“دون انطونيو” لإيلي مارون خليل … رواية الآلام والثّورة والآفاق المفتوحة

حكمت حنين

(أديب وباحث- لبنان)

صدرت، مع مطلع العام الحالي2017، عن دار سائر المشرق رواية لإيلي مارون خليل بعنوان “دون أنطونيو”، تُستهلُّ بإهداء إلى “وطى الجوز” (مسقط رأس المؤلّف) بمن وما فيها. تليه الروايةُ بستة وعشرين فصلاً، تفصل بينها فواصل، هي عبارة عن صفحات تفصل الواحدة منها بين فصل وآخر، تنقل تعليقات بعض رجال وطى الجوز وتساؤلاتهم حول الرواية ومتابعة تأليفها، وحول علاقات غير شرعية، بين بعض النساء والرجال، حتى القس موسي، في وطى الجوز.

وأخيراً ثبْتٌ بمؤلَّفات إيلي مارون خليل.

أما الغلاف الأوّل فصورة لمجموعة حقائب قديمة، على أرضيّة وخلفيّة قاتمة لا توحي جميعها إلاّ بالحزن والتشاؤم والكآبة والمرارة التي تتركها الهجرة النازفة، في خاصرة لبنان، وفي قلوب أهل المهاجرين.

والغلاف الأخير صورة للمؤلّف مع كلمة للناشر حول الرواية مضمونًا وأسلوبًا.

الفصل الأول تمهيد لولادة الرواية: الياس بن مارون بن…. خليل من وطى الجوز يعرف أن طنوس القزيلي (عم جد الياس لأمه) هاجر إلى البرازيل ومنها إلى الأرجنتين، واغتنى وأصبح “أسطورة حيّة”، فيطلب بعض رجال وطى الجوز إلى الياس أن يسرد حكايته كتابة فيعدهم بتلبية طلبهم، وهكذا ولدت رواية “دون انطونيو”، اسم طنوس القزيلي في بلاد البرازيل والأرجنتين.

في هذا الفصل الأوّل التمهيدي، وقبل طلب تدوين حكاية “دون انطونيو”، يدور حديث بين رجال من وطى الجوز حول العلاقات المشتبه فيها بين رجال ونساء من وطى الجوز، وحول ظلم رجال الإقطاع الديني والاجتماعي الواقع على الفلاحين والمزارعين من أهل وطى الجوز، إذ إن هؤلاء يعملون في املاك أولئك، لكنّ النتيجة، في معظمها، للأسياد، بينما لا يحصل الذين يزرعون الأرض ويهتمون بها إلا على القليل من المحاصيل والأجر، مقابل أتعابهم.

مع الفصل الثاني تبدأ حكاية “دون انطونيو”.

بتدبير من انطون البلّاط، أحد أفراد عصابة المافيا، ومسهّل الهجرة، ركب طنوس القزيلي (دون انطونيو) السفينة “بِرِنيس” متوّجهًا إلى البرازيل، تاركًا خلفه، في عهدة الراهبات، في مسقط رأسه “وطى الجوز”، شقيقته مريم وشقيقه فرنسيس، وهما أصغر منه سنًّا، ولا معيل لهما سواه إذ توفي والداهم باكرًا. وهيفا التي أحبّها.

وهو لا يعرف إلا بعض أعمال القرية، وما تعلّمه في دير الراهبات في قريته، ويجهل تمامًا لغة البرازيل.

أغراه انطون البلاط بأنه سيكون ملاكمًا مهمًّا لما يتمتّع به من قوة جسدية وطول، بعد أن يتعهد تدريبه بطل متقاعد (ص 20).

واجهت طنوس، على متن الباخرة، مشاكل كثيرة، كان يخرج منها جميعًا منتصرًا. إلاّ أنه عانى صراعًا داخليًا كبيرًا بين ليلى التي أوكلت إليها عصابة المافيا ملازمته ومراقبته وإغراءه بشتى السبل ليبقى في قبضة عصابة المافيا لتستثمره كملاكم، وساره عاد (الأخت كلاوديا احدى راهبات دير وطى الجوز) التي تركت الدير لتلحق طنوس إلى البرازيل، مطمئنة إياه بأنّ شقيقته وشقيقه في عهدة راهبات الدير، وبأنّ أخاها وعمها سمعان (سايمون) وابنته سيكونون بانتظارها عند الوصول إلى البرازيل، ما قد يسهّل على طنوس أموره في البرازيل.

