مأزق الكلمة في ثورات العصر الرقمي

خالد غزال

(كاتب وباحث- لبنان)

يتناول كتاب نديم نجدي «قيامة الفلسفة، مآل الكلمة في العصر الرقمي» (دار الفارابي، بيروت) مسألة العولمة بكل ما أنتجته وآلت إليه، لا سيما في ما يخص ثورة الاتصالات والإنترنت، وتأثيرها في تغيير حياة البشر وقولبة تصرفاتهم ولغتهم وسلوكهم، بين ذاتهم وبين المجتمع. ولعلّ أبرز ما تركته هذه الثورة يبقى متصلاً بضآلة موقع الكلمة، حتى بتنا نعيش صراعاً بادياً بين لغتين، لغة الكتابة التي تعوّد عليها البشر منذ ظهورهم على الأرض، ولغة الأرقام والمعادلات التي تكاد تكتسح الحياة العامة والخاصة.

هذا التناقض يعيشه الجيل الراهن، غير أنه يحلّه على طريقته عبر تجاهل موقع الكلمة، فيما يتمزق الجيل الأقدم مدافعاً عن «الكلمة» كوسيلة وحيدة للتواصل. ينحاز نديم نجدي الى جيله المتمسك بالكلمة، وينطلق هذه المرة من الفلسفة نفسها، التي يرى فيها جواباً عن قلق وجودي يعيشه الجيل الراهن من الشباب. وهو يشدّد على الفلسفة لكونها لا تستطيع أن تعبّر عن نفسها إلا بالكلام.

يتطرق الكاتب الى هذه المواضيع، على امتداد خمسة فصول، فيطرح في الفصل الأول مسألة «المسوغات الذرائعية لديمومة البحث الميتافيزيقي في الفلسفة». وفي الفصل الثاني، يتناول نجدي «التحولات الدراماتيكية في مسار الفلسفة ومصير العلوم»، بينما يشير في الفصل الثالث الى «التواشج العضوي بين مبنى الكلمة ومغزى الفلسفة»، أما الفصل الرابع فتساءل فيه: «هل يتواءم المبتغى الميتافيزيقي للفلسفة مع المرمى البراغماتي للعلوم الوضعية؟»، ويختم بعنوان «جدل العلاقة بين الدراية النظرية والمعرفة الرقمية في عصر التكنولوجيا».

أين يكمن تحدي الفلسفة اليوم؟ في السابق، كان التحدي يطاول مقولات الفلسفة في الوجود والحقيقة ومصير البشر وغيرها من القضايا. كانت الفلسفة إحدى أدوات التغيير، وكانت ميداناً للصخب الفكري. هذا الواقع، ما زال موجوداً لكنه تراجع الى الخلف لمصلحة التغيرات النوعية في التعبير، وعلى الأخص منها اكتساح لغة الأرقام على حساب الكلمات.

أدّى انقلاب التكنولوجيا الى انقلاب في رؤية الإنسان تجاه قضايا المعرفة. كان الأمر يسير بوتيرة بطيئة لمئات سنين خلت، وكانت الميتافيزيقا والمنطق وأسئلة الوجود تجول وتصول في ميدان العلوم الإنسانية. ومن ثم أتت ثورة الاتصالات والثورة المعرفية لتقول بالفم الملآن إن مسائل الفلسفة التقليدية وأسئلتها المشككة في كل شيء قد أصيبت بهزيمة نكراء أمام منتجات العلم غير المحدودة ورسم طريق للحقيقة غير الطريق التقليدي الذي أرادت الفلسفة أن يسود على امتداد آلاف السنين.

يشير الكاتب الى تحولات أصابت الفلسفة نفسها، كانت على صلة عضوية بالميتافيزيقيا، وكان ذلك سبيلها للوصول الى الحقيقة. لا شك في أنها استنفدت طرق الوصول الى هذه الحقيقة على امتداد تاريخها، الذي وصل العجز فيه الى أقصاه في الزمن الراهن. سعى فلاسفة جدد الى استنباط سبل جديدة للوصول الى الحقيقة.

