فصليّة

عباس الأمارة

(أديب وشاعر- العراق)

وضعت حقيبتي في المكان المخصّص للأمتعة عند أعلى الرأس في مقصورة القطار. ضجيج المسافرين يتنافس مع صوت المحرّكات، ودخان السجائر يكتم أنفاس البرد. ما أن تخلّصت من معطفي الجلديّ، وكدت أجلس على الكرسي المخصّص لي بالقرب من النافذة، حتّى بادرني شيخ طاعن في السنّ بدخان سجائر هو آخر عطر رشّه قبل أن يصعد المقصورة.

قال لي :مرحبًا بنيّ. 

فأجبته: أهلًا يا عم.

قال: هل تسمح لي أن أجلس بالقرب من النافذة؟ تكون قد عملت إحسانًا لي، لأنّي أصاب بالدوار عندما أكون بعيدًا عنها.

قمت أُخلي له المكان بلا تردّد، وجلست في كرسيّه المطلّ على المقصورة. فشكرني كثيرًا على تعاطفي مع شيبته قائلآ: كثَّر الله من أمثالك. 

وأنا أردّ عليه بأبتسامة تتبعها ابتسامة.

ما هي إلّا دقائق حتّى انطلق القطار. 

شيء من الهدوء أخذ يتسرّب إلى أذنيّ، حتى بدأت أشعر بمعزوفة عجلات القطار المعهودة تطرق سمعي. إنّه الوقت المناسب لقراءة بعض خربشاتي التي أحتفظ بها على دفتر صغير في حقيبتي. وقفت أخرج الدفتر من أحد جيوب حقيبتي الصغيرة، فأرعب عينيّ هول ما رأيت: وجوهًا ناقمة غاضبة! 

رجلان بِزيّ عربي، تكاد أعينهما تخرج من جفونها لشدّة الغضب، وامرأة كبيرة تطأطئ الرأس وترتدي السواد. تكاد أصابعها تنطق بما يجول في خاطرها… وإلى جانبها: يا إلهي! كتلةٌ سوداء، شيء منها ملقى على الكرسيّ والآخر تبتلعه النافذة.

سحبت دفتري من الحقيبة، وقد رمقني أحد الرجلين بنظرة تشبه الرصاصة المنطلقة إلى الهدف! عدت أدراجي ونبضي يتسارع، كمن أنهى سباقًا ماراثونيًّا للتو. حدّق بي الشيخ، وكأنّه وضع يده على صدري وسمع تسارع نبضي، وقال : مابك بني؟

فقلت متداركًا: لاشيء، لاشيء…

التقطت أنفاسي، ورحت أوهم نفسي بتناسي ما رأيت. أمسكت قلمي ظنًّا منّي أنّي سأخربش شيئًا يجعلني أهدأ بعض الشيء. فأوغلَ قلمي في ذلك السواد المترامي على الكرسي؛ وعلى غير عادته راح يرسم جثّة هامدة على أسطر دفتري، تحيط بها المخالب والخناجر والدماء!

وأنا غارق في لوحتي، إذا بالشيخ يوقظني ويهزّ كتفي. التفتّ إليه، فقال لي: ابني، هل تسمح لي؟ أريد الخروج قليلًا كي أدخّن سيجارتي خارج المقصورة. 

تنحّيت عن مكاني، وذهب الشيخ ليدخّن سيجارته. اقتربت من النافذه محاولًا النظر إلى تلك الكتلة السوداء الهامدة على الكرسيّ، من دون أن يراني أحد. ونجحت في ذلك، فقد أخفيت رأسي متفاديًا حرّاسها من خلال وجود المخدّة التي تعلو رأسها. وغاصت عيناي في ذلك السواد وما هو بسواد. إنّها نرجسة يغطيها السواد! نرجسةٌ ناعسةٌ، في عينيها يموج بحر من الهموم، وبحر من الألم، وبحر من الضياع! ليتها ترفع رأسها لترى هذا المخبول الذي يأكلها بعينيه! ليتها تحرّك عينيها لتجيب على ألف موت في فضولي! ليتك لا تجيء يا شيخ فتسلبني هذا الموت المشهود.

ها هي تتحرك! ها هي ترفع رأسها! إنّها تراني! لا تجِئ يا شيخ، أكمل علبة السجائر كلّها. إنّها ترمقني! تسترق النظر إليّ وكأنّها تقرأ آخر أسئلتي عن هذا الشحوب المترامي على وجهها ، وكأنّه مدينة حزن:

من أنتِ؟ من هولاء؟ هكذا خُيل لي أني أسألها.

أنا موتك، فلا تقترب حتّى بالنظر إلى نافذتي! هكذا خُيل لي أنّها أجابتني.

لا أدري من أين يأتي كلّ هذا الفضول، فيحيل عينيّ، كأنّهما استشهاديتان تريدان الموت! يا إلهي! لو أنّها تغادر كرسيها لبعض الوقت! لو أنّي أنتزع منها كلمة أو إشارة… 

وفي خضمّ هذياني هذا، عاد الشيخ، وأرغمني حيائي أن أترك له أخطر نافذة جلست بالقرب منها.

هل دخّنت من قبل؟ ساءلني الشيخ.

فأجبته : لا.

قال: خير ما تفعله في حياتك أن لا تتعرّف السيجارة. 

وعدته بذلك، بعد حديث طويل أكاد لا أذكره. وشعرت بأنّني والقطار في تلك اللحظة متشابهان جدًّا، لأنّه لا يعجز عن قطع كلّ تلك المسافات ليصل الى المحطّة الأخيرة. وأنا كنت عاجزًا عن عدم التفكير في تلك الفتاة لأصل في قلقي إلى قمّة الفضول ومعرفة آخر هذياني. شعرت بأنّ الليل تتآكل ساعاته، والهدوء يبتلع المقصورة من الوريد إلى الوريد! وفي حلكة ضياعي سمعت حديثًا لأحد حرّاسها وكأنّه ينبّههم إلى شيء. كنت أحاول حينها أن أراها، ولكنّ ذلك يتطلّب حركة واضحة تمكّنني من رؤيتها خلف الكراسي. وكمن يبعث بنفسه إلى المجهول، ملت برأسي لأراها، فلاحت لي عيناها ثانية. هزّت رأسها، وكأنّي بها قائلة: لا، إرجع!

وقف أحد الرجلين وهو يحدّث الثاني، وأنا ما زلت أنظر إلى عينيها. وقف الثاني. ووقف القطار. ومن دون شعور، وقفت أنا. رفع أحدهم حقيبة كبيرة وسار باتجاه الباب المؤدّي للخروج، وتبعه الثاني. اقتربت قليلًا من كرسيها وأنا أرتجف. أخذت المرأة الكبيرة بيدها؛ وشعرت حينها أنّها تأخذها إلى مقصلة الإعدام! اقتربت أكثر. مالت بوجهها، وهمست لي: ……..

وكمن يقع من شاهق، شعرت بحالي وعينيّ تتبعانها. كانت هذه محطّتها. نزلت. غابت. تلاشت. فتحت دفتر خربشاتي ونظرت إلى ما رسمت. كانت جثّة تحيط بها المخالب والخناجر! وهمسها يئنّ في أُذنيّ:

أنا فصْليَّه!*

____________

*الفصليَّه: هي الفتاة التي تؤخذ نتيجة اختلاف عشائري بين قبيلتين، سالت فيه الدماء، فتكون هي عوضًا عمن قُتل، إذلالًا للقاتل.

اترك رد