وخلال الرحلة عرف طنوس من ساره بأنّ ” ليلى على علاقة بالبلّاط! بسلفادور! (أحد أفراد عصابة المافيا) تخون ذاك مع هذا، وهذا مع ذاك!” (ص 81). وتمّ لقاء بين طنوس وساره في غرفتها حيث تصارحا بأنهما يتبادلان الحب.

“وأخبرته ليلى بما يخطّط أنطون البلّاط مع خوسيه الذي سيستقبله على المرفأ. وكيف أنّهما: خوسيه وأنطون، يعملان لحساب “الريس” ميغال الذي يقسو ولا يرحم… يغني لكنّه يستغلّ!… ليس أقوى منه في البرازيل وفي الأرجنتين ولا في “أميركا”  كلّها!… رجل مافيا. إنه الأكثر خطورة بينهم جميعًا!” (ص 117).

وصلت الباخرة إلى البرازيل. صرّح طنوس بأنه ملاكم. كان أخو سارة وعمّها سمعان (سايمون) وابنته باستقبالها، لكن سلفادور كان بانتظاره مع ليلى وأربعة أمنيين، تابعين لعصابة المافيا، “اقتادوا طنوس واختفوا به بين الجموع. وأضاعته سارة”. (ص 124)

أخبرت سارة عمّها سمعان بما حلّ بطنوس، وبكلّ أخبار السفرة، وذكرت له أنطون البلّاط وسلفادور وميغال (ص 122)، فأدرك سايمون للتو، بأنهم أفراد “عصابة المغارة”: “فَهِمْتُ. (همس في ذاته): “عصابة المغارة” (ص 125). فوعدها بأن يجده” (ص 124).

بعد اتصالات مع “عصابة المغارة”، وهو منها، استطاع سايمون أن يعيد طنوس إلى الحرية.

أقام طنوس في سانتوس. مارس الملاكمة بعد أن تدرّب. ثم انتقل إلى ساو باولو، وصار بطلاً شهيرًا. “لم يخسر مباراة. وقد فاز بها جميعًا بالضربة القاضية” (ص 147).

ومن جديد دسّت العصابة روزيتا، وهي امرأة تفوق جميع النساء الأخريات جمالاً وإغراء، لتكون إلى قرب طنوس فتراقبه ليبقى أسير العصابة (ص 171). ووقع طنوس في صراع داخلي جديد بين روزيتا وساره، لكنّه فضّل ساره.

صمّم طنوس، هربًا من مضايقات العصابة أن يهرب سرًّا إلى الأرجنتين. أخبر ساره بالأمر فاتفقا على أن تلحقه وهناك يتزوجان. لكنّ روزيتا فشّلت هربه إلى الأرجنتين (ص 172).

وبناءً على علاقة حميمة بين طنوس وروزيتا التي أوقعته في حبائلها، حملت منه، لكنّها توفيت إثر حادث إطلاق نار كان طنوس مستهدفًا فيه فسمح هذا بأن يهرب طنوس إلى بوينس أيرس في الأرجنتين (ص 175).

في بوينس أيرس (الأرجنتين)، وبعد أن فقد طنوس كلّ أغراضه وما يحمل من مال في الكرنفال، قادته باولا، صبيّة التقته صدفة في الكرنفال وأدركت حالته، إلى ديب الصافي زوج خالتها.

عمل طنوس مع ديب وتزوّج باولا، ثم شاركه في أعماله ثم عرض ديب على طنوس مشاركته في ممتلكاته كلّها (ص 193)، ثم يرثها بعد موته إذ لا أولاد له. خاف طنوس أولاًّ ظنًّا منه أنّ ديب من المافيا والعصابات لكنه عاد فقبل.

لم ينس طنوس شقيقته مريم وشقيقه فرنسيس، وقد تزوّجا، بل كان يرسل لهما المال ويوصي أخاه بشراء الأراضي (ص 185)، وبناءً لطلبه أنشئت مدرسة ثم نادٍ.

أما ساره فقد توفيت في حادث سيارة وهي في طريقها إلى الأرجنتين من البرازيل للقاء طنوس كما اتفقا (ص 194).

