كلية الآداب في الجامعة اللبنانية تكرّم الدكتور فؤاد افرام البستالني

وزير الإعلام ملحم الرياشي: أهم ما في البستاني  أنه كان يعصر التاريخ ويعصر الفلسفة، ويفلسف هذا التاريخ

كرمت كلية الاداب والعلوم الانسانية في الجامعة اللبنانية – الفرع الثاني في الفنار، الرئيس الاسبق للجامعة الراحل الدكتور فؤاد افرام البستاني، بحفل أقيم  في مجمع فؤاد افرام البستاني الجامعي في الكلية، برعاية وزير التربية والتعليم العالي مروان حمادة، في حضور وزير الاعلام ملحم الرياشي، ممثل وزير التربية الدكتور محمد كشلي، ممثل رئيس “التيار الوطني الحر” الوزير جبران باسيل الشاعر حبيب يونس، الوزير السابق ناجي البستاني، ممثل رئيس حزب “القوات اللبنانية” سمير جعجع الدكتور جورج سعاده، الرئيس السابق للجامعة الدكتور عدنان السيد حسين، ممثل رئيس الجامعة البروفسور فؤاد أيوب عميد كلية الاداب والعلوم الانسانية الدكتور محمد توفيق أبو علي، مدير الفرع الثاني الدكتور يوسف عيد، ذوي المكرم وأساتذة وطلاب.
بعد النشيد الوطني ونشيد اللبنانية، ألقت عريفة الحفل الدكتورة كلوديا شمعون أبي نادر كلمة شددت فيها على “أهمية المناسبة بتكريم علامة كبير من لبنان، علامة فكر وادب وتاريخ وفلسفة وفن”.

عيد

بدوره، قال عيد: “إن إطلاق اسم فؤاد افرام البستاني الرئيس الأسبق للجامعة اللبنانية على مبنى كلية الآداب – الفرع الثاني هو وزنة قيمية وأبوة مستحدثة. عسى أن تثبت الأيام أننا نشيلها على أكتافنا علما وأخلاقا والتزاما ومسلكا ليس ذاتيا وحسب، بل غرس في نمط القيم التي نذرنا نفوسنا عليها. والبستاني على عتقه ما رتت روائعه ولا اهتزت رؤاه، ولا خبا توقده ولا بطل مرجعه. إنه عند كل سؤال يستنبيك جوابه وعند كل مفصل يستحضرك ثباته. حارسا يبقى على اللغة والأدب والشعر والحضارة والفلسفة والتاريخ”.

أضاف: “ما تحصلنا وسعه في عصرنا ولا غنينا بعمق تجربة كتجربته: كان ينص، يصف، ينقد، يبحث، يدقق، يغوص، ينحت، فتلقى نفسك وأنت في حضرة الشيخ مؤهلا لنفض الغبار عن أبعاد ما اعترى أوصال لغتك من تعتعة في النطق، ونحر في النحو، ورطانة في الأسلوب، واستجراء على تصنع. كان بانيا صرح مجد شبه للمعاصرين أنه أفل، لكنهم لمسوا في جمع كفهم إلتقاء يقظة الأمس لغد مشرق مأمول. قد وضع البستاني بين أيدينا أمانة تراث، نحاول المتاجرة بهذه الوزنة الإنسانية الإنسانية. نقدمها لأجيال تأتي تسقي عقولهم ضياء كماء المزن يشربها الثرى يبسا فيطلعها وريقا أملد لا يعرف البوار”.

وختم: “تلك هي الأمانة، لم تمت في حقولنا سنابل الفؤاد إلا لتعطي حصادا أوفر وأعم وأنقى وأشم وأصفى وأجم”.

