“وطن ودولة… ولا قرار” ندوة في جامعة الحكمة حول كتاب عصام كرم

ممثل رئيس الجمهوريّة  رفيق شلالا متوسطًا من اليسار، رئيس جامعة الحكمة الخوري خليل شلفون، إدمون رزق، المطران بولس مطر، النقيب عصام كرم والدكتور أنطوان سعد

 

وقّع النقيب الأسبق للمحامين الأستاذ عصام كرم في قاعة كرم ملحم كرم في جامعة الحكمة، كتاب “وطن ودولة.. ولا قرار”، الصادر عن “دار صادر”. وفي المناسبة أُقيمت في قاعة المؤتمرات الكبرى في الجامعة ندوة حول الكتاب، شارك فيها رئيس أساقفة بيروت وليّ الحكمة المطران بولس مطر والوزير والنائب السابق الأستاذ إدمون رزق وأمين العام الجامعة الدكتور أنطوان سعد،

بدأ الإحتفال بالنشيد الوطني وبكلمة للدكتور أنطوان سعد، جاء فيها:

ما أقرب اليوم الى البارحة… فهنا، لثلاث خلت، كان لقاء الأكابر، احتفالاً بكبير هو كرم ملحم كرم، واحتفاء بمبادرة كبيره عصام يودع الحكمة ومكتبتها تراث الوالد الخالد، تحية مودة منه ووفاء نحو عزيزيه الأكرمين: أبيه كرم وأمه الحكمة.

وها هما اليوم، هذان العزيزان، يردّان لعصام السلام ويصنعان له عوض العيد عيدين، فيحتفلان معه بعيد مولده اولاً، وبعيد مولوده ثانياً، ويضيئان معه شمعة جديدة بل سراجاً يراه النقيب الباحث مثل سراج ديوجين فيما نراه نحن مثل سراج الإنجيل موضوعاً على منارة ليرى الكل نوره… ويمجدوا الله. فهنيئاً للنقيب الحبيب عيداه، وللمولود الجديد تاريخ ولادته ومحلها، القائم في مكتبة كرم في الجامعة، حيث طيفه الهائم بين كتبه، وطيب أنفاسه العابقة في حنايا الصفحات العتيقة، هناك سيجلس الكتاب سعيداً بين اعمامه على رفوف كتب الّفها كرم والفها عصام، وهي تعرفه طالب معرفة، تُسَر به وتسر اليه: ان الولد حقاً سر ابيه.

في مؤلّفه اليوم يؤكد المؤلف انه سر أبيه، والأب يضحك في سره وفي العلن، متباهياً بأن ما زرعه في عصام وملحم وقع في ارض خصبة، ونما واينع وبات معهما شجرتين اورقتا واورفتا، استظل الأولى المحامون ونخب المثقفين، ونَعِم بأفياء الثانية، على مدى لامس نصف قرن، المحررون الصحافيون، واستمر كرم من خلال النقيبين نَفساً وايحاء وقوة دفع فكرية، يقيم مع ملحم في دار الف ليلة وليلة، ويواكب عصاماً في صفحات حياة وكتاب، ” لامع كذاك “البرق” و عاصف كتلك “العاصفة”، صفحات ملأها صاحبها الى فوق- كما اجاجين قانا- ويقدمها الحين خمرة معتقة الى كرام المدعويين.

لقد امتلأت صفحاته حقاً هذا المؤلّف، بحيث لم يترك فيها مؤلفه مكاناً لهامش او فهرس او تمهيد فكانت صفحات مصفّحة بكثافة المعرفة، لا استراحة فيها ولا استراحة منها، يسير معه قراؤه متسائلين: الى اين تأخذنا بعد… يا نقيب؟

فما هذا الكتاب الجامع المانع… الموسوعي في فيض معلوماته، وفي نوعيتها وتنوعها، وهي الصاعدة من عمق التاريخ وسطوعه حتى السطوح الأخيرة، وهي المسافرة عبر الاصقاع والحقب… يستحضرها الكاتب علوماً ومعلومات وثقافات مقارنة او متقاطعة، وينتشلها من تهديدات التكنولوجيا “وهي ليست دائماً ساحة الإيجابيات” – كما يقول. ويأتي بها، فتحضر مختالة ومطواعة بريشة سلسة فيها من سر الأسلوب وسحره، ومن رقيّ العبارة ورقتها، كرمية في روائيتها، عصامية في ثقافتها، نقدية في سرديتها ورؤيوية في ابعادها والتطلعات…

وبالفعل فان على صفحات هذا الكتاب تقرأ الانسان، بقيمته وقيمه، وتقرأ الادب في رفعته ومنعته، والسياسة في نبلها ووهنها، وتشاهد الوطن من منظار الحقوقي وفي ممارسة السياسي وتحليل الناقد والصحفي، وتحلم به كما الشعراء، وتتوق اليه كما الاصفياء، وطن قرار لبناني جماعي افتقدناه منذ فخر الدين الثاني، وطنا قدرك ان تعيش فيه وقدرك الاعذب ان تحبه…

كتاب النقيب واحة فكرية وساحة ثقافية حافلة بالأحداث والمحدثين، تحضر فيه الحضارات، تتجاور وتتحاور، من خلال لاعبين آتين من مختلف الطبقات والمقامات، ملوكاً واباطرة وادباء وشعراء، وثورات وانتفاضات واغراءات وخيانات، تقرأها كلها دفعة واحدة فيستوي امامك، مثلاً لويس الحادي عشر وأبو جعفر المنصور ويتصالح فولتير ومجنون ليلى، ويتقابل هيغو والحارث بن حلزة، وتقرأ في آن حكايتين واحدة عن حواري ابي دُلامة، الشاعر الكوفي الأسود، وثانية عن عشيقات لويس الرابع عشر … وما اكثرهن في حنايا الكتاب.

وتجول مع المؤلف في تاريخ الممالك والجمهوريات، وفي كواليس القصور لتكشف كل العلاقات، الحميمة حينا والذميمة احياناً، وطرق صناعة القرارات، وتدرك معه ان الزعيم ليس القائد، فالأول وارث زعامة أما الثاني فصانعها…

وإذ يُقلق المؤلف غياب القرار، فان ترهلّ اللغة لا يقلقه البتة، وقد لبست العربية المطارف والبرد والبرفير وظلت مع ابي عصام جديدة وقشيبة، اما الفرنسية فانصفها فرنسوا الأول منذ أواسط القرن السادس عشر واكده بعده بمئة عام قانون توبون. لغة Vaugelas ولامارتين هذه قرأ فيها عصام “ادب الكون كله وانفتح على الغرب دون ان ينسخ الغرب ودون ان يمنعه ذلك من التطلع الى الانوار الشرقية الاتية من القرن الثالث عشر” – والكلام للكاتب.