أصيب طنوس في عينه اليسرى بغشاوة في إحدى المنازلات، وأنشأ ناديًا ليليًا اسمه “جبل لبنان” تديره زوجته باولا. وكان انطون البلّاط وميغال وليلى وسائر أفراد العصابة يزورون النادي ليستطلعوا أخبار دون انطونيو ويعرقلوا مسيرته إذ استطاع الإفلات من قبضتهم. وكان طنوس يطرب الآخرين بغنائه وصوته.

استغلت العصابة غناء دون انطونيو وصوته ونشرت في إحدى المجلات الرياضية التي سيطرت عليها أن دون انطونيو احترف الغناء واعتزل الملاكمة، وبالتالي لن يواجه روميرو الأرجنتيني على بطولة الأرجنتين.

كان دون انطونيو يحضّر نفسه ويتدّرب لمواجهة روميرو، فصعق ممّا نشر، وسرعان ما كذّب الخبر عبر نشر صور وإعلانات عن عزمه على خوض المباراة (ص 211).

نازل دون انطونيو روميرو وقضى عليه، فاختفى واعتزل نهائيًا (ص 213).

هذه هي رواية “دون انطونيو” شكلاً ومضمونًا مختصرًا.

بعد قراءتها بتمعّن خرجت بالملاحظات الآتية:

أولاً: لا شك أن ايلي مارون خليل قد نسج شبكة عنكبوتية، كعادته، ربطت بمرونة أحداث الرواية وشخوصها ربطًا محكمًا، بحيث سهل عليه تعقيدها، كما سهل عليه التخلص من كل ما ومن يعيق متابعة السرد والأحداث وخصوصًا مسيرة الأشخاص ولا سيما البطل الرئيس دون انطونيو. كيف لا وايلي ركّب الرواية بأحداثها وشخوصها تركيبًا تخيّليًّا (راجع الصفحات (217-219)) حيث يقول ايلي، فيما يقول:” أكانت، هذه، سيرة إنسان اسمه طنّوس حنّا القزيلي، أم هي ترجمة روح؟” (ص 217).

ثانيًا: انطلق ايلي في سرد حكاية دون انطونيو من مجرد انه سمع ان طنوس القزيلي هاجر واغتنى وصار “أسطورة حيّة”. فحبك حول شخصيته رواية فيها ثورة على الاقطاع الذي يكرهه ايلي كرهًا لا حدّ له، إذ جعل دون انطونيو يرى في خصمه الملاكم ذاك الاقطاعي المستبد الذي تحكّم برقاب العباد واستغل أرواحهم وأجسادهم، وفضّل ايلي تبوير الأرض على أن يستغل الإقطاعيون خيراتها وتعب الفلاحين، كما أنه دعا أخاه فرنسيس إلى شراء أراضي الإقطاع، بما يرسله له من مال، كي ينتهي زمن الاقطاع فلا تعود لهم أراضٍ ولا سلطة.

ثالثًا:  جسّد ايلي في شخص دون انطونيو شخصية اللبناني العريق، ابن وطى الجوز، وابن كل قرية، لم يتخلّ عن أصالته، إذ جعله يرفض، طويلاً، اسم دون انطونيو بدل اسم طنوس. كما جعله يتمسك بأخلاقه التي تربّى عليها في بيت أهله وفي مدرسة الراهبات، فيقاوم إغراءات ليلى وغيرها من النساء اللواتي وضعتهن العصابة في طريقه لاصطياده.

ولكن يكمن في داخل طنوس، ولاحقًا دون انطونيو، زير نساء فيحب هيفا، وساره (الأخت كلاوديا)، ويتقرّب من ليلى، ويزرع جنيناً في أحشاء روزيتا ويتزوج أخيرًا باولا.

ويستغرب القارئ برودة دون انطونيو أمام موت روزيتا وساره، إذ لا تنتاب دون انطونيو، وبالتالي، القارئ أية مشاعر أسى وحزن على فقدهما، فكأنهما ما كانتا تحظيان بأي حب من قبل دون انطونيو مع العلم أن علاقته بساره تعود إلى زمن الدير حين كانت ساره ما تزال الأخت كلاوديا.