أبو علي

وقال ممثل رئيس الجامعة اللبنانية: “أخاذ فتان جهباذ طلعة، مبدع وافر الغلال هذا البستاني: بستانه موئل الخصب وملاذ العطاء. لست محتاجا إلى ذكر اسمه، فالمواسم تلهج بذكره، ووشم الاخضرار في ذاكرة الحرف تشي بمكنوناته. من دير القمر نهل الخشوع النوراني متعبدا في هيكل الإنسان يبحث عن شوارد المعرفة في توق ظامىء جائع إلى ماء العلم وخبزه، يقدمهما قوتا وريا لكل عابر سبيل. أعيا الاختصاصات فأذعنت له وذلت، بين قانون وتاريخ وأدب وصحافة، موسوعيا تخصصيا في آن. حين تقرأ سيرته، تظن -لولا صدق الموارد- أنك أمام نمط أسطوري في سبك بطولة لرجل ينتسب إلى الخرافة، لفرط ما تتسم به تلك السيرة من غنى لا سبيل إلى فرد واحد، مهما عظمت قدرته، أن يشتمل عليه”.

أضاف: “فؤاد إفرام البستاني الأديب الأكاديمي استبدت به الكلمة وأذعن لسلطانها، وحينما عرفته عن قريب أماطت عن وجهها القناع، وباحث له بأسرار الهيام، ولم يخيب ظنها أو يستغل ضعفها، بل عشقها عشقا فروسيا لا يعرفه سوى النبلاء. ومضيا معا رفيقي درب من المعرفة إلى العرفان. لم يصرفه الهم الأكاديمي عن شفيف الوجد، ورهافة الحال، وجذب المقام، بكلمة تترجح بين البوح والمعاينة، واللمح الإبداعي والنقد المنهجي، فكان أديبا يجمع إلى الهم الرسالي مهمة التضلع من كل علم بطرف. في رؤيته إلى الأدب جسد أيما تجسيد مفهوم الالتزام، فكان قوميا لبنانيا عربيا، وتجلى ذلك في اهتمامه الأقصى بحضارة لبنان وتاريخه، كما تجلى في اهتمامه بالحضارة العربية ولسانها، اهتماما لا يدانيه اهتمام”.

وتابع: “شغفه بالأدب نما معه منذ حداثة عهده، وتجسد هذا الشغف من خلال إنشائه جريدة علم الأدب عام 1919 -تخيلوا معي فتى لم يتجاوز الخامسة عشرة من عمره ينشىء جريدة بهذا العنوان، أليس في هذا الأمر سؤال كبير يحتاج إلى أجوبة- سؤال عن عبقري، يتجاوز المألوف من الطباع، فبدلا من أن يلهو، حقيقة أو مجازا، راح ينزل الأحلام من مخبئات الجفون إلى تخوم الواقع. وكرت السبحة في سلسلة من الجرائد والمجلات، تشهد لهذا الفذ بتوجه صحافي أدبي مسؤول”.

وأردف: “في ذائقة فؤاد إفرام البستاني اجتمع حسان، في نسق من الألفة غير مألوف: الحس الإبداعي والحس النقدي فكانا وجهين لورقة واحدة اسمها التميز. ولعل الحس الإبداعي اتجه نحو الرواية وأدب الرحلات فكانت رواياته “على عهد الأمير” و “لماذا” و “في بلد الأمير”. وفي أدب الرحلات كان له “رصافة هشام ورقة الرشيد” و “خمسة أيام في ربوع الشام”. أما الحس النقدي فقد أثمر جمهرة من الكتب منها “بغداد حاضرة الأدب العباسي” و “المتنبي والشعر” و “حلب عاصمة الأدب الحمداني” و “الأدب العربي في آثار أعلامه” و “الفنون الأدبية”… لقد اتبع في نقده الأدبي منهجا يربط الأديب ببيئته، وهنا يظهر لنا بوضوح كيف وظف فؤاد إفرام البستاني ولعه بالقص في سياق منظومته النقدية، فكانت سيرة الأديب عنده مدخلا إلى النص”.

وقال: “مما يسجل له ذلك الوله الذي كان يجذبه إلى الشعر العربي، فهو عنده في قمة الشعر العالمي. كانت تآليفه منظومة من الأدب العربي والأجنبي والمقارن، والتاريخ قديمه ووسيطه ومعاصره، والحضارة في سيرها تظلل التاريخ من القديم إلى الحديث ولعل من أهم تلك التآليف سلسلة الروائع التي بلغت ستين جزءا، عنيت بأعلام الأدب والفكر عند العرب من الجاهلية حتى العصر الحديث. ويسجل له متابعة العمل في دائرة المعارف، التي بدأ بإصدارها المعلم بطرس البستاني. واللافت في منهج المتابعة لدائرة المعارف أن مفكرنا أعاد النظر في المجلدات التي صدرت في حياة المعلم بطرس البستاني، فشذب وأضاف، حتى وافته المنية”.