ولن تقلق المؤلف نبوءة هنتيغتون في صدام الحضارات، فيستحضر في مواجهته قادة التحرر والانفتاح، مثل سبينوزا  بيهوديته الهولندية الحرة، ومحمد عبدو مفتي مصر واحد رواد الإصلاح، ويستذكر اندلسيي القرن الثالث عشر وتلك ” الذات  المنفتحة”  ويطل على لاون الثالث عشر، بابا الـ  rerum novarum  وقائد التحرر الاجتماعي، ويزور بندكتوس البابا “الذي صالح الايمان مع التاريخ”، ويحيي فرنسيس “البابا البراغماتي الذي تساوت معه روما من فوق وروما من تحت…” معلناً في نهاية المشوار أهمية الدين في حياة الشعوب واهمية ان نعي ديننا وأن نعيشه ايماناً وانفتاحاً،” فاذا كانت الكنائس مقفلة صلوا في الجوامع”- كانت وصية كرم لأولاده.

ولا تنتهي مع النقيب الخصيب صفحات الكتاب … لأن مغزى الكتاب ان يظل مفتوحاً، وقدر الكاتب الا يستريح عند توقيع الصفحة الأخيرة، بل ان يبقى على سلاحه، شاهراً يراعه كي يظل” الكتاب لمّاحاً لماعاً كالنصل البارق في الدياجير”  وكي تظل المثل التي يبشر بها مصدر وحي في المجتمعات، وكي يظل الوطن الذي اتخذه الكتاب عنواناً وطناً واحداً ضابط الكل، “لا أحد فيه يلغي احداً، ولا أحد بذمة احد، بل يتسع لنا جميعاً” وكي يظل الجبل- وهو ونحن منه- نواة صلبة لوحدة لبنان، وكي تظل الحكمة- وكلكم من أهلها- مدرسة جامعة لكل أبناء الوطن، نأخذ منها ونعود اليها كلما شحت المعاجن في زمن تهاوى فيه البهاء، وقلّ فيه الوفاء، لكن الوطن باق و باقٍ فيه الاوفياء.

المطران مطر

ثمّ ألقى سيادة المطران مطر كلمة استهلها بتحيّة فخامة الرئيس العماد ميشال عون ممثلًا بالصديق الأستاذ رفيق شلالا طالبًا منه أن ينقل إلى فخامته «محبّتنا وصلاتنا وإعجابنا الكبير بالكلمة التي قالها في القمة العربية والتي أعلَت رأس اللبنانيين بشموليَّتها، وطرحها للحوار والسلام بين العرب. ما يزيدنا فخرًا برئيس البلاد وبأقواله وأفعاله». وقال:

هِي غبطةٌ لا وَصفَ لها أَن نَتكلَّمَ عن النَّقيب عصام كرم الكاتبٍ الَّذي رَغِبَ في أَن يَضعَ ذَاتَهُ في كتابٍ، وَهُو الشُّمُولِيُّ النَّظرة والمَوسُوعيُّ المعرفة وَالسَّنيُّ المَقصَد، كما القَلائلُ في دُنيَانَا، وَربَّمَا لَن تَجدَ لهُ نَظِيرًا سِوَاهُ. وَلَقَد جَاءَ الكتابُ على صُورةِ واضِعِهِ وَمِثَالِهِ، مُوَحَّدًا في نشدَانِ المطلق، مُتعدِّدًا في انعِكَاسِ تَعارِيجِ الحياةِ وَأَلوَانِ التَّاريخِ على صَفَحاتِهِ بَلْ على أَسطُرِهِ العَابِقَةِ بِنَفحِ المحبَّةِ، المُوَشَّاةِ بِخُيُوطِ الجمالِ وَالمُثقَلَةِ بِأَثمارِ الرَّجاءِ.

هُو ابنُ الشُّوف من جَبلِ لُبنانَ، وَابنُ كرم ملحم كرم، المُؤسَّسةِ في رَجلٍ، الَّذي شَغلَ في تاريخِ الأدبِ اللُّبنانيِّ وَالعربيِّ مَركزًا في الصَّدارةِ، وَابنُ الحكمة المُتلازِمَةِ مُنذُ كَانَت وَرُوحَ لُبنانَ، والفَخورةِ بِابنِهَا البَارِّ والمُعتَزَّةِ به، كما هو فَخورٌ بها ومُعتَزٌّ «بأُمِّ البَنِينِ».

تَعودُ مَعرفَتِي بِهِ إِلى أَكثَر مِن نصفِ قَرنٍ، لكنَّهُ الجديدُ أَنَّى التَقَيتهُ، رُوحًا وَثقافةً وَهندَامًا. هُو المُحامي ونقيبُ المُحَامينَ، لكنَّ المُحَاماةَ لم تَختَصرهُ ولم تَحدّهُ. فَهُو الأديبُ أَيضًا بِامتيازٍ، وَالمُفكِّرُ في الوُجُودِ وَمَعناهُ، في الدِّياناتِ وَمَرَامِيهَا، وَفِي الحضارةِ الإِنسانيَّةِ وَتَشعُّباتِهَا، كما العامِلُ في سَبيلِ لُبنانَ، مَصيرًا وَتَطلُّعاتٍ، دُونَ أَن يُصنِّفَ نَفسَهُ في خانَةِ السِّياسيِّينَ، وَلأَسبابٍ مَبدئيَّةٍ صوابيَّةٍ.

