بقلم: أنطوان أبو رحل
في إطار الأبحاث الدقيقة التي أقوم بها للإجابة عن هذين السؤالين، حظيت بديوانٍ شعريٍ صدر حديثاً للشاعر الزجلي الياس صدقه الملقب ب “بلبل البردوني” عنوانه: “فاكهة الغزل- عتابا وميجانا”.
وزحلة التي أعطت بالفصحى والعامية شعراء كباراً، أعطت كذلك شعراء زجل. والزجل سمة مميزة من تراث لبنان، وجزء من فولكلور وعادات القرى والأرياف في سهلنا والجبل. وزحلة، عروس لبنان، الجامعة بين الريف والمدينة الحاضنة الجبل والسهل… كانت على مدى تاريخها الطويل أماً معطاءً في الشعر، على مختلف ألوانه. خرج من رحمها الشعراء والمبدعون وأهل القلم…
“بلبل البردوني”
من هو الياس صدقه الملقب بـ “بلبل البردوني”؟
إنه شاعر زجلي معروف على صعيد زحلة والبقاع، شقَّ طريقه بالاتكال على الذات، والمثابرة على تثقيف نفسه شعرياً، وبالأخص الزجل ومتفرعاته. وهو ابن مدرسة الحياة. من هذه المدرسة استهوته روح الشعر، ومن ثمَّ أخذ يداوم على حضور حفلات الزجل المنبرية، في أي منطقة من مناطق لبنان، وتابع بشغف حفلات الشعراء الذين لهم صولات وجولات، أمثال: علي الحاج، خليل روكز، زغلول الدامور، زين شعيب، محمد المصطفى، موسى زغيب، أسعد سعيد، خليل شحرور، طليع حمدان، أنيس فغالي وجريس البستاني وغيرهم.
خاض غمار الزجل والعتابا وهو لم يبلغ ربيعه العشرين، فقارع المعروفين في هذا المجال من شعراء منطقة زحلة، أمثال: طانيوس غزالي، جرجس اسطفان، بولس مارون، عبدالله مارون، وديع نعمان الحوزي، سليم قنبر، حسين حمود، الياس النجار، عمر مرّه وغيرهم من البارزين في عالم العتابا، ويؤكد صدقه بأن الشاعر مخايل جريجيري كان أبرعهم، ووديع الرياشي من قاع الريم كان أخصبهم وألمعهم، دون ان ننسى الشاعر يوسف حاتم “أمير العتابا”، ومن الكرك علينا أن نذكر سليم قنبر وعلي نصرالله وعلي ابو ديه ووديع الريس ابو نادر.
ترأس جوقة “بلبل البردوني” وحصل، باسمها، على رخصة قانونية لإقامة الحفلات عام 1966، ونشر قصائده من العتابا والميجانا في مجلة “صوت الشاعر” التي يعتبرها حاضنة شعراء الزجل الموهوبين بفضل صاحبها الشاعر روبير خوري.
“فاكهة الغزل”
كتاب “فاكهة الغزل” علامة فارقة في الشعر العامي في زحلة لأنه حافظ على منبريته وبراءته وفطرته… وهو صدى الأفراح والأحزان ورفيق الإحتفالات والأعياد، ونجد عشرات الشعراء أمثال الياس صدقه في القرى والأرياف المحيطة بزحلة، وهم من الفلاحين والرعاة والكرامين… وهؤلاء من المجددين دوماً في مجال العتابا والمعنّى والزجل والقريدة، ولو يصار إلى جمع ما انتجته قريحة هؤلاء الشعراء بالفطرة لوقعنا على انطولوجيا فريدة من نوعها، لأن هذا النوع من الشعر ليس رفيق الإحتفالات والمواسم والأعياد وحسب، بل يكاد أن يكون خبز الأيام وسمر الليالي، وعطر الفصول.
الشعر العامي زادٌ فنيٌّ نجوع إليه، كلما خلت مآدب الكلام من الأدب الرفيع. زاد يقدم لنا كل ما يخطر في البال من فنون القول والنغم، بما نسمع عند صدقه وأمثاله من سحر الكلام ورونق الإبداع، وتنوع المواضيع، فالشعر العامي حافل بالمفاجآت وبطولات الارتجال، لارتباطه بواقع الحياة، إنه الادب الشعبي بكل جمالياته، إنه أدب الغزل والحب وأدب القيم والاخلاق والمبادئ والمثل العليا، ومع كتاب “فاكهة الغزل” نتعلم الحب. حب الحبيبة والوطن وعشق الارض والفروسية والتضحية، مقرونة جميعها بحب الجمال.
ونحن نطالع بحة الميجانا، ولوعة العتابا مع الشاعر المنبري الياس صدقه، نتذكر أن الشاعر رشيد نخلة أول من اطلق اسم الزجل على الشعر العامي اللبناني. وكان اللقب الشائع للشاعر الشعبي، حسب الدكتور أنيس فريحه، هو “القوّال”، أو “المنشد”.
والشعر الذي يلقيه يسمى “القول”، وهو هنا بمعنى “النظم” وأصل الكلمة عبرية معناها الصوت أو الانشاد. كما يؤكد الدكتور فريحه أن أوزان الزجل هي سريانية الأصل. ولا بد هنا من التمييز بين الزجل الذي يخضع لأصول وقواعد دقيقة في الوزن والقافية، كما هو مع “بلبل البردوني”، وبين الشعر الشعبي الحر الذي لا يتقيد بوزن واحد وقافية واحدة. كما أن هناك الزّجال المحترف المتمكن من فنه والمعروف من خلال حفلاته وإطلالاته المنبرية، فهناك أيضاً زجال الضيعة أو المنطقة التي لا تتعدى شهرته قريته أو بالكاد القرى المجاورة، وهو في غالب الاحيان شخصية محبوبة وموهوبة…
وفي فن الزجل، يقول صدقه، تكمن مسؤولية الشاعر المنبري. المنبر لا يرحم إنه أخطر مكان للتألق والسقوط، إذ لا مجال لاخذ الوقت والتفكير. أما التلعثم والتكرار والتردد فهي علامات قاتلة، لان الجمهور يحاسب لأدنى هفوة. واحترام الوزن والقافية ضرورة أساسية وهذا ليس بالسهل، إذا اراد الشاعر أن يقرن الإبداع بالعمق.