أضاف: “في سياق الكلام على تآليف أستاذنا المكرم، حسبنا الإشارة إلى قدرته على ترويض الأحداث التاريخية في نسقها الحضاري، متوسلا منهجية القص، لإيصال معلومة طرية اللمح، خفاقة الجذب، سنية التلقي، ضمن عبارة لا تجافي الموضوعية، مع رقتها ودهشة أنسها. ونعود إلى أستاذنا المكرم، لنقول: حسبنا خلودا أن الجامعة اللبنانية هي أحد معالمه التي تشهد له، بما ينبغي للشاهد الحي أن يشهد”.

وتابع: “نحن في الجامعة عموما، وفي كلية الآداب خصوصا نشعر بالاعتزاز والفخر لانتسابنا إلى هذا العلم. فالشكر لكل الذين أسهموا في إعداد هذا الحفل، كما أشكر راعي الحفل الذي دأبه الانحياز إلى كل إبداع، وهو الأديب الساطع الذي خط بقلمه دربا للنور، في عتمة المقالة السياسية. كما أشكر معالي وزير الإعلام الذي يعد علما ترفرف راية أصالته في سارية القلب. والشكر نفسه إلى معالي وزير الثقافة الذي أثبت أنه الطبيب الحاذق، ذو الذائقة الأدبية والفنية الراقية. والشكر نفسه إلى حضرة رئيس الجامعة البروفسور فؤاد أيوب الذي حضن الفكرة وشجع عليها وتابع تفاصيل تنفيذها. كما أشكر معالي رئيس الجامعة السابق الأستاذ الدكتور عدنان السيد حسين الذي عودنا دائما على تشجيع هذه المبادرات”.

السيد حسين

من جهته، قال السيد حسين: “قبل خمس سنوات احتفلنا بتخليد هذا الجامعي على اسم الرئيس المؤسس فؤاد افرام البستاني. وما يزال حلم هذا العالم الكبير مخيما على الجامعة اللبنانية في التأسيس لوطن مستقر ودولة حديثة. واليوم تكرم الجامعة الوطنية هذا الرجل، مفكرا وأديبا، وعالما رضيا أعطى الجامعة ولبنان زادا من المؤلفات والبحوث العلمية والمعرفية. وهو قبل ذلك وبعده إنسان مترفع لم ينحدر إلى الصغائر عندما أقحم لبنان في آتون الحروب الداخلية والإقليمية والعالمية. ظل مدافعا عن الكرامة الإنسانية التي لا تتجزأ، والتي لا تتعصب. إنها صنو الحياة البشرية حيث النبل والقيم وإلا تصير حياتنا مادية مجردة من الروح والعاطفة”.

أضاف: “عاش وطأة الحرب الداخلية بين اللبنانيين، تفاعل معها كما سائر النخب اللبنانية، فكتب وحاضر ونبه تحت ضغط الأحداث الدامية. وطرح لتبديد المخاوف فكرة الفيديرالية بين الطوائف اللبنانية توخيا للاستقرار كما اعتقد. ولا تزال هذه الفكرة مطروحة على نطاق أضيق في أوساط مجموعات لبنانية ومن طوائف مختلفة. بالطبع، كان الرئيس المؤسس يبحث عن خلاص لمجتمعنا ودولتنا عندما سادت أساليب القتل والتخريب والدمار. هذه المعضلة لم تحل بالفصل بين المسلمين وبين أهل الكتاب أو ما قيل وطبق حيال أهل الذمة، ذلك لأن هذه المعضلة تفاقمت بين المسلمين أنفسهم، بين سنة وسنة وبين شيعة وشيعة عدا عن الخلاف الموروث بين السنة والشيعة”.