هذا ما يُقَالُ عنهُ في الذَّاتِ، أَمَّا في الصِّفاتِ فَالكاتبُ هُو أوَّلاً مِن طِينةِ الأَحرارِ الَّذين لا يُدِينونَ إِلاَّ لِخَالقِهِم. وَلَقَد أَدركَ بِثَقافتِهِ الواسعةِ، وَبِالقانونيَّةِ منها، أَنَّ الحرِّيَّةَ هي مَصدرُ كلِّ حقٍّ. فَالحَقُّ مُرتبطٌ وُجُوديًّا وَجَوهَرًا بِالحرِّيَّةِ. وَلَو لم يَخلقْ النَّاسَ رَبُّهُم أَحرارًا لَمَا كَانَت لهُم مَسؤوليَّةٌ وَلَمَا ثَبتَ في الدُّنيَا أَيُّ نَوعٍ من الحُقُوقِ. بهذه الحُرِّيَّةِ تَعَاطَى مع النَّاسِ، أفرادًا وَجماعاتٍ، وَمَع السِّياسيِّينَ. فَلَمْ يَقبَلْ حِيَالَهُم أَن يَكُونَ تَابِعًا ولا مَتبُوعًا. العاقِلُ لا يَتَّبِعُ إِلاَّ الهُدَى. واللهُ يدعُوهُ إلى أَن يَبلغَ ملءَ قامةِ الرِّجالِ وَأَن يَكونَ خَلاَّقًا فَيُغنِي الوُجُودَ وَلَو بِإِضافةٍ منهُ. بِهذا المَعنَى يُوصِي الفيلسوفُ الألمانيُّ عمانوئيل كنت بِأَن نَتَعاملَ مع النَّاسِ على أَساسِ كَونِهِم غاياتٍ لا وَسائِلَ. فَلا يَكونَ أَحدٌ مَطيَّةً لِي وَلا أَكونَ أَنا مَطيَّةً لأَحدٍ. وَلَقَد دَافعَ الكاتِبُ عَن الحرِّيَّةِ هذه، وَبِخاصَّةٍ في المجالِ العامِّ، إِذْ وَجَّهَ لِلأحزابِ انتقاداتٍ مُفيدةً، حِينَ رَأَى فيها التِحاقًا بِأشخاصٍ أَكثرَ ممَّا رَأَى اعتِنَاقًا لِمَبادِئَ. وَقَد رغِبَ زمنًا في أن يُسهِمَ في النِّضالِ مع الَّذين لهُم تَّوجُّهٌ نَحوَ الخَيرِ الوطنيِّ العامِّ. إِلاَّ أنَّ مِثلَ هؤلاء لَم تنتظِم لهُم صفوفٌ بَعدُ في لُبنانَ. فَرَفضَ التَّقوقُعَ ضمنَ أَحزابٍ طائفيَّةٍ، وَرَاحَ يُفتِّشُ عن مَسلكٍ يَلتزِمُ قضايا النَّاسِ بِمعزَلٍ عَن انتماءٍ لهُم طائفيٍّ. فَمَالَ إِلى اليَسَاريَّةِ المُتطلِّعةِ نَحوَ إِحقَاقِ الحقِّ، وَرَفعِ المَظَالمِ، أَكثرَ ممَّا استهوَاهُ أولئكَ الَّذينَ يُدَافعُونَ عَن مَكاسِبَ لهُم مُحصَّلةٍ دُونَ الاكتراثِ بِتَعميمِها على الجميعِ.

وَمع التزامِهِ الحرِّيَّة تَميَّزَ النَّقيبُ أَيضًا بِنشدانِهِ الحقِّ وَرَفضِهِ كلِّ أَنواعِ الاستعبادِ. فَزَارَ عبرَ مُطالعاتِهِ الغزيرةِ كلَّ الحضاراتِ وَسَألَ كلَّ الأَديانِ لِيَنالَ الجَوابَ الشَّافِيَ وَلِيَرتاحَ فِكرُهُ إِلى أَنَّ بَابَ الحقِّ مَفتُوحٌ لِطَالِبِيهِ. المَسيحيَّةُ عندَهُ دِينُ الحُبِّ وَالتَّضامُنِ الإِنسانيِّ غَيرِ المُتوقِّفِ عندَ حُدُودِ الجنسِ وَاللَّونِ وَالقَوميَّةِ. كذلكَ الإِسلامُ فهو يُعلِي قِيمَةَ العَدالةِ وَقَد اشتَهَرَ في زَمَانِهِ الأوَّلِ بِعَدلِ عُمَر الَّذي صَارَ مَضربَ مَثَلٍ في هذا السَّبيلِ. وَاهتمَّ بِتَطوُّرِ الحقُوقِ في الزَّمنِ الحاضرِ حيثُ تَكرَّسَت العدالَةُ الاجتماعيَّةُ مع الاهتمامِ بِالعَاجِزينَ عن العَملِ لِتُحفَظَ كرامتُهُم وَلَو كانُوا غيرَ قادِرِينَ على الإنتاجِ. غَيرَ أَنَّ نَظرةَ الكاتِبِ إِلى الغربِ في أَوضاعِهِ الحاليَّةِ تَضَمَّنَت انتِقَادًا قاسيًا لهُ وَبعضَ التَّشهِيرِ بِمَا وَصَلَ إِليهِ مِن فقرٍ رُوحيٍّ وَجَفافٍ قِيمِيٍّ. فاتَّهمَهُ بِالسُّقُوطِ في لُعبَةِ الاستِعمارِ وَالاستِعلاءِ وَحُبِّ السَّيطرةِ على الآخرين وذلك إبَّانَ زَمنِ الحَدَاثةِ كلِّه. وَاتَّهمَهُ أَيضًا بِزَرعِ إِسرائيلَ على أَنقاضِ شَعبٍ هُجِّرَ مِن أَرضِهِ قَسْرًا، وَبِاسمِ أَيديُولُوجيَّةٍ دِينيَّةٍ لا يُمكنُ الدِّفاعُ عَنهَا. هذا فِيمَا العربُ لَمْ يَظلمُوا اليَهودَ مثلَمَا ظَلَمَهُم الغربُ الَّذي حَاولَ بَعدَ قَسوتِهِ عليهم أَن يَحلَّ قضيَّتَهُم على حِسابِ الغَيرِ، وَمن دُونِ أن يُعذِّبَهم ضميرٌ أَو أَن يَشعرُوا حتَّى بِشيءٍ من النَّدمِ. فَيَسْتَنِحُ الكاتِبُ الفرصةَ لِكَي يُذكِّرَ بِقِيَمٍ رُوحيَّةٍ سَاميَةٍ بَلَغَهَا عربٌ وَمُسلِمُون، مُؤكِّدًا أَنَّ الخَيرَ يَنبَعُ مِن النُّفُوسِ النَّقيَّةِ أَينمَا كَانَت وَأَنَّ الحَضَاراتِ تَتَكاملُ عَبرَ اختباراتِ المُلهَمِينَ في كلٍّ منها. في كلِّ هذه المَجَالاتِ نَرَى في النَّقيبِ بَحرًا من العِلمِ والمعرفةِ. وهُو مَا كانَ لِيَبلغَ هذا القَدرَ مِن الاستِشرافِ لَولا مُطالعاتٍ يوميَّةٍ وَغَيرِ مُنقَطعةٍ لِرَوائِعِ الأدبِ وَالفلسفَةِ وَالاجتماعِ وَالسِّياسةِ، أَيًّا كانَ مَصدرُهَا العالَميُّ.

