سلمان زين الدين
(أديب وشاعر- لبنان)
منذ أربعة عقود ونيّف، يواصل محمد علي شمس الدين “التصعيد في معراج الشعر أو الحفر في باطنه”. التصعيد والحفر مفردتان مختلفتان لغويًّا، غير أنهما تفضيان الى النتيجة نفسها: الشعر. بذلك، تتضادّان في السبب وتترادفان في النتيجة، وقد تمخّضت هذه الحركة المزدوجة عن ست عشرة مجموعة شعرية حتى الآن، كرّسته قامة شعرية كبيرة ومختلفة، على خريطة الشعر العربي المعاصر والحديث. لذلك، تبادر بعض الهيئات الثقافية الى تكريمه، بين الفينة والأخرى، باصدار مختارات من أعماله الشعرية، وهذا ما أقدمت عليه أخيرًا الهيئة العامة المصرية لقصور الثقافة في مصر، بإعادة طباعة ثلاث مجموعات شعرية له في كتاب واحد، هي “الشوكة البنفسجية”، “أميرال الطيور”، و”منازل النرد”.
في العودة الى تاريخ صدور المجموعات الثلاث، يتبيّن لنا أن أحد عشر عامًا تفصل بين الأولى والثانية، وأن سبعة أعوام تفصل بين الثانية والثالثة. واذا ما اعتبرنا أن اختيار الشاعر هذه المجموعات من دون سواها مسألة لا تخلو من الدلالة، فإن إلقاء الضوء عليها، باعتبارها محطات في مسيرته الشعرية، من شأنه اضاءة هذه المسيرة من دون أن يعني ذلك اختصارها أو اختزالها.
ما يميز شعر محمد علي شمس الدين عن سواه، سواء في هذه المجموعات أم في غيرها، هو أنه شعر صعب، ويحتاج الى قارئ مثقف لسبر أغواره. تتأتى صعوبته من تعدّد مرجعيّاته الثقافية التي يصدر عنها ويحيل عليها، وتتراوح بين الصوفية، والدينية، والفلسفية، والأدبية، والتاريخية، وأكثرها حضورًا في شعره المرجعية الصوفية. على أن الشاعر يتقن استثمار مرجعياته وتوظيفها في النص، في نوع من التناص الخفي، الذي يغنيه ولا يثقله، وهو يفعل ذلك على طريقة القطب المخفية في نسيجه النصي. يترتّب على استخدام المرجعيات، على أنواعها، القول ان الرؤية الشعرية لديه تصدر عن الايمان بوحدة الوجود، القلق الوجودي، العلاقة الجدلية بين الانسان والطبيعة، واختصار المسافة بين الخالق والمخلوق. ففي واحدة من التفاتاته الجميلة يقول: “كلّ مساءٍ، أجمع حفنة ماءٍ/ أسكبها فوق يديه/ وأجلس تحت أصابعه/ أتلقّف حبّات الماء المتساقط منها” (ص 07).
هذه الرؤية الشعرية يعبّر عنها الشاعر بأشكال مختلفة، تتعدد الأنماط اللغوية فيها، وتتراوح بين السردي، والحواري، والوصفي. على أن الأول أكثرها استخدامًا، مع الاشارة الى أن السرد هو مجرّد اطار خارجي للقصيدة، وهو السلك الذي ينتظم الشعر، ويجذب المتلقي الى حقله المغناطيسي من دون أن يشغله عن الاستغراق في جمال القصيدة. كأن القصيدة عند شمس الدين هي هذا التفاعل المدروس بين خارج سردي وداخل شعري، والخارج هو مجرد اطار للصورة الشعرية التي تبقى الأساس في قصيدته. على أن النمط السردي قد يتم، بدوره، في اطار حواري بين صوتين أو أكثر داخل القصيدة الواحدة. أمّا النمط الوصفي فيتم بواسطة التصوير الشعري.
بمعزل عن النمط اللغوي المستخدم في هذه القصيدة أو تلك، يمتلك شمس الدين خيالاً مجنّحًا ولا سيما في القصائد الصوفية، وهو خيال يوغل في الغرابة أحيانًا حتى يلامس السوريالية في التعبير عن رؤيته الشعرية. يستخدم الغرابة للتعبير عن الغربة والاغتراب، كأني به يرسم تصميمًا مسبقًا لقصيدته ثم ينفّذه على الورق ما يجعل النص متماسكًا، مدروسًا، ولا يخضع للمصادفة الشعرية. ثمة هندسة شعرية صارمة في القصيدة لا تترك مجالاً للمصادفات.
