الحكم اللبناني في مواجهة الأزمتين الاجتماعية والسياسية

خالد غزال

(كاتب وباحث- لبنان)

أربك مشهد التظاهرات الحاشدة نهار الأحد الماضي في ساحة رياض الصلح، أهل السلطة الذين لم يكونوا يتوقعون مثل ردود الفعل التي حصلت. كان التحالف الطبقي – الطائفي الحاكم مطمئناً الى قدرة أهل الطوائف على ضبط الجمهور، وتحويل أي قضية اجتماعية الى قضية طائفية كفيلة بإجهاض المطلب.

مارس التحالف الحاكم سياسة اجتماعية لا تراعي الحد الأدنى من مطالب الناس وهمومهم. يفرضون الضرائب في شكل عشوائي، يعجزون عن حل قضية بسيطة مثل النفايات، يتركون البلد ساحة للنهب والفساد، مما وضع لبنان في المرتبة الـ123 من الدول الفاسدة وفق تقرير منظمة الشفافية الدولية. يعجز التحالف الحاكم عن تأمين الخدمات العامة، وحقوق الموظفين ويطيحون كل مرة بسلسلة الرتب والرواتب، بعد أن أقر النواب قانوناً للإيجارات كفيلاً بتهجير مليون مواطن خلال سنوات قليلة قادمة.

لم يكن غريباً أن ينفجر الوضع مؤخراً، فما حصل خلال مناقشات الموازنة وحجم الضرائب غير المباشرة التي تطال الغالبية العظمى من أبناء الطبقات المتوسطة والفقيرة، معطوفاً على تاريخ من تجاهل المطالب الشعبية، وسوء تقديم الخدمات، جعل الكيل يطفح، بعد أن أحس كل مواطن بحجم الكلفة المقبلة عليه من هذه الضرائب، في وقت يتجاهل أهل الحكم وجوب أن تطال الضريبة المباشرة الميادين التي تشكل مصدر الهدر والفساد. قدر خبراء اقتصاديون حجم التهرب الجمركي من المرافئ والمطار بنحو بليوني دولار، والتهرب الضريبي يكلف خسارة نحو أربعة بلايين دولار، فيما يكلف الفساد الدولة سنوياً هدراً بقيمة عشرة بلايين دولار.

بدلاً من أن يتوجه أهل الحكم لفرض ضرائب على المصارف والشركات العقارية ووضع حد للتهرب الضريبي والأملاك البحرية، مما يؤمن للخزينة سد الموارد المطلوبة، استسهل أهل الحكم إعفاء هذه الجوانب لكون أصحابها هم أهل الحكم أنفسهم.

إن انفجار المشكلة الاجتماعية هو حصيلة سياسة اجتماعية واقتصادية متراكمة منذ سنوات لتحالف الرأسمالية المتوحشة وأهل المحاصة الطائفية. سيكون من الصعب على هذا التحالف التعاطي معه بخفة وعدم اهتمام. ما هو حاصل ليس قضية فئوية على غرار قضايا متعددة، نحن اليوم أمام كل المشاكل الاجتماعية وقد انفجرت. لعقود سبقت، كانت خطة هذا التحالف تقوم على حرف الحراك الاجتماعي بتحويله الى قضية طائفية تمس هذه الطائفة أو تلك. وقد نجح في أماكن كثيرة. يشار هنا الى ما تعرض له رئيس الحكومة خلال التظاهرة، وهو أمر غير مبرر، لكن ما هو أسوأ وأشد وقاحة ردود فعل بعض القوى السياسية والدينية التي أعلت صوتها، معتبرة أن الاعتداء على رئيس الحكومة هو مس بموقع الطائفة التي يمثل. كلا، ما تعرض له الحريري ناجم عن كونه جزءاً أساسياً من التحالف الطبقي الحاكم المنغمس في الفساد والمسؤول عنه وعن الهدر الحاصل في أموال الدولة. لا شك في أن هذا التحريف للمطالب العامة سيعمل أهل الحكم على تجييشه، عبر تحويل المطالب الى قضية طوائف متناحرة، على رغم الصعوبة هذه المرة، لأن المشكلة الاجتماعية لا تميز بين أبناء طائفة أو أخرى.

في الأزمة السياسية المفتوحة تحت عنوان قانون الانتخاب، يتصرف الحكم على قاعدة أن الفرصة قد أتت لاستعادة الموقع الذي كان للرئيس قبل اتفاق الطائف، ووضع قانون انتخاب يخل بالتوازنات السياسية والطائفية. يسلك الحكم كأن البلد يقوم على حكم رئاسي وليس برلمانياً، وهو مسلك قابل لأن يستثير بسرعة ردود فعل الطوائف الأخرى، مما يضع البلاد في المجهول. يضاف الى ذلك طبيعة التفكك في السلطة، فكل موقع فيها يتصرف على قاعدة «إقطاعية» في إدارة شؤون هذا الموقع. لا يفيد هنا الصراخ بأن ما يحصل هو لإرباك العهد الجديد ومنعه من تنفيذ سياسته في الإصلاح والتغيير. فالأشهر التي مضت لا توحي لا بإصلاح ولا بتغيير، بل بتكاتف الجميع من أهل السلطة لاقتسام الحصص ونهب الموارد وصولاً الى سياسة أمنية مقبلة تمهد لكبت الأصوات المعارضة.

في الختام، لا بد من التحذير من أن يقع الحراك الاجتماعي الجديد ضحية عدم التنسيق بين القوى، سواء كانت مدنية أم حزبية، أو أن ينحرف الحراك الى نوع من الشغب والفوضى، على غرار ما حصل في التظاهرة الأخيرة. فهذه أقصر الطرق للفشل كما أصاب الحراك المدني قبل عامين خلال أزمة النفايات. كما لا يفيد تضخيم الشعارات غير الواقعية على غرار مطالب إسقاط النظام الطائفي، بل يجب التركيز على قضايا مطلبية محددة تجمع حولها أوسع قوى شعبية. إن أهل الحكم متربصون بأي خطوة مقبلة وسيعملون على إفشالها بشتى الوسائل ومنها افتعال حالات شغب من جانب الأجهزة الأمنية والميليشيات الطائفية. إن المسؤولية كبيرة على قيادات التحرك لمنع إجهاضه وإفشال مطالبه.

اترك رد