وَهَلْ نَعجبُ بَعدَ ذلكَ، إذا ما بَرَزَت في الكاتِبِ صِفةٌ ثالثةٌ تَميَّزَ بِها مثلَمَا مَيَّزَهُ التزامُ الحرِّيَّةِ وَنشدَانُ الحقِّ. إِنَّها صِفةُ احترَامِ الحقيقةِ وَالعملِ الدَّؤوبِ بِغيةَ الوُصُولِ إِليهَا، وَالنَّظرِ إلى التَّاريخِ بِمَوضُوعيَّةٍ تُؤدِّي إِلى الحكمةِ في التَّصرُّفِ حِيَالَ النَّاسِ وَأَمامَ عَادِياتِ الزَّمانِ. فَيقولُ إِنَّ بَعضَ ما يُحرِّكُ التَّاريخَ هُو الإِحساسُ بِالظُّلمِ وَمُحاولَةُ رَفعِهِ عَبرَ الثَّوراتِ وَرَدَّاتِ الفعلِ السَّاخنةِ. بِهذهِ القِراءَةِ يَنظرُ أيضًا إِلى آفَةِ اليومِ الكُبرَى، أَلا وهِيَ آفةُ الإِرهابِ وَاستعمالِ قَتلِ الأَبرياءِ وَسيلةً لِبُلُوغِ مَرَامي لا أَخلاقَ فيها وَلا قِيمةَ لها. فَالإرهابيُّونَ لَم يَنبتُوا بِفعلٍ حضاريٍّ مُتفوِّقٍ بَلْ هُم نِتاجُ رَدِّ فعلٍ ظالمٍ على فعلٍ كان هُو أَيضًا ظالِمًا بِدَورِهِ. انظُرُوا إِلى ثَورةِ العَبيدِ في روما، إنَّها نتِيجةٌ لِلمَيلِ عن الحقِّ حِيَالَهُم وَمِن قِبَلِ الحضارةِ الرُّومانيَّةِ نَفسِها. فَالإِفراطُ في القوَّةِ يَدفَعُ التَّاريخَ نَحوَ الشُّططِ وَثمنُهُ لا بدَّ من أَن يكون غالِيًا حتَّى الإرهاقِ. فهل مَن ينكرُ الدَّورَ المَشبُوهَ لِبَعضِ قِيَادِيِّي اليَومَ في دَفعِ الإِرهابيِّينَ نَحوَ المَسلكِ الحرامِ وَبِقصدِ استغلالِهِم في دَفعِ الأمُورِ نَحوَ مكاسِبَ سياسيَّةٍ خاصَّةٍ بِأولئكَ المُحرِّضين؟ فَمَن كانَ وَراءَ إِطلاقِ الطَّالبان في الشَّرقِ الأقصَى وخلفَ الدَّاعشيِّين في الشَّرقِ الأَوسَطِ؟ إنَّهُ مَنطقُ استعمالِ التَّخلُّفِ والمُتَخلِّفين، وَالإِفادةِ من حِقدِ الآخرينَ عَبرَ جَرِّهِم نَحوَ الهَوَسِ وَالقَتلِ حتَّى وَلَو وَصَلَ بِهِم الأَمرُ إِلى الإِفناءِ والفناءِ.

التَّاريخُ إِذَن يَخضع في الكثيرِ من تقلباته لِلتَّبديلِ وَالتَّغيِيرِ، بِفعلِ إِدخالِ التَّأثيراتِ الإِنسانيَّةِ عَليهِ، سَلبًا أَو إِيجابًا. «وَإِنَّما الأُممُ الأَخلاقُ ما بَقِيَت وَإِنْ هُم ذَهبَت أخلاقُهُم ذَهبُوا». فَهناكَ في الكَونِ سِياسةٌ بِلا أَخلاقٍ كما تُوجدُ أخلاقٌ بِلا سِياسةٍ؛ فِيما المَطلُوبُ هُو التَّلاقي بَينَ السِّياسةِ وَالأخلاقِ، لِتَأمِينِ الخَيرِ العامِّ وَحفظِ مَكاسبِ الحضارةِ البشريَّةِ وَالسَّعِي إِلى تَقدُّمِهَا نَحوَ الأفضلِ. وَفي هذا السَّبيلِ يُنوِّهُ الكاتبُ بِدَورٍ خاصٍّ لقداسةِ البابا الحالي فرنسيس الَّذي فتحَ لِعَملِ الكنيسةِ رِحَابَ الدُّنيَا بأسرها ، مُعطِيًا الأَولويَّةَ للمُحتاجينَ وللمُهَمَّشينَ في جَوٍّ من التَّضامُنِ الرَّائعِ الَّذي بِتَوفُّرِهِ يجدُ المُحتاجونَ الدَّواءَ الشَّافِيَ لِكثيرٍ من عِلاّتِهِم المُزمِنَةِ. وَهُنا يلفتُ الكاتبُ إلى تَحفُّظاتٍ حَاصلةٍ عندَ البَعضِ، وَلكنْ ضمنَ حُدُودٍ لَم تَمنَع التَّغييرَ في ذهنيَّاتِ الكثيرين مِمَّن أُعجَبُوا بِالبابا وَالَّذين يقدِّرُون كلَّ التَّقديرِ رسالتَهُ الكبرى.

تَبقَى الصِّفةُ الرَّابعةُ وَالمُميَّزةُ بِخَاصَّةٍ عندَ النَّقيبِ وَهِي مَحبَّتُهُ لِلُبنانَ الَّتي لا تَعرفُ الشُّرُوطَ وَلا الحُدُودَ، وَالَّتي لا تَمنعهُ عَن قَولِ الحقِّ فيهِ، وَعَن اعتِبَارِهِ وطنًا وَدَولةً وَلكنْ من دُونِ قرارٍ إلى الآنَ.

