مُورِيس وَدِيع النَجَّار
(أديب وشاعر وروائي وقاص وناقد- لبنان)
(لِمُناسَبَةِ مَنحِ الأَدِيبِ الدّكتُور أَحمَد عُلَبِي جائِزَة جان سالمه)
أَن يَستبِدَّ بكَ فَراغٌ في الرُّوحِ، وإِحباطٌ مِن آسِنٍ حَولَكَ، فَتَتُوقُ نَفسُكَ إِلى خَلْوَةٍ عن كُلِّ حاجِزٍ مادِّيٍّ مُضْنٍ، فَإِنَّ إِلى الأَدَبِ المُسكِرِ مَلاذَكَ، فَلا شَيءَ فِيهِ إِلَّا جَمالٌ يَتَلَأْلَأُ، ونَشوَةٌ عارِيَةٌ تُراوِدُ الفِكر.
ولكِنْ؛ أَنَّى لِلهَوَى ما يَبغِي، والسَّاحُ مُربَدَّةٌ بِصَحائِفَ قَد يَكُونُ بَياضُها، أَحيانًا، أَجدَى مِن سَوادِها، وأَنتَ في مَعمَعانِها تَنشُدُ الخَلاص… أَمَّا اللُّجَّةُ فَطامِيَة.
بَيْدَ أَنَّه، وإِنْ تَلَبَّدَتِ السُّحُبُ، واكفَهَرَّ الأَدِيمُ، يَبقَى، في خَلَلِ الغُيُومِ شُعاعاتٌ تَذهَبُ بِالكَثِيرِ مِن غُمَّةِ الصَّدرِ، وتَنقُلُكَ، حالِمًا، إِلى عالَمٍ مِن صَفاءٍ ونَقاءٍ… وأَنت إِلى فَكَاكٍ مِن أَسرِك.
ومِنَ الذُّرَى الَّتي تُنشَدُ، ولَو شَقَّ المُتَوَقَّلُ، أَدِيبُنا الكَبِيرُ الدّكتُور أَحمَد عُلَبِي.
هو واحَةٌ تُقصَدُ في حَمَارَةِ الهَجِيرِ، وشُعاعٌ في حُلكَة الأَقلام.
رَسَّامٌ، هو، بِالكَلِماتِ، ونَحَّاتٌ بِاليَراعِ المُحكَمِ، وعَاشِقٌ لِلطَّبِيعَةِ مُتَيَّمٌ، تَمُدُّهُ بِشِعرِيَّةٍ ضَافِيَةٍ لا تَخفَى مَدَى بَيانِه. وأَسَرَّ النَّجْوَى يَومًا فقال: “خُذُونِي، يا صَحبِي وأَخِلاَّئِي، إِلى المُرُوجِ الخُضْرِ المُنَمنَمَةِ، إِلى السَّواقِي الجارِيَةِ ذاتِ التَّمتَمَةِ والخَرِيرِ، إِلى الكُرُومِ الحُبْلَى بِالجَنَى”(1).
في حِبْرِهِ الفاحِمِ كُلُّ أَلوانِ الطَّيْفِ الجَمالِيِّ. قَنادِيلُهُ تَعِبَت مِن سَهَرِ اللَّيالِي، لا يُفَرِّجُ عَنها ضَناها الطَّويلَ إِلَّا أَن يُضوِيَ الحُرُوفَ اصطِيادًا، وشَحذًا، وصَقلًا، وحَكًّا، وتَشذِيبًا، وتَأَمُّلًا، ومُداعَبات…
أَمَّا دِيباجَتُهُ، فَبَياضٌ في قِمَمِ الثَّلجِ العَوالِي، وتَغرِيدُ حَساسِينَ في كُرُومٍ خَضِلَةٍ مُنَدَّاةٍ، ورَقصُ لَهَبٍ في مَواقِدَ مُضطَرِمَةٍ، ومَوْرُ حُسنٍ في قَوامٍ رَشِيقٍ أَتلَعَ.
