إيلي مارون خليل (6)

إيلي مارون خليل

(أديب وشاعر وروائي وقاص- لبنان)

رأيتُ، في ما رأيْتُ، أنّي أكتبُ كثيرًا، ويوميًّا، بعفويّة، بسهولة، بشغَف. سُرِرْتُ وخِفْتُ وتساءلْتُ.

ألسُّرورُ لأنّ الكتابةَ فرحي، سعادتي، ذاتي، حياتي، تسليتي الفنّيّة الجميلة، الخيّرة.

كيف يكون ذلك، وكلُّه!؟

كيف أعرف؟ كيف يُمكنني أن أعرفَ؟

لعلّ الفرحَ يرتدي جسدي ومادّيّتَه، فأطمئنّ إلى أنّ ما أكتبُه جزءٌ منّي ينسلخ عن قلبي تعبيرًا عن لذّة أزعم أنّها وليدةُ حُبّ! فالحُبُّ هو الدّافعُ والوسيلةُ والغايةُ. فأفرح!

في هذي الوضْعيّة، تكون “الحبيبة” وهْمًا حقيقيًّا موجِعًا، يجعلني أغَصُّ إلى حدود الاختِناق. هذا الوهم الحقيقيُّ الجميلُ، وأعرفُه وهْمًا، يحزّ فيّ جراحَه. بها أتألّم، أنا، لكنّي أستغرِق، مُستسلِمًا، في حديقة حُبِّها. أنتظر تُكالِمُني، ويظلُّ الانتظارُ انتظارًا عابسًا، عابثًا، غيرَ لائقٍ إلّا بالمجهول المُرتجىى. وأُكابِرُ منتظِرًا. أُكابرُ جريحًا، لكن… فرِحًا!

ولعلّ السّعادةَ تنبجِسُ من روحي ونورانيّتها، فأستكينُ إلى أنّ ما ينبُع منّي، يَفيض من قلبي لهفةً ـ صِدْقًا، يُفيض عليّ ماءَ الحَنانِ، وغيمَ الأسرار. فأشعُرُ بأنّي ممتلئٌ طُمأنية الحُبِّ ـ الاكتمال. فأسعد.

في هذي الحال، تكون “الحبيبةُ”، حقًّا، وهْمًا يُخصِبُني بالكآبةِ القاسيةِ، تَسلخُ، منّي، ما يتراءى لي أنّه الحياةُ، وأَعرفه هذيانًا مَبينًا، يدلف منّي إليّ، به أنسجُ نَولَ أيّامي مدى العُمرِ، وأَستسلم أَحوكُ مُشكلات أيّامي كما أَبتغيها. وأستمرّ أنتظرُ “الحبيبةَ” وعدًا عصيًّا، لا يليقُ إلّا بالمستحيل الخَلّاق، مكابِرًا أَستمرُّ. وأَستمرّ… سعيدًا!

يُشعِرُني الأمرُ المؤلِمُ على حُسنِه، المُفضي إلى الكتابة على مَرارتها، بأنّ الكتابةَ ليست، أبدًا، إلّا ذاتي! فأنا، من دون قصْدٍ، من دون انتباهٍ، أتَماهى بكتابتي، أذوب فيها، لا أشعر بأنّي أذيبُ ذاتي. أُذيبُ فعلٌ مقصود بذاته، وليس هو ما يحصُل! ألكتابة لا واعية. لا أُفكّر، وأنا أكتب، في ما أقول، في ما لا أريد أقول، في ما يجب، في ما يجبُ ألّا… وأنا أكتب أكون ذاهلًا، كلّيًّا، عن كلّ خارج! لا أكون أسمع إلّا ذاتي، لا أكون أرى إلّا ذاتي، لا أكون أشعر إلّا بذاتي، لا أكون أذوق إلّا ذاتي… ذاتي! ذاتي! ولا أتشرنقُ فيها! فالذّاتُ هي “الحبيبة”، مَن هي “الوحيدة”، ولا تُصَدّقُ!

وهذا الأمر، هذي الحال، ألا يعني أنّ ذاتي هي حياتي!؟

بلى! تمامًا وكلّيًّا، ودائمًا!

ففي كلّ كتابة، في أيّ كتابة، أكتب ذاتي، إذًا حياتي! لهذا، فالكتابة هي الصّدقُ العاري، الطّاهرُ، الفصيحُ، البليغُ، العابر عَبْر الصّورةِ، الاستعارةِ، الرّمزِ، الّلمْحِ، الإيقاعِ… إلى السِّوى.

وحين أُفيق من الحالة، وأقرأ ما تدفّقتُ به، لا أرى إلّا “هي”، الّتي هي “الحببيبةُ”، “الذّاتُ”، “الحياةُ”! فأحار: أأفرح، أم أسعد، أم لا أُبالي، أم أهتمّ…؟ أم لا أفرح، ولا أسعَد، ولا أُبالي، فأستمرّ على الحَيرة، ومنها، وفيها، فلا يُفْضى إلّا إليها! فرِحًا، سعيدًا، لا مُباليًا، مُهتمًّا، آملًا، راجيًا، حزينًا، كئيبًا… معًا! ولا أستغربُ! هي “الحالة”، ولا خَلاصَ منها، لأنّها، هي، “الخَلاصُ” الحَيُّ، الجميلُ، الدّائمُ!..

فماذا أُسَمّي ما يحصُل لي؟ ما أسَمّي هذا الفِعلَ، الكتابة، الذّوَبان…؟ أهو تفكيرٌ؟ طبعًا لا! ألتّفكيرُ عملٌ إراديٌّ! يُقصَد بذاته، لذاته!

أهو عملٌ؟ حتمًا لا! ألعملُ مُخَطَّطٌ له! بالوعْيِ التّامّ النّابض كلِّه!

أهو كتابةٌ؟ طبعًا حتْمًا لا! ألكتابة تفكير وعمل، قصْدٌ واعٍ، وهي لا!

فما هو هذا الّذي أُمارسُه عفوًا، لا وعْيًا، ذوبانًا…!؟

إنّه الأدبُ. فنُّ الأدب! أقصد فنَّ التّسلية! فنُّ التّسليةِ الجميلةِ المُفيدةِ فَرديًّا وجَماعيًّا معًا! وإلى الأبد!

(ألسّبت  25- 5- 2016)

    

اترك رد