لِعِصام كرم في المَجالِ الوَطنيِّ قَنَاعاتٌ وَثوابِتٌ لا يَحِيدُ عنها ولا يَتَخلَّى. فَلُبنانُ الوَطنُ وَالدَّولةُ قد ابتدَأَ بِتَلاقِي الطوائفِ فيهِ على فكرةِ العَيشِ معًا، وَكانَت البِدايةُ الأبرزُ مع تَلاقٍ بين طائفةِ المَوَارنة وَطائفةِ الدُّرُوز، تَجلَّى في زَمنِ الأميرِ فخر الدِّين الثَّاني المَعنيِّ الكبيرِ. فَلُبنانُ المُوازِي لِطائفةٍ واحدةٍ ما كان لُبنانَ وَلَن يَكونَ. أمَّا لُبنانُ التَّلاقِي بَينَ الطَّوائفِ فَهُو وَحدُهُ الجديرُ بهذا الاسمِ وَبِهذِهِ الحقيقةِ. هذه نقطةُ الانطلاقِ في نظرة النَّقيبِ لِتَاريخِ وَطنِهِ الكبيرِ وَالمُعذَّبِ في آنٍ. وهُو يُقرُّ أنَّ هذه النَّظرةَ لِلُبنانَ قد أَخذَهَا عَن وَالدِهِ لا بَلْ كانَت هذه وَصيَّةَ الوَالدِ للإبنَينِ معًا عصام وملحم، وقد التَزَمَا بها التِزَامَ الَّذين يَبرُّونَ بِالوالِدين. لذلكَ يُورِدُ النَّقيبُ فصلاً خاصًّا في كتابِهِ يُعَالجُ فيهِ مَوضُوعَ لُبنانَ. فَيُعطِي عَن هذا الوَطنِ فِكرةً ثانيةً لا تَقلُّ أَهمِّيَّةً عن الأُولَى. وَهِي أَنَّهُ وَطنٌ حُلمٌ وَوَطنٌ مِثَالٌ. على أنَّ هذا الحُلمَ لم يَتَجسَّدْ بَعدُ كلِّيًّا في أَرضِ الوَاقِعِ وَلَم يَصِرْ هُو حقيقتَهُ المرسُومةُ. فَنَعبرُ مع الكاتِبِ زَمَنَ الأُمراءِ، المَعنيِّينَ وَالشِّهابيِّينَ وَزَمَنَ الأَحداثِ الدَّمويَّةِ ما بَينَ العَهدِ الشِّهابيِّ وَالمُتَصرِّفيَّةِ. وَنَرَى في كلِّ هذه الحقَبَاتِ مَطبَّاتٍ وَمَصَاعبَ لا تَخلُو من تَحرِيضٍ عليها ولا من أخطاءٍ قاتلةٍ في مُوَاجَهتِهَا. ثمَّ يَمرُّ زَمنُ المَجَاعةِ الكُبرَى وهي الثَّمنُ المُسدَّدُ مُسبقًا لِلسيادةِ الوطنيَّةِ. وَيَأتي بَعدَهُ زَمنُ إِعلانِ لُبنانَ الكبيرِ الَّذي لَم يَتَّفِق حَولَهُ اللبنانيُّون بدايةً كلَّ الاتِّفاق. فَالرُّؤيَةُ لِهَذَا الوَطنِ وَإِدراكُ رِسالتِهِ لم تَكنْ تَبَلورَت بَعدُ. إِلاَّ أنَّ ما تقدَّمنا فيهِ إلى اليَوم، على مستَوَى تَقديرِ هذا الوطنِ ومحبَّته قد أَعطَى لِلُبنانَ رجاءً كبيرًا بِالمستقبلِ. فمَا مِن طائفةٍ في لُبنانَ إِلاَّ وتَعتبرُ اليومَ أنَّها قد رَبِحَت في الرِّهانِ على لبنانَ الواحدِ الحرِّ، وَلَم يَخسَر أحدٌ من الأَفرقاءِ لانتِسابِهِ إلى هذا الوَطنِ العَزيزِ. غيرَ أنَّ صِرَاعًا مَا زَالَ يَجرِي في لُبنانَ وَتَساؤلات مَا زَالَت تُطرَحُ أَحيانًا حَولَ المُستقبلِ. فلقد عَبَرنَا مِن جِهةٍ إِلى الاستقلالِ النَّاجزِ في العامِ 1943، وَشَهدنَا خُرُوجَ الجُيُوشِ الأجنبيَّةِ في لُبنانَ في العامِ 1946. لكنَّنَا مِن جِهةٍ ثَانيةٍ وَاجَهنَا أَحدَاثًا صَعبةً وَدَاميةً في العامِ 1958 وَمِن العامِ 1975 حتَّى يَومِ أَمس إِنْ لَم نَقلْ حتَّى اليَومِ. فَطُرِحَ مَوضُوعُ الشَّراكةِ الوَطنيَّةِ مِن جديدٍ إِلى أَن تَمَّ الاتِّفاقُ حَولَهُ مع التَّأرجُحِ في تَنفِيذِهِ كاملاً. فيَطرَحُ النَّقيبُ كلَّ هذه الأَسئلةِ وَنَحنُ نَطرحُهَا مَعهُ فنقول. ماذَا يَجرِي فِي لُنبانَ حتَّى لا يَتَعافى كلِّيًّا مِن وَهنِهِ المُزمِنِ؟

لقد أعطى النَّقيبُ كتابَهُ العنوانَ الَّذي تَعرفُون، وهُو «وطن ودولة ولا قرار». ونحنُ معهُ نُؤكِّدُ الواقعَ المُشارَ إليه، سَعيًا مُشترَكًا إِلى تَخَطِّيهِ. لُبنانُ وَطنٌ، هذَا صَحيحٌ. والشَّعبُ اللُّبنانيُّ أَثبَتَ ذلكَ بِعَيشِهِ المُشترَكِ الَّذي لم يَتَمكَّن من إِلغائِهِ أَحدٌ. وَلُبنانُ دَولةٌ، وقَد ثَبتَت طَوالَ مئةِ عامٍ إلى الآنَ على الرَّغمِ من أحداثٍ كانت كافيةً لِتَقوِيضِهَا، وَبَقيَت هي المظلَّة الَّتي لَيسَ لِلشَّعبِ اللُّبنانيِّ بِأَسرِهِ مظلَّة سِوَاهَا. غَيرَ أَنَّ القرارَ بِتَثبيتِ لُبنانَ نِهَائيًّا مَا زَالَ يَتَأرجَحُ عندَ اللُّبنانيِّينَ، على الرَّغمِ من كلِّ الإِيجابيَّاتِ الَّتي يَحملُهَا وَطَنُهُم الصَّغيرُ. وَبِذلكَ يَظهرُون وكأنَّهُم على صُورةِ مَن عَقَدُوا الخطبةَ فيمَا بَينَهُم وَلَم يُقدِمُوا بَعدُ على الزَّواجِ. فَلِماذَا كلُّ هذا التَّأخيرِ؟

الحقَّ نَقولُ أَنَّ تَجربةَ الاستقلالِ النَّاجزِ في العامِ 1943 كَانَت قَصيرةَ المَدَى. إذْ أنَّ زَرعَ إسرائيلَ الجِسمِ الغَريبِ في دُنيَا العَربِ قد أعاق التَّقدُّمَ في المنطقةِ الَّتي اضطَرَّت لِمُقاومةِ هذا الكيَانِ الغَاصِبِ. فَدَخلَت في أَجواءِ الأَنظمةِ الكُلِّيَّةِ، وَمَا يَتبعُها من حَدٍّ لِلتَّفاعُلِ مع إِيجابيَّاتِ التَّاريخِ. وَهَا نَحنُ نشهدُ اليَومَ، وَعَلى مُجملِ السَّاحاتِ العربيَّةِ تراجعًا نحوَ صِرَاعَاتٍ مَذهبيَّةٍ قَاتلةٍ، وقَادرةٍ إِذا مَا استَمَرَّت، لا سمحَ اللهُ، أَن تُقَوِّضَ كلَّ حَضارتِنَا الحاليَّةِ. إنَّ لُبنانَ يَعرفُ مثلَ هذا الانقسامِ ولَو كانَ قد تَجنَّبَ السُّقوطَ في أَتُونِهِ العُنفيِّ. وقد تكونُ هذه الحكمةُ الَّتي يُجسِّدُهَا اللُّبنانيُّون اليومَ بِدايةً لِمَرحلةٍ جديدةٍ في تاريخِنَا كما في تاريخِ المنطقةِ، أَلا وَهِي مرحلةُ الاقتناعِ بأنَّ تَلاقِينَا الثَّابتَ والَّذي لا رُجُوعَ عنه هو وحده بِدايةُ الخلاصِ ممَّا نتخبَّطُ فيه، وبأنَّ هذا التَّلاقي بينَ اللُّبنانيِّين وهذا القُبُولُ النِّهائيُّ بعضهم لبعض سيكونُ المَثَلَ الأعلَى للتَّلاقِي بينَ العربِ والمسلمين. هذا هو القرارُ، فهَلْ من سبيلٍ إِلى اتِّخاذِهِ فيكتملَ عقدُ لُبنانَ، وَيسيرَ العربُ قُدُمًا نَحوَ الحياةِ وقوَّةِ الحياةِ؟