في رَصائِعِهِ عَلائِمُ الصِّحَّةِ، بادِيَةٌ، لا تَشكُو شُحُوبًا يُنذِرُ بِتَرَدٍّ إِمَّا خَبَرَتها رِياشٌ ناقِدَة. وهِي، إِن مَرَّت على مَن طالَ شَأْوُهُم في اللُّغَةِ، وتَحَنَّكُوا في الكَلامِ، لا يَضِيرُها أَتُّونُهُمُ اللَّاهِبُ، فَهِيَ مِن فُولاذٍ صَلْدٍ صَقِيل.
هو صاحِبُ أُسلُوبٍ مُمَيَّزٍ بِسَلاسَةِ الكَلِمِ وَوَقعِهِ الرَّقِيقِ، وبَلاغَةِ التَّعابِيرِ، ودِقَّةِ التَّصوِيبِ، وبَرَاعَةٍ في إِيصالِ الفِكرَةِ بِطُرُقٍ لا تَعُوقُ بِها أَخادِيدُ، أَو صُعُدٌ شاقَّةٌ، بَل تَحُوقُ بِها مَبَاسِطُ فِيْحٌ أَدِيمُها زَهْرٌ، وفَضاؤُها عَبِير.
يَلفِتُنا صاحِبُنا بِدِقَّةِ التَّوثِيقِ ورَحابَتِهِ، فهو لا يَبخَلُ بِالحَواشِي الغَنِيَّةِ العَمِيقَةِ، ولا يَترُكُ لِلقارِئِ مَجالًا لِتَساؤُلٍ، ولا يَدَعُ عَتَمَةً إِلَّا ويُهلِكُها بِالشُّمُوع.
وهو يَحفَظُ، في صَحِيفَتِهِ، لِلبَلاغَةِ، والسَّلاسَةِ، والبَيانِ العَالِي، واللُّغَةِ الفَخمَةِ، والنَّقدِ المُلتَزِمِ الرَّصِينِ، رُكْنَ الصَّدارَةِ، حِينَ لِلسُّهُولَةِ المُونِقَةِ، والتَّصوِيبِ إِلى الهَدَفِ، مَنزِلَةٌ حَمِيمَةٌ في صَدرِه. ثُمَّ، لَكَأَنَّهُ، بَينَهُما، يَمشِي على حَدِّ سَيْف؛ فَلا هذه تَسُودُ لِيُصبِحَ النَّصُّ بَلاغًا بَخْسًا، جافًّا، قد يَسقُطُ في التَّرَهُّلِ، ولا تِلكَ تَطغَى حَيثُ يُخشَى أَن تُغَالِيَ الكِتابَةُ في صَنعَةٍ قَلَّ أَن تَستَسِيغَها الذَّوِائِق.
وهو يَنتَقِي المُفرَدَةَ بِحِذقٍ جَلِيٍّ، وتَحَسُّسِ شاعِرٍ، فَإِذا هِيَ، مع رَصِيفاتِها في الفِقرَةِ، حَمَّالَةٌ لِلصُّورَةِ الَّتي راوَدَتهُ، ولِلفِكرَةِ الَّتي اعتَمَلَ بِها بَالُهُ، ورافِدَةٌ المَبنَى المَشِيدَ بِصَلابَةِ الهَيكَلِ، وطَرَاءَةِ المَرئِيِّ مِنهُ، ورَخَامَةِ المَسمُوع.
لا يُطَرِّزُ أَدِيبُنا الكَلامَ، ولا يُغرِقُ دِيباجَتَهُ بِتَحسِيناتٍ مُصطَنَعَةٍ، ولا يَتَكَلَّفُ اللُّغَةَ العالِيَةَ العِمادِ، ولا يَتَنَكَّبُ على الأَلفاظِ الفَخمَةِ المُرتَاحَةِ إِلى عَراقَتِها البَلاغِيَّةِ، ولكِنَّهُ يَكتُبُ بِأُسلُوبٍ رَشِيقٍ سَهلِ المُتُناوَلِ، حُلوِ البَساطَةِ، سَلِيمِ المُتُونِ، عَمِيقِ الدَّلاليَّةِ، فِيهِ الكَثِيرُ مِن جِدَّةِ التَّراكِيبِ، وبَراعَةِ التَّعبِيرِ، سِمَتُها ثَراءٌ في المَضامِينِ، ثَمَرَةُ اطِّلاعٍ واسِعٍ، وعُمقٍ في التَّفكِيرِ، ووَعيٍ بِشُؤُونِ السَّاحِ الاجتِماعِيَّةِ والأَدَبِيَّةِ والفِكرِيَّة.
