وسام سري الدين
(كاتبة_ لبنان)
الجميل في كتاب سلمان زين الدين “دروب” أنه يقرأك حين أنت تقرأه، إنّه يضعك على حافّة الشوق، (“وحين المكان يضيق، تُفضي الطريق إليَّ” ص53) تنظر إلى نفسك، تراها قانعة مفاخرة بما هي عليه… وهو بكتاباته يحلّق عاليًا (“وأنا احلّق في فضاء شاهق”- ص -10″أنا مذ ساور التحليق أجنحتي” ص70). الكتاب “دروب” (دار نلسن) بين الأنا والآخر يحدث المسافة – الشرخ، ثم لا يلبث أن يلغيها فهو القريب البعيد، يهمس في أذنك بما تشعر معه أنك تنصّ بنفسك الكتابة، ثم تشيح بوجهك، لأنّك لن تطال معه النجوم.
الكتاب جزء من الكاتب، الذي ما إن ينسى نفسه عند درب من دروبه السمر، حتى يبتسم لمرآة تصطفيه للصلاة(“أنا لست سواك”.ص73). يهدي الشاعر كتابه مع أهداب المحبّة وخيوط السكينة. هو المتأني ونحن نركض (“خطاهم العجلى”ص7). فلا يمرّ متمايزٌ من دون لفت الأنظار، تحفيز الحواس (“الشهد… قاب قوسين من مواعيد الأنامل” ص29)، وتأثير في المشاعر. ولا شيء يقف عند وهم، ولا يتبع أحدا(“ليس لي شيخٌسواي”ص7) يقول.
يتحدّث الشاعر عن العاصفة، البحر، الغيمة، الحجر، النجوم والصور… كما يقيم عرسًا للأرض، يلوّح بمناديل السلام، يشير الى سخافات البصر والجباه العاليات، يتجاوز الضمائر بأحجامها إلى مسرح الطبيعة والحياة والحنين وعشق السفر (“ففي الدنيا فضاءات، تضاعف فتنة الدنيا” ص69).
الشاعر ابن الطبيعة، ابن الريف والمدينة، ابن الشعر والثقافة وقصور المفردات(ص98). هو الذي أطلق الحرية من قفص، ومشى حاملا زاد طرقه متفرّدًا بعين نفسه حين يضرب في الأرض ..قال وسكت، انتظر وانتظر مع شهرزاد نهارًا جديدًا رافلًا بثوب من الضوء(“يندلع النهار” ص21)، يخرجه من حرف مميت ولسان الحوار القديم، من فتنة الدنيا… وهو من الحرف يخرج السنابل لتقرّ العيون(ص99) …
جامع المتناقضات
سلمان زين الدين يصبح جامع المتناقضات حين يجعل شهريار يروي ونحن نسمع همسه في أقنية القلوب، ويؤجل موتنا الى كتاب جديد…(“فوق ما تهوى الظنون” ص23)
تناول مشاعرنا في دروبه فغدت قافزة من يده اليمنى إلى اليسرى وبالعكس، صانعًا منها أقواس قزح، كحّل بها عينيه واطمأنّ…وكحّل بها أعيننا فأقلق سكينة أمواجنا..
أهو كنز طوال الدرب، حلم؟ أم حقيقة يحرّضك معها على أن تقف بين الماضي والحاضر، بين الضوء والظلمة، الصمت والكلام…
مشى الشاعر كثيرًا في دروبه، بكّر في المشي، تخيّل وحَلم حُلم الشباب، كذلك تذكّر كثيرًا كشيخٍ كبيرٍ جليل ..عاد بصور ومهرجان صهيل خيول الشمس(ص92). الأرض عروس والناس ريح هوجاء، فالأيّام ثلمت أجسادنا، أحرقت جمارها، وكوت ما فينا من الجهل بنا . فاستفاق الأخضر ونمنا وهو يسهر الليل، تنام أوراقه على عذابات أنينه لكتابة قصيدة “ترهق أعصاب فتاها” (ص30).
في شعر سلمان زين الدين حديث عن زمان، مكان، أيام، عجز، واقع، أخاديد في الجباه وجمر في اللّيالي، جمر دفء وجمر ألم. لا يؤلمه أن يلبّي دعوات لا يلبّيها غيره، فهو على موعد مع القدر، له مع الثلج حكاية، ومع الناس ألف حكايةوحكاية . يدعو الى درب في البحر للتوغّل فيه، درب ليس فيه متاهات ومكائد (“تعبرنا تجرفنا وتتركنا” ص80).
درب جديد
رجل المغامرة المنسكبة رؤاه على مذبح الخلاص، يكاد يقول كفى بعد تقطيع أشواك الغابة لخلق درب جديد، أو بعد تلوين دفتر الشعر جميعه، فيعلم “بعض العارفين” (ص68) بالمخمل الهادر بأزاهير فضاء ماطر، بصدى السنين الملتزم أدبًا ومسلكًا. صداه حضور وألق، لا هدرٌ لنغمة، لا سخفٌ ولا افتراس ولا تذبذب. الغياب والسفر طويلان، والشمس لا تني تفتح الجفون لأنّ الدروب صعبةٌ المسالك هيّنة على الباحث عن حقيقة الذات، الذي لا يغوية الذهب. دروب سلمان زين الدين ترقى الى “مقامات الطرب”(ص49) اذا فاتنا قطار الإياب من كتابه السابق . فدروبه توصل إلينا بعض عطر وفلسفة وواقعية، و”صدىً أخضر”(ص71)… لم يحمل شاعرنا سيف الرفض ليشقّ الطريق فقط، بل أخذ في جعبته رذاذ فرح وحبّ وعلم، من عالم أنقى وأصفى بغير هواجس(ص48).
بعض دروبه قاسية طويلة، دروب خطر ودروب نزهة ربّما، لكن، ومن المؤكد انّها ليست تؤدي الى الضياع. فإما أن نمشي على دروب نشّقها بأنفسنا أو نمشيها على خطى الغير…فالدُّربةٌهي الاعتياد والدروب موجودة، ولصاحب الخطى الواثقة طولها وعرضها وحلم الحرّية!