وَيَختمُ النَّقيبُ كتابَهُ بقوله: «سنظلُّ على محبَّةِ لُبنانَ»، وكأنَّهُ يزيدُ قائلاً: «إلى أن يقضي اللهُ أمرًا كان مفعولاً».

ونَحنُ معكَ أيُّها النَّقيبُ الصَّدُوقُ وَالغيُورُ وَالعارِفُ والحكيمُ، يا ابنَ الحكمةِ ورسُولَ لُبنانَ، إلى أن يأخذَ لُبنانُ قرارَهُ. فيستقرَّ ويلبسَهُ العزُّ. والهناءُ والشُّكرُ لكلِّ مَن يُلبِّي في هذا المجالِ الوطنيِّ والإنسانيِّ الرَّائعِ، نِداءَ لُبنانَ. وشكرًا لإصغائكم.

إدمون رزق

ثمّ ألقى الأستاذ إدمون رزق كلمة جاء فيها:

نقيبُ المعرفةِ والقِيَم … رفيقُ العقودِ السبعة وزميلُ الستةِ، الأخُ الذي لم تَزِدْهُ الأيّامُ إلاّ قُربى، فالعمرُ بيننا وقَفَاتٌ لا تَني، صداقاتٌ مُشْهَراتٌ، ومواقِفُ على حَدِّ الشِفارِ، مَواضٍ قواطِعُ !

النقيب عصام كرم، مَن غيرُه تُراهُ، في آنٍ، واقفاً، جالساً ومَشّاءً ؟ من جِهاتِ القوسِ الثلاثِ: عليها، حدَّها وأمامَها، يُلقي مُطالعةً يُرافعُ ويحكُم ؟!

منذ بداياتِنا في “الحكمة”، زَرْعِ يوسف الدبس، على تَــلّةِ الأشرفيّه، قَلْبِ “بيروت الميمونة”، التقَيْنا على نِعَمٍ وقِيَم. أمّا النِعَمُ فانتماءٌ الى الجبلِ، وتَحَدُّرٌ من أرومةِ أدبٍ، تتلمذٌ للنُحاةِ، ودرسٌ على الأئمّة، بينَ المنزلِ والمِحراب، امتشاقٌ للكلمةِ، مراودةٌ للضادِ، فهي للبدعِ طَوْعٌ، وعلى مدى الصوتِ جَهْرٌ !

عصام كرمن نقيبُنا، مَن مثـــلُه بين الأقرانِ، هذا الموسوعيُّ؟ أنّى تجِئْهُ يَلْقَكَ، بالمعرفةِ هَتّاناً، حفّاظةَ شعرٍ، راويةَ تاريخٍ، خزّانَ ثقافةٍ، جَليساً عَجَباً، تقولُه مُعْجَماً، ولا إِعجامَ !

ببالي، وبعضِ آمالي، من زمانٍ، أن أشهدَ له، بأنّه المتفوّقُ اكتناهاً، الدؤوبُ سَعياً، الدَمْثُ خُلُقاً، الوفيُّ خِلاًّ، الجَسورُ مُواجهةً، فلا تردُّدٌ في الرأيِ ولا رِدَّةٌ عن الحقّ !

… إنّهُ لرجلُ قِيَمٍ، تَشَرّبَها والتزمَها، خِيارَ حياة.

القِيَمُ مِحْوَرُ الإنسانيّةِ، قُطْبُ الناس، جوهرُ الأوطانِ والأديانِ، ما تعدّدت وتمايزت. خارجَها لا قُدُسيّةَ لعبادة، لا استواءَ لِكيان. بدونِها لا صُدقَ في إيمان. يُمكنُك، بالقِيَمِ المُجرَّدةِ، أن توحِّدَ المتعدّدَ وتؤالفَ المُتَباين، فلأَنتَ، باتّباعِ منظومتِها، إِنسانٌ مَسْكونيٌّ، تـتخطّى الإِختلافَ الى التوأمة!

على مرِّ السنين، كلما اجتمعنا في حَلَقاتِ فكرٍ أَو نَدَواتِ بيان، وعندما نلتقي في مناسباتٍ اجتماعية، ما بَرِحَ عصام كرم، بِلَمَساتٍ سحريّة، ونَبَراتٍ خطابيّة، يتألّقُ مُحَدِّثاً، يَروي ثقةً أو يُصوّبُ حِجّةً، فيُحوّلُ المجالِسَ الى جَلَساتٍ ثريّةِ المضمون، يُدهِشُكَ بما يكتَنِزُ تفاصيلَ ويُسلسلُ مُعطيات، جمعَها بأناةٍ في ليالي القراءةِ النَهِمَة والتحصيلِ الدؤوب، فلا تفوتُه معلومَة: قولُه الفَصلُ وحُجّتُه القطْعُ !

من زمان، كنتُ أتمنّى أَن يُصدرَ كتاباً، فلا تفوتُ الجَمهَرَةَ ما تنعَمُ به الخاصّةُ من عُرفِه. ولقد أسعدَني أن يستلَّ سوانِحَ، من شواغلِ المحامي الكبير، ليُطِلَّ بهذا السِفْرِ الجامع، تأريخاً وتحليلاً، فاستخلاصاً، بأسلوبٍ شخصيٍّ، “عِصاميٍّ كَرَميٍّ”، لا يمكنُ إلاّ أَن يُذكِّرَنا برائدٍ طليعيّ، من أكثرِ الكُتّاب نِتاجاً وتأثيراً في عصرِه، هو الناجلُ المُطَيَّبُ الذِكْرِ والأثر، صاحبُ “ألف ليلة وليلة”، المتخطّي زمانَه، كرم ملحم كرم، الذي نجتمعُ في رحابِ قاعتِه الحِكمَويّة، وبين مصنّفات مكتبتِه العامرة، إِرثٍ مباركٍ في عِهْدةِ وَلِيٍّ مَبرور!