وهو مِن أَربابِ كُتَّابِ المَقالَةِ، يُوَفِّيها حَقَّها، فَيَطِيبُ بَلاغُها في لَبُوسِها الأَدَبِيِّ الرَّاقِي. وهي إِن طالَت يَستَزِيدُها القَارِئُ، وإِمَّا قَصُرَت فَهُناكَ تَلَمُّظُ الشَّهدِ والرَّحِيق.
كِتابَتُهُ صَبِيَّةٌ رِيفِيَّةٌ، لا يَعرِفُ رُواؤُها مِن المَساحِيقِ إِلَّا ما تَجُودُ بِهِ الشَّمسُ، وتُلَطِّفُهُ أَنسامُ البَرارِي، فَتَبرُعُ بِفِتنَتِها الغَوانِيَ المُثقَلاتِ بِالحِلَى، والمُضَمَّخاتِ بِأَغلَى العُطُور. فِيها الطِّمُّ مِن شُفُوفِ الجَمالِ، لَكَأَنَّها جَفَناتٌ مُذَهَّبَةٌ، مُتَلَأْلِئَةٌ في الوَهِيجِ المُشِعِّ، وفي أَدِيمِها رَونَقٌ وصَباحَةٌ، وفي مَكنُونِها سِرُّ العافِيَةِ، وإِكسِيرُ النَّشوَة.
أَللُّغَةُ العَرَبِيَّةُ غَنِيَّةٌ، لَيِّنَةٌ، مِطوَاعٌ، إِيقاعُها مِن تَكوِينِها، تَفِي بِكُلِّ الأَغراضِ، وهي مَعِينٌ لا يُدرَكُ قَرارُهُ، يَرفِدُهُ نَبْعٌ داخِلِيٌّ سَلسَبيلُهُ الاشتِقاقُ والصِّياغَةُ، فَإِذا استَسقاها أَحَدُهُم فَما بُلَّ عَطَشُهُ، فَهَل تُلامُ البِئْرُ والدَّلْوُ مَثقُوبَةُ القَعْر؟!
أَمَّا صاحِبُنا، فَدَلْوُهُ وَسِيعَةٌ سَلِيمَةٌ، وزَندُهُ مَحبُوكُ العَضَل… فَلِلَّهِ دَرُّهُ، كَم سُقِينا، على يَدَيهِ، مِن ماءٍ وَفِيرٍ نَمِير!
يَقُولُ الشَّاعِر:
“هَذِي حُرُوفُ اللَّفظِ سَطرٌ واحِدٌ
مِنها يُؤَلَّفُ لِلكَلامِ بِحارُ”.
وأَدِيبُنا، عاشِقُ اللُّغَةِ المُدَلَّهُ، غَرَفَ مِن هذا “السَّطرِ الواحِدِ” فَإِذا أَنهارُ الكَلِمِ الشَّجِيِّ المُرَوَّقِ جَوارٍ دَوافِقُ، وإِذا في الأَدَبِ ضَفْوَةُ حُسنٍ، وفي النَّقدِ فَساحَةٌ، وفي القَصِّ غَناء.
على أَنَّه، وهو المُتَبَحِّرُ في العَرَبِيَّةِ، لَهُ رَأيٌ مُتَقَدِّمٌ في شُؤُونِها، قد لا يَرُوقُ لِعُصبَةِ المُتَزَمِّتِين الصَّنَمِيِّينَ الَّذين، لَو أُوتِيَ لَهُم لَحَنَّطُوا اللُّغَةَ الأَجمَلَ في قَوَالِبَ، ولَمَنَعُوا عَنها الضَّوءَ والهَواء. فَها هو يَقُول: “اللُّغةُ دائِمًا تَطرَحُ نَفسَها تَعبِيرًا عن ازدِهارِ العَصرِ أَو أَزْمَتِهِ، فَلَيسَت هي قَضِيَّةً مُنفَرِدَةً قائِمَةً بِذاتِها وإِنَّما تَتَبَدَّى في عَلائِقَ جَدَلِيَّةٍ لا تُحصَى بِالهُمُومِ الفِكرِيَّةِ الَّتي يُنَاطُ بِها التَّعبِيرُ عَنها”(2).