وتابع: “المواطنة التي نطرحها تقوم على دعامتين أساسيتين: المساواة بين المواطنين -لا بين الأفراد والرعايا- أمام القانون، أي المساواة في الحقوق والواجبات، إضافة إلى الولاء الوطني الواحد للوطن والدولة. إن مبدأ سيادة القانون مركزي وضروري وقد سبقتنا إليه أمم عدة، ولبنان كوطن نهائي أقره المسلمون اللبنانيون بمراجعهم الثلاث منذ العام 1983، وجرى تثبيته في اتفاق الطائف للوفاق الوطني في العام 1989. بقي علينا التطبيق الأمين بعيدا من التدخلات الخارجية والفساد الداخلي، وحسبنا أن نعلم بأن المسألة الطائفية ارتبطت منذ العام 1840 بالتدخلات الخارجية”.

وأردف: “إن هوية لبنان العربية ليست معروفة فرضا، والا كيف حمل اللبنانيون وبينهم المسيحيون بل وفي طليعتهم، عبء النهضة العربية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر. الدين هو لكل الشعوب، أما الانتماء العربي فهو سمة اجتماعية وثقافية. فلا مسيحيو العالم يشكلون شعبا واحدا ولا مسلمو العالم يشكلون شعبا واحدا، وان ربط العروبة بالإسلام أو الأسلمة أمر غير وارد وغير جائز لا بالشرع ولا بالوضع، لا بالفكر ولا بالسياسة. وكثيرا ما تنازعت حركات إسلامية مع حركات عروبية، وحسبنا التأمل في بلاد العرب وجوارهم الإقليمي منذ زمن بعيد”.

وختم: “نعود إلى البستاني المكرم لنجد أنه وضع يده على سبب رئيس للفوضى التي تضربنا عندما قال: ان الإبتزاز، الإختلاس، الإرتشاء، الإتجار بالنفوذ تغدو قاعدة. كل شيء يباع. كل شيء يتقاسم وكل شيء يسرق. مال الجميع يغدو مال الأكثر مهارة والأكثر مكرا. التنافر الإسلامي المسيحي يفرغ الدولة من الموظفين القادرين والشرفاء تحت ذريعة التوازن الطائفي. يعهد بأكثر المراكز دقة إلى (محميين) غير مؤهلين. في كل مكان تسيطر قلة الذكاء. القياس من تحت يتفشى في الإدارة كلها. وخلال هذا الوقت، تسلك نخبة البلاد طريق الهجرة”.

رباح

وقال الدكتور أحمد رباح عن فؤاد افرام البستاني مؤرخا: “نحن أمام مؤرخ من نوع خاص، مؤرخ استند في ثقافته التاريخية الواسعة والعميقة إلى انفتاح واضح على العديد من ميادين العلوم الإنسانية، فكان فقيها، عالما بشؤون اللغة العربية وباحثا فيها، أديبا ومفكرا في علوم الأديان. وقد استعمل هذه المعرفة في كتاباته التاريخية خير استعمال، وهذا ما حدا المؤرخ الأستاذ الياس القطار على وصف تأثير معرفته اللغوية على كتاباته بالقول: وهذا ما ولد لديه تلك الطواعية اللغوية التي سمحت له بأن ينحو نحو الهمذاني والحريري عندما تتطلب منه ذلك ظروف الكتابة”.

أضاف: “لئن كان المؤرخون الذين تأثروا بمدرسة فؤاد افرام البستاني وانتموا إليها أو اعتبروها نموذجا قلة، فلعل ذلك يعود إلى تقوقع مناهج الآداب والعلوم الإنسانية في بوتقة الاختصاص الضيق لسنوات طويلة، علما بأن العالم، وخاصة نظام الانغلوساكسون، قد خطا خطوات مهمة في هذا المجال اعتبارا من منتصف القرن الماضي. وقد أثبت هذا التوجه الذي مثله البستاني قدرته على بناء مؤرخ حداثوي ومتجدد بشكل دائم. إن أهم الاتجاهات التي طبعت عمل فؤاد افرام البستاني، مؤرخا، هي نشر المصادر التاريخية وخاصة تلك المتعلقة بتاريخ لبنان، فلبنان بالنسبة إليه هو تلك الأرزة الضاربة جذورها في تاريخ يعود إلى ستة آلاف سنة. لا شك في أن الأسباب الكامنة وراء هذا التوجه عائد إلى صدق مشاعره وحماسته الوطنية وتعلقه بالكيان اللبناني من جهة، وإلى خوفه من ضياع هذا الإرث الوطني أو من فقدان بعضه من جهة أخرى”.

