جورج برناردشو في بعلبك

بقلم: أحمد فرحات (*)

في كلّ مرّة زار فيها برناردشو لبنان، كانت وجهته بعلبك وقلعتها الشهيرة.. “للرياضة الروحية مع التاريخ”… كما قال مرّة لأحد السائحين. moussasaأما زوجته شارلوت بيناونشيد فتقول إنه زار القلعة للمرّة الثانية مدفوعاً “بأوامر” محض أخلاقية، يتعلق أغلبها بالروح “الفابية” المسكونة فيه، وبملهم هذه الروح القائد الروماني فابيوس كونكتاتورد، والأهمّ أنه في كل مرّة من زيارته الأثر الروماني الأشهر، كان يقضي نهاراً كاملاً، مدهوشاً ومدوّناً لملاحظات وحتى نصوص أدبية ومسرحية ننقل بعضها، وللمرّة الأولى، إلى اللغة العربية.

“برناردشو في بعلبك”.. ليس عنوان فيلم سينمائي، ولا رواية أو قصة أو مسرحية، بل هو حدث واقعي، وإن منذ وقت طويل، ولم يعره الإعلام اللبناني القديم اهتماماً. زار عملاق المسرح الإيرلندي الشهير جورج برناردشو (1856- 1950) لبنان مرتين: الأولى في العام 1925، والثانية في العام 1931. في كلتا الزيارتين، حرص المبدع الكبير أن يبقى في قلب مدينة بعلبك، إلى جانب القلعة التي كان يجول فيها صبح مساء، منخطفاً، مدهوشاً، ومدوّناً ملاحظات شتى لم تنشر جميعها، وإن كانت قد احتفظت بها زوجته الإيرلندية شارلوت بيناونشيد، التي رافقته في الزيارة الثانية لمدينة الشمس.

وكان برناردشو يعتبر شارلوت رفيقة عمره الاستثنائية، والحافظة لأسراره، ومدوّناته على اختلافها، هو الذي اشتهر عنه نفوره من جنس نون النسوة إجمالاً. وقد تعرّف إليها في أجواء العمل السياسي لحركة “الاشتراكية الفابية”، التي كان هو نفسه أحد مؤسسيها الكبار مع “غراهام والاس” و”سيدني ويب” وزوجته الناشطة “بياتريس”.Bernard-George-Shaw-1

وبخصوص بعض ما أفصحت عنه شارلوت من مدونات زوجها لاحقاً في لندن للصحافي البريطاني جون ك. ديربين، نذكر ما ترجمته: “ما كان يدوّنه جورج، وهو يجول مسحوراً بفناء القلعة، له علاقة أثيرية بعظمة الحضارة الرومانية ورموزها الكبار، وبخاصة بينهم، مُلهم فلسفتنا الاشتراكية الفابية، القائد التاريخي فابيوس كونكتاتورد (275- 203 ق. م.)”. وتضيف شارلوت: “جورج كان أخبرني أصلاً أنه يزور هيليوبوليس (التسمية الرومانية للقلعة) للمرة الثانية، مدفوعاً “بأوامر” محض أخلاقية ذاتية، يتعلق أغلبها بالروح الفابية المسكونة فيه، والتي لن يتركها بعيدة عن آثار حضارة مُلهمها فيه، التي تكتسب باستمرار معاني خصبة متنوعة، ومساعدة على مزيد من المفاجآت والاكتشافات لديه”.

أمام معبد جوبيتير في القلعة الشهيرة، والذي لم يتبق من أعمدته الكورنثية الـ54 سوى 6 أعمدة، تُميّز بمجموعها المتعارف على مشهديته، أبهّة هذا الأثر الروماني الاستثنائي، وقف برناردشو متأملاً، ومسطّراً هذه الحوارية المسرحية الإضمارية الذاتية المكثفة، وذلك كما نقلتها عن أوراقه، زوجته شارلوت:

“صوت أول: لماذا أنت صامت يا هذا؟.. صوت ثانٍ: ولماذا تتكلم أنت؟… صوت ثالث: كلاكما مريض بالحقد على الموت، خاطف جوبيتير العظيم من قرون. كلاكما عليه الآن أن يُحدث صدعاَ جديداً في ما تبقى له من حياة، هكذا دونما تمييع للفروق. كلاكما عليه أن يكون البرهان الحي لمزايا طلقة الروح الجيوبيتيرية، التي ترفرف في المكان، ولسان حالها يقول في أي ضدين يتواجهان: “حيّ أمات أمة، وميت أحياها”. الصوتان الأول والثاني صارا صوتاً واحداً ينادي الآن: جاش الوعي كله فيّ يا فابيوس، والثقة كلها باتت تضجّ في النفس، ولا شيء اللحظة، سوى أن ينبض القلب بنبض هواء المكان والزمان، ليلاً.. نهاراَ. في الليل، حيث بعلبك كسواد العين الكحلاء جمالاً ونوراً، وفي النهار، حيث شبق سلطتها السحرية، ما ينفك يولّد فيّ أشكالاً من أخيلة لا ترتوي.. أخيلة بلا نهاية. فأي مهابة أجلّ من هذه المهابة؟! وأي علاء أعلى من هذا العلاء؟! حقاً إن حرية عشق الأثر العظيم لا تقلّ قداسة عن حرية خوارق التفكير. أنا يا شارلوت في قمة الراحة الآن.. في قمة الجاذبية التي تدفعني لأن أؤدي بنجاح، أول رقصة واجبة لي مع الموت”.