وصاحِبُنا، إِمَّا تَناوَلَ حالَةً اجتِماعِيَّةً، أَو وَضعًا سِياسِيًّا بِالمَعنَى المُطلَقِ، أَو عَمَلًا، أَو عَلَمًا – مُفكِّرًا أَو أَدِيبًا أَو شاعِرًا – يَتَجاذَبُه عَقلٌ مُدرِكٌ وَاعٍ يُجِيدُ الإِحاطَةَ، وثَقافَةٌ شُمُولِيَّةٌ تَعمَدُ التَّصنِيفَ والمُقارَنَةَ، ومُكْنَةٌ أَدَبِيَّةٌ تَأبَى لِطَرحِهِ إِلَّا الرِّفعَةَ والجَمالَ، وحِسٌّ مُرهَفٌ يَتَوَسَّلُ الرُّؤْيا والخَيالَ الشَّفَّ لِيُضفِيَ على المَقُولَةِ رَونَقًا يُحَرِّكُ الوِجدانَ، ويُغرِي الذَّائِقَة. فَلَأَنتَ، مَعَهُ، إِلى استِزادَةٍ في المَعرِفَةِ، وسَكَنٍ لِلبالِ، وانتِشاءٍ بِالصُّوَرِ الزَّاهِيَةِ، والتَّراكِيبِ المُمَوسَقَةِ العِذَاب. وهو صاحِبُ رَأيٍ حُرٍّ مُجَرَّدٍ، لا تَشُوبُه أَيُّ اعتِباراتٍ، ولا كانَ يَومًا مَطِيَّةً لِغَرَضٍ يَتَنافَى مع القَناعَةِ المَوضُوعيَّة. يَقُولُ، مَثَلًا: “الكلامُ الثَّورِيُّ هو غَيرُ الأَدَبِ الثَّورِيِّ، والشِّعاراتُ لا تَصنَعُ أَدَبًا، والشِّعرُ الَّذي تَنتَفِي مِنهُ الصُّورَةُ الأَدَبِيَّةُ يَسقُطُ في المُباشَرَةِ والإِنشاءِ والنَّظم”(3).
نَحنُ بِحاجَةٍ لِأَمثالِهِ، أَقلامًا لا تَخضَعُ إِلَّا لِسُلطَانِ العَقل…
وصاحِبُنا مُجِيدٌ في سَبْرِ أَغوارِ النَّفسِ البَشَرِيَّةِ، وتَحَسُّسِ رُوحِ الأَشياءِ ولَو صَمَّاءَ جامِدَةً. ولَيسَ لِقارِئِهِ أَن يَتَمَلمَلَ أَو يَتَبَرَّمَ برُفقَتِهِ، إِذ هو في ثَراءٍ مِن كُشُوفٍ عَمِيقَةٍ، وفي هَناءَةِ لَذَّتَين: واحِدَةٍ مَنبَعُها طَلاوَةُ الكَلِمِ، وجَمالُ الأُسلُوبِ، وَأُختِها مِن عُمْقِ المَعرِفَةِ، واكتِنازِ الثَّقافَةِ، ورُجْحانِ الحِكمَة. وأَتَمَثُّلُ، لِهذا، بِقَولِه: “مُلامَسَةُ الخَبِيرِ لِلآلَةِ شَأنُ مُلامَسَةِ العاشِقِ لِجَسَدِ مَحبُوبَتِهِ، تَختَصِرُ تارِيخًا وخِبرَةً وهُيامًا”(4).
هذا الرَّصينُ، المُتَهَجِّدُ مع كُتُبِهِ وأَقلامِهِ وقَراطِيسِهِ، سَاعَةَ يَغزَلُ بِالمَرأةِ فَالحِبرُ عِطرٌ يَملَأُ الصُّدُورَ، والشَّوقُ على جَنَاحٍ هَفَّافٍ، والقَلَمُ جَرِيءٌ مِقحَامٌ في واحاتِ الضَّرَمِ واللَّذَّة(5). لَن أَكشِفَ السِّترَ عن نَجاواهُ الدَّوافِئِ، في هذا الحَفلِ الرَّفِيعِ، كَي لا تَغُضَّ حِسَانُ القاعَةِ أَطرَافَهُنَّ، فَالعَسَلُ يفِيضُ في الصَّحِيفَةِ، ويَفُوحُ شَمِيمُه. أَفَما كان الشَّبَابُ جَمُوحًا، واليَراعُ رَسَّامٌ بَارِع؟(6).