طعمه

وكانت مداخلة للدكتور انطوان طعمه عن فؤاد افرام البستاني تربويا، فقال: “ما أجمل أن تحمل المجمعات الجامعية، والصروح التربوية، أسماء مؤسسيها وبناتها، وحراس هياكلها الساهرين على عزتها ونموها وازدهارها. نستحضر اليوم ونكرم الدكتور فؤاد أفرام البستاني، “معلم الأجيال”، كما سماه سعيد عقل، “والغرسة الأدبية الجديدة التي نمت في روضة الأسرة البستانية”، كما وصفه الأب لويس شيخو. والغرسة صارت شجرة مثقلة بثمارها، “ومن ثمارهم تعرفونهم”، يقول الإنجيل المقدس. أجل نعرفه من ثماره، السبعة البساتنة، عائلته الصغرى، وأجيال وأجيال من أبنائه بالفكر والروح، شكلوا عائلته الكبرى المنتشرة على مدى الوطن، والعالم العربي، والمشرق، وأصقاع الكون الفسيح. فالبستاني ما تعب يوما من تعهد الأغراس المؤتمن عليها بالتربية والنماء، وتحقيق الذات الفضلى. إنه كان ويبقى منارة من منارات “لبنان الدائم”، نورها لا يخبو ولا يشيخ. وكم اعتز بأنني كنت ممن تتلمذوا عليه وزاملوه، في معهد الآداب الشرقية بجامعة القديس يوسف، في بيروت، ولكلمتي في معلمي المربي والأستاذ الدكتور فؤاد أفرام البستاني عنوانان: المسؤول التربوي، المفكر، صاحب الرؤية والرسال. “معلم الأجيال” باللسان والمثال والعمل والحق. المسؤول تربوي، المفكر صاحب الرؤية والرسالة، “معلم الأجيال” باللسان والمثال والعمل والحق”.

درويش

وقالت الدكتورة زاهدة درويش عن فؤاد افرام البستاني واللجنة الوطنية للاونيسكو: “ينتمي فؤاد افرام البستاني إلى جيل من الكبار الذين أسهموا في بناء الوطن ونهضته منذ منتصف أربعينيات القرن المنصرم، ونحن إذ نحتفل اليوم بذكراه إنما نؤكد على أن أمثاله خالدون في ذاكرة الوطن مهما تألبت الظروف والأحوال، ومهما اختلفت المواقف السياسية والانتماءات الفكرية. فالرجل واكب مراحل صعبة ومأزومة في تاريخ لبنان أملت على اللاعبين مواقف متناقضة أحيانا وأدخلت البلد في انقسامات عقائدية وإيديولوجية حادة لم يبق البستاني بمنأى عنها على الأخص إبان الحرب اللبنانية البغيضة التي اعتبرها غسان تويني بحق حرب الآخرين أو حروب الآخرين على أرضنا”.

أضاف: “لن أستفيض في الحديث عن علاقة البستاني بالسياسة وأهلها، بل سألتفت بداية إلى حضوره الفكري والثقافي الذي استمر حتى آخر سنوات عمره ولم ينقطع إلا حين داهمه المرض قبيل وفاته بعدة بعدة أشهر، فمنعه من إكمال مشروعه الأغلى ربما على قلبه وهو دائرة المعارف. ومن أجدر من هذا المثقف الموسوعي بالانخراط في مشروع مماثل، فقد توفر له من المعرفة الواسعة بتاريخ الحضارات، وبالفلسفة، والأدب وما يجعله نموذجا للمفكر والمثقف الذي يغرف من ينابيع متنوعة يحثه شغف واحد بالكشف عن الحقيقة وتلمس تجليات الخير والجمال في الإبداع الإنساني”.