كتابُ النقيب الراوية، المُحَدِّثِ الآسر، جلسةٌ طويلة، مستفيضة، تحبسُ الأنفاس حيناً… وتَقطعُها ! سَرْدٌ، بَوْحٌ، إخبارٌ… يَشدُّك اليه، تُواصِلُ القراءةَ، تَدخلُ معه الدُورَ والقُصور، ينقلُك من المخادِعِ الى المقاصل، مروراً بالأَفناءِ والساحات، فهنا وشاياتٌ، فضائحُ، مؤامراتٌ ودسائس، وثمّةَ معاركُ وحروبٌ… فعودةٌ الى تفصيلٍ مُبْهِر…

سَيْلُهُ عَرِمٌ، تَطفو على دَفقِه ولا تَغرَق. تَداعي أفكارٍ، استطرادٌ مُذهِلٌ، استدعاءاتٌ ايحائيّة. كمٌّ هائلٌ من المعلومات، مخزونُ أهراءٍ يُبيحُه لك، دفعةً واحدةً، فَدونَك وما طاب !

مُجَلَّدٌ بلا عناوينَ تفصيليةٍ، ولا تبويبٍ، نَمَطٌ فريدٌ، يأخذُ بالتلابيب.

إِنَّها لأُطروحةُ ثقافةٍ عامّة، دقيقةُ التفاصيل. نتاجُ ادّخاراتٍ شُموليّةٍ، تَنَقُّلٌ رشيقٌ أنيقٌ، على خَطَراتٍ موسوعيّة؛ فصاحبُها، شَفُّ الروحِ، صريحٌ، مباشَرٌ، واضحُ الموقفِ جَليُّ التبليغ، يترسَّمُ المبادئَ، يتخلَّقُ بالمُثُل. مؤمِنٌ ومُمارِسٌ، حريصٌ على الأُصول، صادقٌ، مع النفسِ والآخر، في السيرةِ والقَصِّ، التحليلِ والاستخلاص. ولئن نفى عن الوطنِ والدولةِ القرارَ، فإنَّه لَمُتَّخِذُهُ بنفسِه: أَن يبوحَ فيُعَرّي، ينزَعَ أوراقَ التينِ عن مُحترفي سياسةٍ، قَــنّاصي فُرَصٍ، مُرتزَقةِ حِصَصٍ، مستغلّين، مَصلحيّين، إِقطاعيين مُمَوّهينَ بعقائد، وصوليينَ يَمتطونَ طوائف، يسوقون أنعاماً، رَجعيين ينتحلونَ مبادئَ، أَدعياءِ إِصلاحٍ في الحَمْأةِ والغون، على الصداراتِ يتدافعون… كبعضِ زمانِنا ومرَّ العصورِ، إذ يَــتَـــقَـــوّلون !

لا شكّ في أنّ لبنان، شأنَ كثيرٍ من الأوطانِ والدولِ الصغيرة، عانى، وما برحَ، من تَدخّلاتٍ وإِملاءاتٍ عطّلَت حريَّتَهُ وسَلَبَت قرارَه، جعلَته في مَهَبِّ الأطماعِ، واستنزفَت الكثيرَ من طاقاتِه؛ إضافةً الى تعرّضِه المستمرّ للاجتياح والاحتلال، بسببِ موقِعِه، على مفترَقِ العوالمِ والقارات. لكنّه، من ضمنِ الحَيِّزِ المحدودِ لمبادراتِه، والهامشِ الضيّقِ المُتاح لخِياراتِه، استطاعَ أَن يُشكِّلَ نموذجاً فريداً للوَحدةِ في التنوّع، يستحقَّ لَقَبَ الرسالة ويتأهَّلَ لدورٍ عالمي، مركزاً للتلاقي والحِوارِ الدَوْليّ.

إنَّ مجرَّدَ القولِ بلبنان وطناً ودولة، يفترضُ قراراً مبدئياً، أولياً، بالوجود، كياناً تعدّدياً، في شرقٍ أحاديٍّ مُحْكَمِ الإغلاق، يصنّفُ الناسَ مُسْبَقاً، يَعتبرُ الآخرَ مولى بالولادة، ويُنكرُ عليه حقوقَ الانسان !

عَبْرَ تجربةٍ طويلة، أدركْتُ أنّ في قُرارةِ كلِّ لبنانيّ، من أيِّ طائفةٍ أَو مذهب، شعوراً بنعمةِ وجودِ هذا الوطن، وقيامِ هذه الدولة، وبالتالي تَوْقاً ضمنياً الى استجماعِ عناصرِهما واستكمالِ مواصفاتِهما، مع الاشارةِ الى أنَّ الحنينَ الى ذلك أكثرُ ما يتجلّى، لدى المهاجرين، (تسميتُهم المُلَطّفة هي “المنتشرون”)، اذ يفتقدون “لبنانَهم” في الغربة. ولقد أُتيحَ لي، خلالَ تجوالي بينهم، أن أَتعرّف لديهم أعلى درجاتِ الانتماءِ وأخلصَ عواطفِ البُنوّة، مع شعورٍ بالحزنَ لتغييبِهم المُزمنِ المتعَمَّدِ، عن المشاركةِ في القرارِ الوطني المعطَّلِ والمفقود !

وبعدُ، يا أخي عصام، يا صديقَ العمرِ ورفيقَ الزمنِ المُتسارعِ، حَسَنٌ أن تَروي وتستفيض، تَسْرُدَ حقائق، تُحلِّلَ دقائقَ وتستخلصَ عِبَراً. لكنّني، بعدَ معاناةٍ ناهزتْ عُمرَ صداقتِنا، واختبارٍ مباشَرٍ تخلّلَتهُ خَيْباتٌ كثيرة، أستطيعُ الجزمَ بأن التبعيّةَ والهوانَ ليسا قَدَراً، والاستسلامَ ليسَ ضماناً للسلامة، فلا مقايضةَ بينَ الكرامةِ والمصلحةِ الآنيّة، لأنّ ما يلوحُ تَسْوِيةً مرحليّةً، يُبطِلُ الحلولَ الجَذريّة… فقد كفانا تسوياتٍ ظرفيّةً، ولا مناصَ من العودةِ الى روحِ ميثاقِنا ودستورِنا، مع تعديلاتِه الأخيرةِ، التي كان لي شرفُ صوغِها، إِرساءً لأُسُسِ شراكةٍ فِعليّةٍ في المسؤوليّةِ العامّة، الأسمى من كلِّ الاعتباراتِ الفئويةِ والمصالحِ الآنيّة.