ثُمَّ إِنَّنِي لَن أُمَرِّرَ الدَّنَّ أَمامَ أُنُوفِكُم، فَدُوَارُ الخَمرَةِ، السَّاعَةَ، بَعِيد!
أَحمَد عُلَبِي ناقِدٌ مُتَمَرِّسٌ، يَومَ “النَّقدُ في ثَقافَتِنا العَرَبِيَّةِ المُعاصِرَةِ يَكادُ المَرءُ أَن يَقُولَ فِيه: رَحِمَهُ الله”(7)، كَما أَسَرَّ، هُو، ذَاتَ بَوْح. وفي نَقدِهِ تُلازِمُ المَحبَّةُ القَلَمَ، فهو قد يَرَى في الحَقلِ أَلفَ زَهرَةٍ قَبلَ أَن يُشِيرَ بِسَبَّابَتِهِ إِلى شَوكَةٍ عَارِضَة. وهو إِمَّا تَناوَلَ عَملًا، فَإِنَّهُ يُضِيءُ على مَفاصِلِهِ كافَّةً، مُستَخرِجًا كُنُوزَهُ المَكنُونَةَ، وذلك بِأُسلُوبٍ جَذَّابٍ فِيهِ مَتانَةُ الأُصُولِ على سَلاسَةِ التَّراكِيبِ، وسَلامَةٌ مُطلَقَةٌ في المَبانِي، وتَفَحُّصٌ مُحكَمٌ لِلمُتَناوَلِ الفِكرِيِّ والأَدَبِيِّ، في إِطارٍ مِن رِوايَةِ السِّيرَةِ، والتَّارِيخِ، والطَّرائِفِ، والمَروِيَّات. ولَنا في كِتابَيهِ الجامِعَينِ حَولَ طهَ حُسَين ورَئِيف خُورِي، الرَّائدَينِ مِن حَيثُ الدِّقَّةُ والإِحاطَةُ والشُّمُولُ، خَيرُ مِثال. ولَأَنتَ، مَدَاهُما، في صُحبَةِ تارِيخٍ شامِلٍ، وطَرائِفَ دَوَّنَها فَعَصَمَها مِن التَّلَفِ، وفي كَنَفِ مُؤَرِّخٍ يَصُولُ ويَجُولُ فَلا يَترُكُ مَيدانًا إِلَّا وخَبَّت في رِحابِهِ خَيلُه.
وهو مَوضُوعِيٌّ مُنصِفٌ، لا يَتَهاوَنُ إِذا رَأَى شَطَطًا. فَها نَجِدُهُ، مَثلًا، على مَحَبَّتِهِ الغامِرَةِ النَّاصِعَةِ لِرَئِيف خُورِي، وإِعجابِهِ بِهِ، والوُدِّ المَكِينِ الَّذي جَمَعَهُما، لا يَتَوَرَّعُ في القَولِ، مُشِيرًا إِلَيهِ مُتَحَدِّثًا عن التَّجرِبَةِ السُّوﭭياتِيَّة: “إِنَّ ما خَطَّهُ أَشبَهُ بِدِعايَةٍ ساذَجَةٍ لِلسُّوﭭيات”(8).
وَ”يَتَمَلَّكُهُ العَجَبُ كَيفَ أَنَّ رَئِيفًا أَقحَمَ على النَّصِّ الرِّوائِيِّ جُملَةً مُعتَرِضَةً أَخَلَّت بِوحدَة السِّياق”(9).
وفي مَحَلٍّ آخَرَ يُشِيرُ كَيفَ “كَسَرَ السِّياقَ”(10)، بِتَشبِيهٍ لا يَتَلاءَمُ مع عَصْرِ الحِكايَة.
تَدُلُّ هذه الأَمثِلَةُ على قُدسِيَّةِ الحَقِيقَةِ الأَدَبِيَّةِ عند كاتِبِنا أَمام وُدِّ الصَّداقَةِ، فَــ “هي أَوَّلٌ وهوَ المَحَلُّ الثَّاني”، على حَدِّ تَعبِيرِ المُتَنَبِّي.