وتنقل شارلوت عن برناردشو بعد، نصّ مناداة لها يقول فيه: “تعالي يا شارلوت إلى معبد فينوس، هذا الأصغر الملموم في القلعة، تجدين نفسك منحوتة فيه، يد الأجداد عرفت ما فعلت وقدّمت.. تعالي لكي يليق بنا المكان معاً، ونليق به، وأنا على يقين بأن باخوس من معبده سيلحق بنا، وسيقدّم لنا بنفسه ما نريد من شراب الفردوس.. تعالي يا شارلوت، كأن حياة كل من فارق هذه المدينة الآن، تقف على أدقّ أسرارها فينا، وفي عمق أعماق حركاتنا ومبانيها.. تعالي إلى حيث كل هذا التوازن الممسرح بين العقل والقلب والبصر والذوق والرصانة الناعمة والجادة في اشتهاء المحال”.

وفي مدينة بعلبك التي أحبّ ناسها ومناخها وطعامها، نزل جورج برناردشو في فندق بلميرا، (لا يزال قائماّ حتى اليوم) وهو الفندق نفسه الذي كان نزل فيه أيضاً: غليوم الثاني، ملك ألمانيا، وهيلا سيلاسي، إمبراطور الحبشة، وجان كوكتو المسرحي والسينمائي الفرنسي الشهير، ولوي آراغون شاعر “إلزا” العظيم.. وكان يرافقه في الزيارة خطار جرجي الحلو، العامل وقتها في القنصلية البريطانية في لبنان، والذي يخبرنا ابنه ألبير خطار الحلو “بأن والده كان معجباً للغاية بشفافية شخصية برناردشو، وطريقة مخاطبته للناس، ورغبته الحافلة بالعذوبة للتواصل معهم وفهمهم، بمعزل عن حاجز اللغة. وكان البعض من أهل بعلبك يدعوه بحماسة لشرب القهوة العربية المُرّة، أو تناول الغداء البيتي، أو تدخين النارجيلة التركية المعمّرة، ويسرّ هو جداً لكرم الضيافة المنهال عليه، في كلّ مرة كان يتنقل فيها من مكان إلى آخر في المدينة”.i_baalbek-1

وينقل لنا ألبير عن لسان والده: “بأن برناردشو كان يتحاشى الصحافيين، ويحرص على أن يبقى مجهولاً أمام من يشتبه بأمر شخصه منهم، وكذلك أيضاً من متعلمين ومثقفين، وفضوليين غير عاديين. المهم أن يظهر للجميع بصفة السائح العادي، المتواري.. ومرة أمام مدخل القلعة، اشتبه بأمره سائح فرنسي عليه سيماء الثقافة، فتقدّم منه قائلاً: مرحبا بك يا سيد برناردشو.. كيف وجدت بعلبك وقلعتها؟.. أجابه برناردشو ساخراً: ومن قال لك إني برناردشو؟ برناردشو هناك.. في بلاده الباردة البعيدة.. يخفق بآلام قومه وعزلته ومناجاة ذاته المضطربة.. فلم يصدقه السائح الفرنسي، وقال له: الآن تأكد لي بالجزم أنك برناردشو، وأكثر بكثير مما لو رأيتك في لندن أو باريس”.