في العودة الى المجموعات الثلاث، ترتفع في “الشوكة البنفسجية” النبرة الانشادية/ الدرامية ولا سيّما في القصائد الطوال، وثمة مقاطع بعينها تتكرّر داخل القصيدة كلازمة، فتنتظم القصيدة كسلك، وتتعدد تمظهرات الأنا الشاعرة، فيتخذ شمس الدين من بعض الشخصيات، التاريخية أو المتخيّلة، أقنعة للتعبير عن هذه الأنا، من دون أن يترتّب على ذلك تماهٍ حتمي بين الوجه والقناع. بذلك، تطل الأنا الشاعرة من خلال: ديك الجن الحمصي، شهريار، قائد الجند، الذئب، المعري، السياب، رامبو، وسواها. على أن ما يجمع بين هذه التمظهرات هو اشتراكها في الغربة والاغتراب والخيبة والوحدة والوحشة، وهذا ما يفسّر مسحة الحزن التي تطغى على هذه المجموعة وسواها. شمس الدين في استخدامه الأقنعة الشعرية لا يمارس ديكتاتوريته التي يمارسها في صناعة النص بل قد يكون ديموقراطيًّا الى أبعد الحدود، فيترك للشخصية القناع أن تقول تجربتها كما تشاء في المضمون ولكن بلغة الشاعر. وهذا ما يفعله في “عودة ديك الجن الى الأرض”، وفي “تعب شهريار وهواجس الليلة 1000″، على سبيل المثل.
في “أميرال الطيور”، ترتفع النبرة الصوفية، وتحضر في عدد من القصائد، سواء على مستوى الفكر الصوفي أم التعبير، ولعل القصيدة الأولى في المجموعة، “ولي الريح”، هي الأكثر تعبيرًا عن هذه النبرة، حيث يتماهى الشاعر العاشق بالمعشوق ويضحّي لأجله بكل شيء، وحيث يتمظهر المعشوق بكل ما يظهر كرامته، ويبرز تأثيره في الطبيعة والفلك والعاشق والدين: “هذا أنت/ رأيتك محفوفًا بالغزلان/ ودمعك يجري/ كاياقوت على صدرك/ ورأيت على مئذنتين بهاك/ فهمت على وجهي/ وعراني الحال…” (ص 123). في قصيدة صوفية أخرى، “آدم لا يندم”، يطرح شمس الدين أسئلة الكينونة مستعيدًا أسطورة آدم وحواء، والخروج من الجنة، وسقوط آدم في ما حُذِّر منه، وفيها يتخطى الحضور الصوفي المستوى الفكري الى التركيبي، فنقع على تراكيب “نفّرية” (نسبة الى النفّري)، كما في قوله: “أوقفه بين يديه، وقال…” (ص 144). على أن المرجعية الصوفية، بمستوييها الفكري والتركيبي، ليست الحاضر الوحيد في المجموعة، بل ثمة عوالم غرائبية، حلمية، خرافية، طفلية، وطبيعية، ما يعكس قوة الخيال وبكارة الصور حتى وان جرى التعبير عن هذه العوالم بتراكيب سلسة، أمينة على العلاقات النحوية بين المفردات، ففرادة النص تقوم على العالم المتخيَّل أكثر ممّا تقوم على التراكيب ومفرداتها، وفي الشكل، لم يخرج شمس الدين عمّا اعتمده في “الشوكة البنفسجية”، من سردية الاطار، وتعدد الأصوات، واصطناع الأقنعة.
في “منازل النرد”، تترسّخ، أكثر فأكثر، المرجعية الصوفية، وتحضر الى جانبها، ومن خلالها، غربة الأنا الشاعرة ووحدتها، التاريخ مدنًا وشخصيات، جدلية الأرضي والسماوي، والواقع الثقيل في العراق ولبنان، وتتعدّد المرايا التي تعكس صورة الشاعر، سواء التاريخية أم المتخيّلة، من قبيل: صالح، الامام علي، سالم المجنون، حسن كامل الصبّاح، الحلاج، المعري، أبي حيّان التوحيدي، ابن خلدون، وغيرها.
يترجح الشاعر، في التعاطي مع هذه الشخصيات، بين تقنيتي المرآة والقناع، ويُسقِط بعض ملامحه على هذه الشخصية أو تلك، فتغدو الشخصية، سواء أكانت قناعًا أم مرآةً، صنيعة الشاعر بقدر ما هي صناعة التاريخ إن لم يكن أكثر. هنا، تتحوّل العملية الشعرية الى حوار مع الماضي، انطلاقًا من الحاضر، واستشرافًا للمستقبل.
ان مساءلة الماضي، ومعاينة الحاضر، واستشراف المستقبل، عند محمد علي شمس الدين، انما تتم بالشعر، فالشعر هو خشبة الخلاص من وحول الماضي، ورمال الحاضر المتحركة، وصولاً الى برّ أمان حتى وإن كان فرديًّا وليس جماعيًّا، وهذا ما يني يمارسه الشاعر منذ نيّف وأربعة عقود.
وبعد، لا بد من الاشارة الى أن ستة عشر رسمًا، بالأبيض والأسود، تزين “أميرال الطيور”، وثلاثة عشر رسمًا تزين “منازل النرد”، رسمها الفنان حسن جوني، فتدخل الرسوم في علاقة تفاعلية/ تكاملية مع القصائد، وتتوّج لقاء قمّتين، شعرية وتشكيلية، على صفحات الكتاب، وبين الشاعر والرسام توأمة نادرة تقوم على النسب الابداعي، والقلق الوجودي، والنظرة المشتركة الى الوجود، حتى وإن اختلفا في وسيلة التعبير. وينجم عن هذا التجاور/ التفاعل/ التكامل بين الشعر والرسم ان تضيق المسافة بين النوعين الى حد نتساءل معه: هل نحن ازاء قصائد مرسومة بالأسود والأبيض أم نحن ازاء رسوم ملوّنة بالكلمات؟
******
(*) جريدة النهار 6 مارس 2017