لَقَد كَفَيتَنَا مَؤُونَتَنا عن الأَدِيبِ رَئِيف خُورِي، وإِنَّنا نَرَى، لِلمُناسَبَةِ، أَنَّك مِن خِيرَةِ مَن يُمكِنُهُ لَملَمَةُ نِتاجِهِ، وجَمعُ شَتاتِهِ مِن مَظانِّهِ، والإِضاءَةُ عَلَيهِ، وتَبويبُهُ وتَحقِيقُهُ، مِن حَيثُ هو مُبَعثَرٌ في الصُّحُفِ والمَجَلاَّتِ، كَي لا يَتَفَرَّقَ أَيدِي سَبَا. ولا نَظُنُّكَ تَتَلَكَّاُ عَن المَهَمَّةِ إِمَّا تَعَرَّضَت لَها جِهَةٌ تُمَوِّل. أَوَلَستَ القَائِلَ: “نِتَاجُكَ المَطوِيُّ تَمامًا، في صُحُفٍ ومَجَلَّاتٍ، نَحنُ لَهُ لَنابِشُونَ، إِن أَسعَفَتنا الظُّرُوف”؟(11).
أَحمَد عُلَبِي ناقِدٌ على الصُّورَةِ الَّتي رَسَمَها، هو، إِذ قال: “لَستُ أَتَخَيَّلُ أَنَّ نَاقِدًا حَقِيقِيًّا يُمكِنُ أَن يَنطَوِيَ صَدرُهُ على غِلٍّ أَو حَسَدٍ أَو خُيَلاء. النَّاقِدُ قِيمَةٌ أَدَبِيَّةٌ وخُلُقِيَّة. ولَيسَ مَعنَى هذا أَن يَكُونَ النَّاقِدُ مُتَساهِلًا في أَحكامِهِ، فَالنَّقدُ لا يَحتَمِلُ أُسلُوبَ جَبْرِ الخَواطِرِ وسِياسَةَ “مِنِّنَا”(12).
في جِلدَةِ هذا الكاتِبِ رُوحُ رَحَّالَةٍ عَينُهُ عَينُ نَسْرٍ، وبَصِيرَتُهُ بَصِيرَةُ حَكِيم. لا تَفُوتُهُ شارِدَةٌ ولا وارِدَةٌ، يَمُرُّ على الصَّغِيرَةِ كما على الكَبِيرَةِ، وكُلُّهَا تَحتَ شَباتِهِ شَيِّقَةٌ، مُسَلِّيَةٌ، مُفِيدَة. حِكايَتُهُ تُجافِي المَلالَةَ، وتَيَّارُهُ يَجذِبُ القارِئَ إِلى قَرارَةِ النَّصِّ، فَأُسلُوبُهُ شَيِّقٌ، مُطَعَّمٌ بِالفُكاهَةِ الذَّكِيَّةِ تُصِيبُهُ سِهامُها بِقَدرِ ما تُصِيبُ الآخَرِين. أَمَّا كِتابُهُ “في حَنايا الوَطَنِ المُلهَم”، فهو مَعْلَمٌ في أَدبِ الرِّحلَةِ، فَقَارِئُهُ في مَشهَدِيَّةٍ مُكتَمِلَةٍ، بِتَفاصِيلِها الدَّقِيقَةِ، وحَواشِيها التَّاريخِيَّةِ المَعرِفِيَّةِ، وأُسلُوبِها الأَدَبِيِّ الرَّاقِي المُطَعَّمِ بِنَوادِرِ هذا الأَدِيبِ الأَرِيب. ولَيسَ بِسَهلٍ أَن يَجذِبَنَا مَعَهُ إِلى مَطارِحَ تَستَهوِيهِ، في عَصرِنا المُتَمَيِّزِ بِوَسائِلِ النَّقلِ السَّرِيعَةِ المُرِيحَةِ، وإِعلامِهِ الوَالِجِ كُلَّ زاوِيَةٍ في كُلِّ مَنزِلٍ، حَتَّى لوِ انزَوَى “في رَأْسِ الجَبَل”، لَو لَم تَكُنْ لَهُ مَقدِرَةٌ فائِقَةٌ في السَّرْدِ، والتَّشوِيقِ، وضَخِّ المَعلُومات.