وموقف برناردشو العدائي من الصحافيين، يؤكده أيضاً صحافيون سوريون حاولوا تطويق الكاتب الإيرلندي العظيم لدى زيارته دمشق في 29 مارس/ آذار 1931، ومنهم الصحافي سليم خياطة، المحرر في صحيفة “الناقد” الدمشقية، والذي حاول تمرير بطاقته الصحافية إلى برناردشو، نزيل فندق “خوام” وقتها في العاصمة السورية، طمعاً في لقاء صحافي معه، فنصحه أحد المعنيين بالأمر في الفندق بألا يفعل ذلك، لأنه سينفر ويغضب على الفور..” وهنا (يقول الصحافي خياطة) أمسكت بكل قوة في نفسي، واستجمعت ما حباني الله به من دقة انتباه وسرعة ملاحظة، وتقدمت مستعيذاً من شرّ مقابلة العظماء، وحييته بالإنجليزية، فردّ التحية، مشفوعةً بظل ابتسامة غير ماكرة، ما شجعني على إتمام مهمتي. قلت ولم أرد أن أجعل لنفسي صفة الصحافي: أنا يا سيدي شاب سوري مولع بكتاباتك، وهذا الولع يدفعني للتشرّف بالتحدث إليك. فقال: طيب!.. قلت: هل تنوون أن تطيلوا بقاءكم في دمشق؟..أجاب: سأسافر في الغد إلى بعلبك، ولكن بعدما أقوم بجولة في أسواق دمشق، وأزور آثارها. قلت: سمعت أنكم قمتم برحلتكم هذه بقصد جمع مواد كتاب تؤلفونه حول نبي الإسلام العظيم محمد، وربما كان الباعث على هذا القول ما عرف عنكم من تقدير للنبي العربي وإعجاب به؟..أجاب برناردشو: ربما كان ما سمعته صحيحاً، نعم أنا أجلّ محمداً وأحترمه، وأنا ضدّ كل رجال الدين المسيحيين، خصوصاً في القرون الوسطى، الذين رسموا صورة سوداء عنه، معتبرين إياه عدواً للمسيحية. لكنني اطلعت على سيرته، وشخصه، فوجدته أعجوبة خارقة، وتوصلت إلى أنه لم يكن البتة عدواً للمسيحية، وقلت وأكرر القول بأنه يجب أن يسمى: منقذ البشرية”.

وإلى جانب الصحافي سليم خياطة، كان ثمة صحافي سوري آخر متنكراً، يعمل في صحيفة “الحديث” الحلبية، يدعى مروان السراقبي سأل برناردشو: ولماذا تسافرون إلى بعلبك يا سيدي؟ أجابه شو : “للرياضة الروحية مع التاريخ.. ألم تقرأ أن آدم عاش في ضواحي بعلبك، ثم انتقل لاحقاً إلى دمشق ودفن في منطقة خصبة الزرع اسمها الزبداني؟”.. ذهل الصحافي الحلبي لجواب برناردشو وقال له: “إنك تعرف عن بلادي وعن الشرق، يا سيدي، ما لا أعرفه أنا وكثيرون سواي”.

بعلبك وتاريخها انسربا إذاً في ذاكرة برناردشو انسراب الضوء في الخميلة. وقد حاول هو تقصّي كل شيء يتعلق بالأثر البعلبكي، هكذا بتنبّه شعوري، وتوهج تخيلي، مفسراً حتى الظلال والخطوط والقسمات تفسيرات، تتحقق لديه بغير مشقة ولا تأويل معقد.. ومن كثرة ما خلبته القلعة تمناها لو كانت وجدت في لندن، ونمي عنه قوله: “انقلوا لي قلعة بعلبك إلى لندن، وأنا أكفل بإعفاء الشعب الإنجليزي من الضرائب مدى الحياة”.

غربي وشرقي على السواء

ما يجدر ذكره إن برناردشو كان إنساناً شرقياً في الصميم، بقدر ما هو غربي في الصميم. وهو أصلاً، كان يتحفّظ جداً على تلكم القسمة أو الثنائية الحضارية: شرق/ غرب. فلا الغرب من وجهته يحدّد الشرق، ولا الشرق يحدّد الغرب، وذلك على الرغم من اعترافه يوماً بأنه ليس في الغرب شيء لم يأخذه من الشرق، وأن ما يسمى الغرب حضارياً اليوم هو ابن الشرق. وكان يحترم العرب وتوقهم إلى الحرية والاستقلال. وهو لطالما دعا، مثلاً، إلى جلاء الاحتلال الإنجليزي عن مصر. ومرة خاطب حكّام بريطانيا قائلاً: “أيمكنكم أن تقبلوا وجود الألمان والروس في بلادكم؟ اتركوا مصر لأهلها، فهم الأقدر على رفد الإنسانية مستقبلاً، مثلما رفدوها في الماضي، علماً وحضارة”.

حاصل القول، وعلى الرغم من تميزه بالسخرية والتهكّم، والتبرّم والتسخّط، كان برناردشو شخصية إبداعية تنزع منازع صوفية رواقية، وتفتح نوافذها على مغاور الإنسانية المنكوبة المعذبة، وتذهب في ذلك كله أحياناً مذاهب تأملية شتى بعيدة الرؤية والانصهار، ووافرة حتى في رسم الحلول، وخصوصاً عندما تصل الأمور إلى حافات اليأس والألم وذروة التشاؤم والانسداد.

***************

(*) مؤسسة الفكر العربي

اترك رد