاهد المكان وسرعة تحوّله بصورة كاريكاتورية أحياناً، لتُجيّر لصالح الثّيمة الأهم في الرواية، المتمثلة في تماثل المصير البشري، وفي محكوميته الأبدية بالتعاسة، وفي ضرورة تسليمه روحه للشيطان إذا أراد الحصول على نعيم الأرض المتمثل: بالمال وبتحقيق الرغبات الجنسية بالدرجة الأولى!
يغرق برهان شاوي في عالمه المتخيل رغبة منه في استثارة الأسئلة لدى قارئه وفي إيقاظ ذهنه، كي لا يبقى هذا الأخير مجرد هائم مسكين في متاهة الحياة الدنيا. وكأنه، إذ يفعل، يرمي إلى إيقاظ حواسّه ووعيه عساه يستقرئ واقعه مجدداً، فلا يبقى ذاهلاً عن ذاته، لا يحسن التعرف عليها ولا يعرف ” من هو بالذات “؟
******
[1] ص 23.
[2] ص 73.