وهو مِن الصَّنَعَى في السُّخرِيَةِ الهادِفَةِ، يُحَمِّلُها آراءَهُ الاجتِماعِيَّةَ، ويَكشِفُ، عَبرَها، مَنظُورَهُ السِّياسِيَّ الرَّاقيَ. إِنَّهُ السَّاخِرُ العَمِيقُ، في رُوحِهِ مِن زَخْمِ ﭭولتِير، ومَضاءِ برنارد شُو، وطَرافَةِ المازِنِيّ.
وإِنَّ وَراءَ هَمْزِهِ ولَمْزِهِ، وهَمْسِهِ الباسِمِ، لَمَرارَةً جُذُورُها ضَارِبَةٌ في جِراحِ الوَطَنِ، وفي عَرَقِ الطَّبَقاتِ المَعسُورَةِ، والوَجَناتِ الَّتي غَضَّنَها التَّعَب.
ولَن أَتَمَثَّلَ بِالكَثِيرِ مِن نِتاجِهِ، فَالوَقتُ زَاحِمٌ، بَل أُرشِدُ القارِئَ إِلى واحِدَةٍ مِن مُقَطَّعاتِهِ السَّاخِرَةِ، مَقالَتِهِ “الرَّجْرَاج” مِن كِتابِهِ الشَّيِّقِ “تَحتَ وِسادَتِي”، ويَقِينًا سَيَعُودُنِي بِالشُّكرِ، غِبَّ القِراءَةِ، وبِالرَّحَمَات.
أَلَا يَا مُنتَضِي الأَقلامِ، حُرُوفُنَا السَّوَاحِرُ يَمَضُّها السُّكُونُ، فَصُولُوا صَولاتِكُم لِنَرَى الغِلالَ مَطرُوحَةً على بَيَادِرِكُم. فَأَمَّا القَمحُ، فَكَوائِرُنا مُشرَعَةُ المَصارِيعِ، وأَمَّا الزُّؤَانُ، فَفُوهَةُ العَدَمِ فَاغِرَةٌ، ساغِبَةٌ، لَن تَشَبَع!
دَرَجَتِ الكَلِماتُ الأَدَبِيَّةُ، في جُلِّها، في المُناسَباتِ التَّكرِيمِيَّةِ، على الإِطنَابِ الفَائِضِ في التَّفخِيمِ، والمَدِيحِ المُنتَفِخِ، الَّذَينِ قد لا يَتَناسَبان مع واقِعِ الأَمر. فَمَن شامَ مَخايِلَ تَزَيُّدٍ في كَلامِي، فَإِنِّي ذَكَرتُ بَعضَ ما يَستَحِقُّهُ هذا الأَدِيبُ الكَبِيرُ، ولَرُبَّما قَصَّرتُ، ولَكِنْ حَسبِيَ السَّعْيُ، وما وَسِعَ القَلَم.
أَحمَد عُلَبِي…
يا مَن أَقَمتَ “عَلاقَةً وِجدانِيَّةً مع الوَرقِ”(13)…
يا مَن “حَياتُكَ مِن حَياةِ قَلَمِك”(14)…
نَتَبَصَّرُ في قَولِك: “العِلمُ صِنوُ التَّواضُعِ الجَمِّ والطِّيبَةِ وعَشِيرُ الجُهدِ الصَّامِتِ والمَعرِفَةِ الرَّاسِخَة”(15). فَلِلَّهِ دَرُّكَ، أَما تَتَكَلَّمُ عَن نَفسِك؟ أَوَلَستَ الأُقحُوانَةَ الخَجُولَ لا تَتَنَطَّحُ لِلرَّكبِ العابِرِ، ولكِنَّها تُعَطِّرُ فَضاءَهُ بِالعَبِير؟
يا مَالِئَ الصُّحُفِ والمَجلَاَّتِ بُحُوثًا أَكادِيمِيَّةً تُواكِبُ جَمالِيَّتُها فَائِدَتَها العَمِيمَةَ، ومَقالاتٍ أَدَبِيَّةً عالِيَةَ المَنَافِ، وقِصَصًا مَحبُوكَةً حَبْكَ الزَّرَدِ، وخُلاصاتِ حَياةٍ تَقَطَّرُ حِكمَةً أَين مِنها شَهدُ القُفرَانِ، أَلا فاضَ مِدادُكَ، فهو نَزِيفُ رُوحِكَ يُنعِشُ رُوحَ الوَطَن المُتَخَبِّطِ في حَمأَةِ جِراحِهِ، والَّذي لَن يَنهَضَ إِلَّا على رِياشِ أَمثالِكَ مِمَّن سِلاحُهُم قَلَمُ الخَيْرِ، وفِكرُهُم إِكسِيرُ المَعرِفَة!