شعراء منطقة زحلة
زحلة اعطت للعالم الشاعر ميشال طراد، رائد القصيدة باللغة اللبنانية، وقد ترسخ معه الشعر كتجربة لغوية وصنيع جمالي. وزحلة التي ترعرع في ظلالها الشاعر البارع إميل مبارك، الذي تفرد بديوان “أغاني الضيعة” وتميز بنبض مبتكر وأسلوب ظريف… لمع فيها الشاعر المبدع جوزف الغصين، وجاء في سياقه متألقاً الشاعر جورج كفوري (شاعر وكاتب مسرحي نال جوائز تقديرية )، كما برز الشاعر الموهوب جورج مسلم، من دون أن ننسى أن زحلة هي التي اعطت أيضاً في هذا الميدان “أمير العتابا” الشاعر يوسف حاتم.
زحلة هذه، التي تدين بالخلق والابداع، تزهو بالإضاءة على الشاعر الياس صدقه “بلبل البردوني”، وهو بين المتفانين إنشاداً ونشاطاً، من أجل الحفاظ على حرارة الشعر المنبري، والعودة به إلى بداياته التأسيسية.
نغتنم المناسبة لنستعيد الشعراء الذين كتبوا أو أنشدوا باللغة العامية، في منطقة زحلة. وقد جاء ذكرهم في الدراسة التي أعدها الأستاذ كامل التوم، بعنوان: “الزجل اللبناني في بداياته ومراحل انطلاقه ثمّ عصر الانبعاث”، وقد نشرها في جريدة “زحلة الفتاة” (العدد الخاص لعام 2007 رقم 5137). لعل ذكر الأسماء كاملة إلى حد بعيد، يفسح في المجال لإيفاء موضوع الشعر اللبناني باللغة العامية في منطقة زحلة، ما يستحقه من متابعة وتعمق.
والشعراء- حسب دراسة التوم – هم: الشاعر يوسف حاتم أمير العتابا، وبرز فيها شعراء زجل من أمثال يوسف فرح (زحلة) 1804-1892 زجلية في التكوين، ورشيد جرجس الصفدي صاحب نشيد زحلة يا دار السلام، نايف ابراهيم شبلي معلوف (زحلة)1858-1890 عتابا، مخول مقوم ليان 1840-؟، أبي فرح المعلوف، يوسف الحاج، بشارة البشاموني، حنا الشلوف، حنا المنيّر(الذوقي)، مخايل نادر، ابراهيم الراعي 1860-1934 (له قرابة 72 بيتاً في جراب الراعي)، سركيس الخوري سركيس 1880- ؟ فظائع الحرب الكبرى في جراب الراعي، وديع نعمة سخط 1914- 1985، ربيع الحب 1936 ، الاغاني البلدية 1937، أبو الزلف 1937، روض الغزل،الحياة القروية، عصفور الغرام، سلطانة السرور(500 بيت) توفيق سليم شمعون 1907- 1990 لبنان الكبير، والشاعر فرحات توفيق شمعون، جوزف شمعون (أبو طنوس) زحلة 1935 وله ديوان لم يزل مخطوطاً، خليل كفوري (قاع الريم) 1945 بتلاقي بالورد زرار 1999، طانوس غزالي 1888- 1985 (اولع بالعتابا واختص بالشروقيات )، فيليب نصرالله 1920-2012 زجليات جزء أول 2005 وجزء ثان 2006، مخايل صليبا (زحلة، معلقة)، موسى زغيب (زحلة) 1941 وصف الحرب، وهو غير موسى زغيب حراجل، الدكتور يوسف فرح المعلوف (معلقة، زحلة)، ابو اسحاق يوسف المعلوف (معلقة، زحلة) 1841 وصف الحرب، يوسف سكاف (زحلة) 1841 وصف الحرب.
وفي نظرة شاملة الى موقع الشعر العامي في منطقة زحلة نكتشف أن عدداً كبيراً من المغمورين، غير هؤلاء الذين ذكرنا، لمعوا وبرعوا في نظم الشعر في محيطهم الضيق، ولا مجال لذكرهم وهذا ما يطمئن إلى أن روح الشعر العامي لا زال ينبض في وجدان الناس، وهو جزء من تراثهم ويجهدون للحفاظ عليه، لانه يتيح لكل إنسان أن يصور ما تعتمر به نفسه من أحاسيس، ولا زال هذا اللون من الشعر، عبر العصور، مرآة تعكس العادات والتقاليد اللبنانية… وفي قصائد هؤلاء، المنشورة، أو المحفوظة في الحناجر، نكتشف بساطة الجمال وروعة معاني الحب والفروسية والشجاعة، وأثر الموت في فقد حبيب، ما يشغل فكر الإنسان وتطلعاته وأفكاره.
إذا كان الشعر بالفصحى يعاني صعوبات جمَّة فان الشعر في العامية لا يزال حيَّا في عقول وقلوب عشاقه.
كلام الصور
1- زحلة مدينة الشعر والشعراء
2- الياس صدقة
3- غلاف الديوان