وتابع: “عمق معرفته بتاريخ الحضارات التي تعاقبت في منطقة الشرق الأوسط، وكرس حيزا مهما من أبحاثه للفينيقيين وإسهامهم في الحضارة اليونانية، كما شغلته الفلسفة الإسلامية، وتاريخ العرب وأدبهم واختار التعليم وسيلة لتعميق المعرفة بالتراث الأدبي العربي إبأن ممارسته لهذه المهنة رسالة في دار المعلمين، ولاحقا في الجامعة اللبنانية، وفي معهد الآداب الشرقية الذي كان له فضل في تأسيسه في الجامعة اليسوعية”.

شيا

وكانت كلمة للعميد الدكتور محمد شيا عن فؤاد افرام البستاني مفكرا فلسفيا، قال فيها: “جعلت الفلسفة آخر لائحة إنجازات البستاني، لأنها في الأصل تأتي تاريخيا ومنطقيا في الختام. ثم لأنها حلية أخرى غير معروفة كثيرا في أعمال البستاني. سيجادلني البعض بالتأكيد في أن الرجل ليس كذلك، وأن الأعمال التي تركها وإن تك ضخمة بكل المقاييس إلا أنها لا تتطابق وشرائط العمل الفلسفي. إلا أني، وبخلاف ذلك، وبعد مراجعتي وبحثي في معظم أعمال البستاني المنشورة، لعلى يقين علمي تام أن الرجل كان مفكرا فلسفيا بامتياز، وسأثبت ذلك علميا”.

أضاف: “هنا أسرع إلى طمأنة المتشددين إلى أن البستاني ليس فيلسوفا بالمعنى النمطي الكلاسيكي المعروف، وهو في الأصل غير معني بالموضوع ولم يشغله قط، بل لطالما غمز من قناة الدكترة والأستذة والمتفلسفة، ليظهر تبرمه من ألقاب هي في الغالب من دون مضمون حقيقي. لكني أكمل فأقول للمتشددين في مسألة ما صدق الفلسفة، وفي مدى جواز إنتساب البستاني فؤاد افرام إليها، أن المسألة برمتها هي مسألة تعريفات ومفاهيم ومدارس. وتطبيقا لهذه القاعدة أقول، إذا كانت الفلسفة هي حصرا نسقا منطقيا صوريا من مقدمات وقياس وخلاصة ومن نظرية أو مذهب فكري له مبدأ جامع مانع بالضرورة -كما عند أفلاطون أو أرسطو أو ديكارت- فالبستاني ليس كذلك أي ليس من هذه الفئة”.

زرازير

وقال الدكتور سليم زرازير عن فؤاد افرام البستاني وعلم الاثار: “تعددت اللقاءات مع البستاني، وفي كل منها كان يمتلىء له قلبي مهابة وإجلالا وحبا. قرأت له الكثير في الحضارة والتراث والتاريخ والفن والميتولوجيا والدين والآثار. وما يلفت في أي بحث يكتبه، غوصه في الموضوع الذي يتصدى له إلى أعماقه، محللا ومدققا، لتأتي مقاربته مقاربة علمية خالصة لا تشوبها شائبة. في تحليل للأبجدية مثلا، تحدث عن التجريد العقلي الذي اعتبره إحدى أهم ميزات الشخصية الفينيقية. التجريد العقلي هو الذي جعل الفينيقي يجزىء الكلمة إلى عناصرها الأولية ويكتشف أنها مجموعة نبرات صوتية تختص بالسمع، فاستخرجها ووضع لها أشكالا، سميناها حروفا، وصارت تختص بالصبر. الفينيقي أزال الجدار بين السمع والبصر، وما هو مختص بالأذن أصبح بمتناول العين”.

أضاف: “هو هذا التجريد العقلي الذي جعل ابن فينيقيا يتجاوز ما يراه إلى ما لا يرى أي العلة لأي ظاهرة. يعطي كمثال إسم القداحة. يقول إن المصري يسميها ولاعة لأنه رأى بكل بساطة أداة تشغل. أما ابن هذه الأرض، حامل الإرث الكنعاني – الفينيقي والمعتاد على التجريد العقلي، ذهب إلى العلة الأساسية أي إلى الشرارة الناتجة عن احتكاك جسمين صلبين كالحجر والحديد، فسماها قداحة. هكذا يحلل المعلم، هكذا يشرح، وهكذا يشرح موضوعه، متوسلا الدقة، ليصل إبى الحقائق العلمية الدامغة”.