يا صاحِبَ “العُلَبِيَّاتِ”، تَرَعَت عِلابُكَ جَواهِرَ، فَلَأَنتَ المُؤْنِقُ، وباتَ عاشِقُو المِدادِ يَتَرَصَّدُونَ لِصَحائِفِكَ، ويَنتَظِرُونَ رِفْدَكَ، فَلا تَبخَلْ عَلَيهِم وِصالًا، ولا تُضنِ الحَرفَ بِالمَلالِ، فَما عَهِدناكَ إِلَّا غادِيًا كُلَّ بَدْعٍ، سَخِيًّا إِن طَغَت مَواسِمُ عِجاف.
كَتَبتَ، فَزَها القَلَمُ، وَهْجُهُ، وضَاءَتِ الصَّفَحاتُ، وارتَوَتِ الحُرُوفُ مِن مَعِينِكَ الثَّرِّ، وعَقلِكَ الثَّاقِبِ، ونَقدِكَ الوَزِينِ، وقَرَّت نَفسُكَ، وطابَت أُوَيقاتُكَ، وتَلَمَّظتَ النَّشوَة. نَعَم، أَوَلَستَ القائِلَ: “أَنا أَملِكُ قَلَمًا أَستَظِلُّ بِمَلَكُوتِهِ وأَستَشعِرُ عِندَما أَركُنُ إِلَيه سَكِينَةً ومَسَرَّةً وحُبُورًا وغِبطَةً وراحَةَ ضَمِيرٍ وما لا أَدرِي مِن الأَحاسِيسِ الَّتي تَبدُو حِيالَها المَناصِبُ والأَموالُ مَتاعًا ساقِطًا وباطِلَ الأَباطِيل”(16)؟
فَطُوبَى لَكَ نَعِيمُكَ، فهو فائِضٌ أَبَدًا بِالنُّعْمَى، ودامَت لَنا أَلاكَ نَشتَارُ مِن نَداها شَهْدًا مُصَفَّى…
ومَدَّ اللهُ حِبْرَ يَراعِكَ، سَيَّالًا فِكرًا وبَلاغَةً ونَقاءً، لِتَبقَى، لِنَخِيلِ الواحَةِ وأَعنابِها، واحَةِ الأَدَبِ الحَقِّ، نَضارَتُها العَصِيَّةُ على الحِقَب…
أَطالَ اللهُ عُمرَكَ، كِمًّا طَيِّبَ الفَوْحِ والبَوْحِ، في زَمَنِ الشِّحّ…
********
(1): (“في حَنايا الوَطَنِ المُلهَم”، ص 173).
(2): (“تَحتَ وِسادَتِي”، ص 138).
(3): (“في حَنايا الوَطَنِ المُلهَم”، ص 78).
(4): (“تَحتَ وِسادَتِي”، ص 32).
(5): (“تَحتَ وِسادَتِي”، ص 60).
(6): (“تَحتَ وِسادَتِي”، ص 60).
(7): (“تَحتَ وِسادَتِي”، ص 149).
(8): (“رَئِيف خُورِي”، ص 162).
(9): (“رَئِيف خُورِي”، ص 350).
(10): (“رَئِيف خُورِي”، ص 356).
(11): (“رَئِيف خُورِي”، ص 446).
(12): (“تَحتَ وِسادَتِي”، ص 80).
(13):(“تَحتَ وِسادَتِي”، ص 69).
(14): (“في حَنايا الوَطَنِ المُلهَم”، ص 53).
(15): (“تَحتَ وِسادَتِي”، ص 25).
(16): (“تَحتَ وِسادَتِي”، ص 25).