في هذا المجال، تأتي مساهمة كل من الفيلسوفين هوسرل وهايدغر في التأسيس، إذ عمدا الى توجيه الفلسفة في اتجاه الكينونة الذاتي للوعي بالشيء مع هوسرل، والوجود إزاء العالم مع هايدغر. شكلت المحاولات الحديثة وجهة أرادت إنزال السؤال الفلسفي من الفضاء الى الأرض، ومن الوعي الى اللاوعي. في المقابل، واذا كانت الفلسفة قد بدت في الشكل على طرفي نقيض الثورة التكنولوجية والاختراعات العلمية، فإنهما يتلاقيان في الواقع نحو تكوين كل واحد منهما لمعطى وجودي يرى أنه يغطي ما يتطلبه الإنسان من الوصول الى المعرفة، سواء بشقها الميتافيزيقي، أم بشقها الرقمي الفجّ.

لم يتوقف السؤال عما اذا كانت الفلسفة تتواءم مع العلوم الوضعية في عصرنا الراهن، سؤال قديم – جديد ما زال مطروحاً بقوة على الفلسفة والعلوم معاً. وقد أدى تطور العلوم في شكل مذهل الى تزايد صراع الفلسفة مع العلوم الوضعية. هكذا تدخّل العلم في سبر أغوار جزئيات كثيرة في حياة البشر، وهو أمر بمقدار ما كان تحدياً في وجه الفلسفة، استطاع أن يفتح لها مجالاً واسعاً للدراسة والتأمل والابتكار. من قضايا الذرة الى علوم البيولوجيا التي دقت أبواب خلق بشر، الى إزاحة مسلمات في الطبيعة كانت بمثابة ثوابت ميتافيزيقية… وغيرها الكثير من المسائل التي أطلقتها الاختراعات العلمية، كلها ترمي بنفسها تحديات أمام الفلسفة ومدى قدرتها على الانخراط في هذا الواقع الجديد، وبالتالي توليد مفاهيمها الخاصة من قلب هذه الشبكة المعقدة من المسائل والقضايا.

يذهب الكاتب الى اعتبار أن الفلسفات المعاصرة هي خلاصة قناعة بتعذر الإجابة عن الأسئلة الراديكالية التي تطاول الكون والإنسان على السواء. لذا تحولت الفلسفة الى بحث للتخفيف من القلق والخوف عند الإنسان. لم يكن غريباً أن تصبح الذات اليوم محور العملية الفلسفية كلها، ليست الذات الإلهية ولا ذات ذلك الشيء اللاإنساني المتحكم في الإنسان، انما الذات الإنسانية التي احتلت مساحة الفلسفة كلها. بات محور العملية الفلسفية منصباً على ذات إنسانية يتقاطع فيها النفسي مع الاجتماعي، والاقتصادي مع السياسي، بطريقة جعلت من الكلام السياسي نفسه كلاماً فلسفياً، وكذلك كل تفسير سيكولوجي تفسيراً فلسفياً. هكذا أضحى فهم الذات محور العملية الفلسفية برمتها.

يصاب كل متعمق بموقع الفلسفة اليوم بنوع من الإحباط الناجم عن عجز الفلسفة عن الوصول الى التفسير الجوهري للذات. «فلا التأويل قدم إجابات وافية وشافية عنها، لا بل عمق الأزمة أكثر. ولا التفكيك حل العقدة، في دعوته الى الاعتراف بعجز الإنسان عن فهم نفسه. فلا مجال للتفسير طالما نحن خاضعون لتأثيرات عوامل بنيوية – لا إرادية، تجعل من كل محاولة للإمساك بناصية الحقيقة، ضرباً من الوهم»، على ما يقول الكاتب.

لن يتوقف الصراع بين الفلسفة والعلوم، سيتخذ في كل محطة من محطات التطوّر البشري أشكاله المختلفة. فلا الفلسفة تُعلن عن هزيمتها أمام المستجدات، وستظل تجعل من الكلمة أحد أسلحتها الحاسمة، في المقابل لن يولي العلم أي بال للتحفظات الفلسفية أو الأخلاقية في اندفاعته نحو استكشاف عالم المجهولات. إنها معارك قديمة متجددة لن تتوقف طالما للبشرية وجود على الأرض.

 

اترك رد