طياح

وقال الدكتور شربل طياح عن فؤاد افرام البستاني واللغة الفرنسية: “كان فؤاد افرام افرام البستاني ملما بالفرنسية ومتقنا لها ومحدثا لها. حيث كان يشدد على اهمية التحديث والحداثة في اللغة كونه كان علامة في اللغة اللاتينية وكل اللغات القديمة. وكان يعتبر ان الادب الفرنسي والادباء الفرنسيين قد اضفوا غنى خلاقا وباهرا للادب العالمي وفرنسا كانت رمزا للثورة من اجل الحرية هذه الثورة التي تفجرت من عمق الادب”.

البستاني

أما نجل المكرم الدكتور حارث البستاني فكانت له كلمة بعنوان “بين الماضي والمستقبل” قال فيها: “كان يوصينا أنا وأخوتي، أن نحترم كل إنسان مهما كانت أوضاعه الإجتماعية لأنه أخ لنا في الإنسانية. وكان يقول لنا أنتم من العارفين ومن شيم العلماء والعارفين التواضع”.

أضاف: “اندلعت الحرب، فسلبت عشرين سنة من حياته. بقي وفيا لحب الوطن مهما كلفه الأمر، جسورا واثقا بنفسه ومترفعا عن كل المغريات، بعيدا عن التودد المجاملة والمؤامرات والنفاق. فكان شاهدا مرغما يوم ضاقت مقاليد الوطن فرحل وفي قلبه حسرة على عظمة لبنان المنهارة. خلت مؤلفاته ومحاضراته ومقالاته من المآرب السياسية الوصولية والطمع والسلطة، إنما حفلت بالمقاطع الساخرة اللاذعة وهو يسرد وقائع الحرب التي شنت على لبنان. فسلطت الأضواء على الأيادي الخفية وعلى أطماع الغرباء ونفاقهم وعلى بعض القادة الذين لم يستخلصوا مع الأسف أي عبر منها. كما شجب بعنف النظام السياسي وتدهور الأخلاق العامة بغضب أنبياء السنين الغابرة. من دون أن يحصل على أي ردة فعل من الساسة والسياسيين، فالصقت به أبشع التهم والنعوت من أعداء لبنان ما عدا تهمة الإنهزامية. وشجب حكم الدمى وفساد المتكئين على أكتاف الغرباء من كل صوب فنادى بفضائل الأمة العريقة، فلم يمتثل لأحد”.

أضاف: “تميزت ريشته بالظرف حتى عندما كان يغمسها في حبر المأساة والمعاناة. وقد أنتجت شهادة قاسية نابضة بالحياة حين خيم الموت الأخلاقي على لبنان. وكل أعماله تبرز رفض مؤلفها المشاركة في أكبر عملية انحطاط لشعبنا، إنما هذا الرفض لا يبرر دفن كتاباته معه. عالج تاريخ لبنان كما يعالج مسألة عائلية لمعرفته الوثيقة بكل ما هو لبناني. وبسبب تعلقه بالقيم الأخلاقية التي لم تعد متداولة فقد تعايش بصعوبة مع نهاية الألفية الثانية”.

وختم: “إن أسطورته مكونة من حنين إلى عالم طويت صفحاته المشرقة ليحل محله زمن التعاسة والإنحطاط ومن أمل متجذر في كل حواسه لطالما أراد أن يلقنه في الأجيال الصاعدة. لقد أسدل الستار، لن يعود جليل الجبل إلى ليوانه. ولم يبق لنا إلا أن نتغنى ببعض الأبيات الشعرية الرنانة. لقد انتهى عصر العمالقة”.

الرياشي

وقال وزير الاعلام:”منذ طفولتي لست متعودا على مخاطبته لا بالدكتور فؤاد ولا بالشاعر ولا الاديب ولا المعلم ولا الكاتب، لأن كل الصفات التي التصقت به لم أكن متعودا عليها بل كنت اقول فقط “عمو فؤاد”. كان مدرسة متنقلة وموسوعة بشرية تسير على قدمين، أهم ما في فؤاد افرام البستاني انه كان رافضا وثائرا على تعليب العقول، اهم ما فيه أنه كان يرفض تضليل الرأي العام، كان يقول الحقائق بالرغم من صعوبتها ولكنها حقائق للتاريخ، أهم ما في فؤاد افرام البستاني أنه كان يعصر التاريخ ويعصر الفلسفة، ويفلسف هذا التاريخ”.