ولكن إذا تذكّرنا أن ايلي ركّب الأحداث حسبما يريد، نجد أنه أزاح روزيتا وساره من الطريق حتى لا تتعرقل مسيرة دون انطونيو مع زوجته باولا خصوصًا وأنه استقر معها في حياة صارت مشاكلها محدودة. أعتقد أن ايلي أكثر من تعقيدات الأحداث وعلاقات دون انطونيو بحيث باتت متابعة سرد الأحداث مشكلة فكان لا بد من التخلص من بعض من يعيق سردها، ولو كان هذا على حساب المشاعر الإنسانية. ولكن يُشهد لايلي بذلك إذ إنّ حرّيّة تصرفه بالأشخاص والأحداث أوصلت الأمور إلى خواتيهما المبتغاة.

رابعًا: وما يسترعي انتباه القارئ ان ايلي لم يبيّن من هو انطون البلّاط أكثر من انه رجل عصابة المافيا. ولم يكشف لنا كيف نشأت العلاقة وأين مع طنوس حتى أقنعه بالسفر سوى الإغراء بالتجارة ثم الملاكمة.

المبرّر الوحيد لهذا الاغفال، هو ما سبق ذكره، فإن ايلي ركّب الأحداث وعلاقات الأشخاص مع بعضهم بعضًا لأغراض يريدها، فاهتم بما يخدم أغراضه، وأغفل ما لا يخدمها.

خامسًا: تبيّن، في أثناء سير الأحداث، أن ساره (الأخت كلاوديا) تعرف كل شيء عن ليلى، ولم يبيّن ايلي كيف تم لها ذلك. اكتفى بدهشة طنوس وتساؤله حول كيف تعرف ساره كل هذه الأمور عن ليلى. ترى هل يلمّح ايلي إلى علاقة سرية للأخت كلاوديا بأفراد العصابة؟

سادسًا: ورد في الرواية ان القس موسي على علاقة سرية بإحدى نساء وطى الجوز. وأن الأخت كلاوديا استجابت لمشاعرها الدفينة وتركت الدير لتلحق بطنوس، وانها أقامت معه علاقة غرامية. هل يريد أن يلمّح ايلي إلى فساد عند بعض المكرّسين والمكرّسات؟ أو انه يريد أن يبيّن أنّ المكرّس والمكرّسة من البشر العاديين الذين لهم قلب يحبّ وجسد يشتهي؟

سابعًا: أشار ايلي إلى أن بعض المهاجرين الذين اغتنوا نالوا غناهم عن طريق العصابات والمافيا. ترى هل كان يلمّح إلى أنّ الهجرة ليست بابًا للغنى إلا إذا اقترنت بالعصابات والمافيا؟

ثامنًا: لا بد من كلمة أخيرة حول أسلوب ايلي مارون خليل المميّز الموسوم باسمه الشخصي، من حيث سلاسة التعابير ومتانتها، وسهولة استخدام الحوار الذاتي والثنائي لكشف النفسيات وتطوير الاحداث، وبراعة السرد والوصف وفصاحة الألفاظ وبلاغة التعابير.

الخلاصة:

إنها رواية ذات نهج جديد، لم نلحظه سابقًا في روايات ايلي مارون خليل ولا سيما ما فيه من ثورة عارمة على الإقطاع وصلت في النهاية إلى قتل روميرو، ممثل الاقطاعيين البشعين. ومن جرأة في كشف دواخل بعض المكرّسين والمكرّسات، وفي كشف نوازع خفيّة في الانسان (دون انطونيو) تأبى إلا أن تظهر، مهما حاول صاحبها كبتها (تعدّد علاقاته مع النساء رغم ممانعته السابقة لأية علاقة عاطفية).

ولكن يجب أن لا ننسى الحب الكبير الذي لم تقلّل منه الغربة، تجاه شقيقته مريم وشقيقه فرنسيس. والحرص على الاهتمام بقريته حين أوعز إلى أخيه بإنشاء مدرسة ثم ناد.

ان دون انطونيو نموذج للمهاجر اللبناني الذي تلاعبت به الأقدار من دون أن تفقده عزمه على متابعة النضال والكفاح في سبيل تحقيق ما هاجر لأجله.

******

(*) رواية صدرت حديثًا عن دار سائر المشرق224 صفحة، من الحجم الوسط، قياس (20,5×14).

 

اترك رد