يقيني أنَّ الشعبَ اللبنانيّ قادرٌ على توطيـدِ أُسسِ وطنٍ نهائي وصُنعِ دولةٍ موفورة، لكنْ عليه أن يأخذَ، هو نفسُه، قراراً مباشراً بالنهوض، من دونِ انتظار، عَبْرَ صَحْوَةٍ يصنعُها رُسُلٌ، لا سُعاةُ بريد يأتمرون بمن يتوهّمونه مرجِعاً ضامناً لمصالحِهم الشخصيّة، ويتلقَّوْن تعليماتِهم من مرجعيّاتٍ خارجية ومحاوِرَ اقليميّةٍ ودوليّة، يستقوون بها ويستعدونها على أَهلِهم !

سنظلّ نراهنُ معاً، بمَن تيسَّرَ وتوافر، وأيٍّ أخلصَ ولم يتآمَرْ، على صَحْوةٍ لبنانية، تؤكّدُ هُوِيّةَ “الوطن الرسالة”، بقرارٍ نابعٍ من إِرادةٍ جامعةٍ، لِشَعْبٍ مُوَحَّدٍ ايماناً، وإن تنوَّعَ مذاهبَ وتَعَدَّدَ طوائفَ وأدياناً. لا من تَنَمُّرٍ فِئوي، أو تَوَجُّهٍ فَوْقيّ، لا من استجداءِ حمايةٍ، وتَسَوُّلِ وِصاية، ولا من تحريضِ غريبٍ على قريب… يجبُ، بل يتحتَّمُ، الارتدادُ الى الذاتِ اللبنانية، الصافيةِ النقيّة، تحقيقاً للوجودِ النوعيّ المرتجى، لأنَّ لا قيمةَ لإنسانٍ، في أيِّ مكانٍ، ولا قيامَ لدولةٍ وبقاءَ لوطن، إلاّ بقرارٍ جازم، وموقفٍ حاسم، لا يهاوِدُ ولا يَهاب… وعبثاً التنظيرُ خارجَ المنظور !

سَلِمَ قلمُكَ أيّها النقيبُ الحبيب، ولتُدَوِّ الصرخةُ لصُنْعِ القرارِ المعطّلِ المفقود، بنورِ “الحكمة” الساطع.

عصام كرم

كلمة الختام كانت للنقيب كرم جاء فيها:

ألتحيّة بدلا” من الشكر . لأن الشكر لإمرىء على صنعه… وباللاّم أفصح … هو الثناء عليه. أما التحيّة فأهمّ بكثير . لأن حيّاه تحية ً  قال له حيّاك الله . أي أطال عمرك !

كتبت لا أُراعي . لأن الكتابة مسؤولية الصادقين .

تحيّة إلى أمير من أُمراء الكنيسة ، المطران بولس مطر ، رئيس أساقفة بيروت وولّي الحكمة ، ألباني بالكلمة وبالحجر مداميك بهيّة في عمارة العيش المشترك في حرص على تفعيله وترسيخه في عقد إجتماعي يتكامل مع عقد سياسي هو الميثاق المتكامل مع الطائف ، فيصير العيش المشترك حقيقة ً لبنانية ً تسعى… أرفع بكثير ، وأرسخ بكثير ، من شعار مستهلَك.

بولس مطر وعى معنى تجاور الكنيسة والمسجد … كاتدرائية مار جرجس ومسجد الأمين … يقولان معا” : لا للطائفية السياسية ، ولو راسخة متمكّنة. لا للتكفير. لا لخطوط التماسّ . لا للإرهاب . لا للإحتلال !

مثلما وعى أنّ الكنيسة ليست الـ ريكونكويستا. هي الروح اللاّتينية توجّه المجتمعات وتهذّبها ، وقد قضّت الكنيسة الكاثوليكية أربعة قرون … من الـ  ” كونسيل دوتْرانتْ إلى الفاتيكان الثاني … حتى تنفّضت من ” الدروع الرومانية ” . ملكوت يسوع ليس من هذا العالم … ملكوت الكنيسة ، بلى ! ، فيه من هذا العالم مساحة رحراحة . لاهوتٌ وناسوت … كما في أول إطلالة لها مع البابا لاوون الثالث في رسالته ” الأشياء الجديدة ” Rerum Novarum   الصادرة في سنة 1890 والتي قيل في شأنها  ” لو صدرت الـ ريروم نوفاروم  قبل ربع قرن لما كان صدر كتاب ” رأس المال ” لـ كارل ماركس”.

عقد إجتماعي ، يا سيّدنا ، يزيل العَداء بين المواطن والدولة المقدور عليها أن تحترم الحقوق الشخصية ، وهي حقٌّ طبيعي تحفظه الدولة . فما أحد في ذمّة أحد . بعضنا في ذمّة بعضنا . وكلنا في ذمّة الوطن والقانون . بذلك تعظم بالكنيسة  ثقة الناس. وبذلك تكون عدالة في فرض الضرائب ، فتزول شكوك في أن ما يدفعه المواطن صائرٌ مالا” نهبا” للأيدي الطويلة .

ويا ليت أهلنا السنّة والشيعة يسمعون مني … فلا يضيعوا زخما” وفيرا” في السعي إلى “سنيّة سياسية  ” أو  ” شيعيّة سياسية ” ، وأمامهم  ” المارونيّة السياسية ” خير الواعظين !

تحيّة إلى وزير الكلمة والفكر السياسي والمودّات . سبحان من وهب ! أنا وإدمون لم نتّفق من الأشياء الأساس إلاّ على الصداقة الحفيّة والكلمة المؤثّلة. وثاق الصداقة والحرف جَمَعنا خيرا” من كل ميثاق . أقول هذا وأمامي صداقات ترقى إلى الأزمنة القديمة … آشيل وباتروكل. إبن المقفّع وعبد الحميد الكاتب. أندري جيد وبول فاليري .

تحيّة إلى الدكتور أنطوان سعد الشاهد الأمين على فصل الغثّ عن السمين . ألمنبري . ألمتعامل مع الكلمة متعافيا” يقولها صافية ً مونقة يطلقها من منبر عال واكبه العُلا منذ اعتلاه أكابر الحكمويّين .

تحية إلى الخوري خليل شلفون ، رئيس الجامعة الباحث المثقّف ومعاونيه الأكارم .

تحيّة إلى الكتاب الورقي الذي جاء به تقدُّمٌ تقني والذي لا يجوز أن يذهب به تقدُّمٌ تقني . ألحداثة لا تنفي الأصالة . وغوتمبرغ لا يتعارض مع زوكربرغ .

تحيّة إلى زميلتي ورفيقة دربي الأُستاذة نولي عَوَض التي حرّضتني على الكتابة ، مع علمها بأن التحريض جريمة تعاقب عليها المادتان 147 و 148 من قانون العقوبات

اترك رد