أضاف: “لم يكن يقرأ الحدث كما هو إنما كان يقرأ الحديقة الخلفية والعميقة لهذا الحدث، عله يتكرر أو لا يتكرر، كان “عمو فؤاد” يعرف هذا الشيء قبل أن يعرفه كثيرون لأن التاريخ يعيد نفسه اذا لم نصححه، فالجغرافيا كانت ثابتة فعوامل اخرى ومعايير اخرى وضعها فؤاد افرام البستاني لعلم التاريخ كانت ضمن المعقول أو ضمن المطلوب ليعيد التاريخ نفسه وليعيد نفسه”.

وتابع: “فؤاد افرام البستاني أحب لبنان حتى العشق وحاول أن يلبنن هذا المشرق ويجعل كل العالم فؤاد افرام البستاني. أطل علينا بتواضع جلي وبتواضع جليل عبر شاشة “ال بي سي” منذ بداياتها ليقول لنا ان لبنان بخير، فلبنان الذي كلنا وفي كل يوم نضع الحقيبة خلف الباب ونعتبر هذا الوطن فندقا ونحن خائفون ونريد السفر. فكان فؤاد افرام البستاني يقول ان ما يجري ليس شيئا في التاريخ، مع مد كبيرة لكلمة ما يجري “ما شي” بالتاريخ، وأن ذلك مثل كل شيء آخر سوف يزول”.

وقال: “مع فؤاد افرام البستاني تعلمنا أن الاعلام اخلاق وأن الصحافة أخلاق، وأن لا اخلاق خارج اطار الصحافة الحقيقية والحقيقة والموضوعية والتعاطي مع الرأي العام واحترام هذا الرأي العام. ربما في آخر كتاب كتبه هو الشعاع المطمئن حيث تحدث فيه عن ميلاد المسيح في التاريخ وليس في اللاهوت، فشعرنا عند قراءة الشعاع المطمئن أن الاله يخرج من التاريخ، وكأن التاريخ هو الثابت وكل شيء حوله متحرك، وكأن صناعة التاريخ ليست صناعة متطورة انما صناعة ثابتة عبر الأجيال تعيد نفسها اذا اقتضت الحاجة يرسمها فؤاد افرام البستاني بريشة وقلم وأحرف يسحر هذه الاحرف وهذه الكلمات ولكنه يخلدها في الوقت نفسه. مع فؤاد افرام البستاني تعلمنا أن الكلمة أقوى من كل شيء آخر، وتعلمنا أن على قدر اهل العزم تأتي العزائم وعلى قدر أهل الكرام المكارم فتعظم في عين الصغير صغارها وتصغر في عين فؤاد افرام البستاني العظائم”.

أضاف: “أقول لكم شكرا جزيلا على ما تقدمونه اليوم لفؤاد افرام البستاني لانكم لا تقدمونه له بل تقدمونه لنا، لنا كرأي عام كمسؤولين ومواطنين ولبنانيين وكمشرقيين. ان ما تقدمونه اليوم اعدكم أنه سيكون في النهضة الجديدة لتلفزيون لبنان، لفؤاد افرام البستاني وأمثاله حضور كبير على شاشته. نعدكم ونحن على قاب قوسين او ادنى من أن نعيد انتاج مجلس ادارة جديد لتلفزيون لبنان، أن يكون لتلفزيون لبنان حضور في هذا العالم الذي أخجل أن أقول نعمل بأيدينا على طمسه وردمه”.

وختم: “لن نقبل بعد اليوم أن تهزم هذه الصور، لن نقبل أن تغيب هذه الصور. هناك فؤاد افرام البستاني وآلاف مثله في لبنان والعالم المشرقي بأجمعه، وعلينا بإحيائهم من جديد لأن إحياءهم حياة للبنان واللبنانيين”.

اترك رد