“برومثيوس” لم يسرق العربية بعد!!! حين تزداد مشانق العربية بالاحتفالات

د. محمد مرشد الكميم

(باحث وأكاديمي- جامعة صنعاء)

تحكي الأساطير وبعض النصوص الدينية وتفسيراتها قصص صراع مختلفة ظاهراً ومتفقة عمقاً، تدور كلها حول إمكانية امتلاك بعض المخلوقات، ومنها الإنسان على وجه الخصوص، للمعرفة؛ فـ”برومثيوس” يسرق نار المعرفة من الإله “زيوس” ويمنحها البشر( )، و”جلجامش” ينزل إلى العالم السفلي، ويخاطر بنفسه؛ من أجل معرفة سر الحياة والبحث عن الخلود، وحين يحصل على عشبته، تُسرق منه في طريق العودة، و”آدم”، في الإسرائيليات، يأكل من شجرة المعرفة التي منعه “الرب” من الاقتراب منها؛ فيعاقب بالطرد من الجنة على فعلته تلك، و”الجن” تُرمى بشهب ثاقبة كلما حاولت اختراق الآفاق واستراق ما تسمعه من معارف السماء، و”بنو إسرائيل” يلاقون بلاءً شديداً؛ لأن إصرارهم على المعرفة جعلهم يلجُّون في الأسئلة، و”موسى” يرى أهوالاً؛ لأنه حاول معرفة حقيقة الله بصورة غير تقليدية، و”موسى”، كذلك، يرغم على مفارقة “الخضر”؛ لأنه ألح على معرفة ما اختبأ وراء ما رآه من أفعال غير منطقية.

وهناك الكثير من الأحداث والحكايات والأساطير والنصوص التي تكشف عن السعي الدؤوب؛ لكسر احتكار السماء وممثليها للمعرفة. وقد نتج عن ذلك السعي انتقال لأحقية احتكار المعرفة من السماء وممثليها إلى ممثلي ممثليها من كهنة المعابد الفرعونية وحاخامات الهياكل اليهودية ورهابنة الكنائس المسيحية وبعض أولياء الزوايا وأئمة بعض الفرق الشيعية الذين تسكب عليهم السماء، وحدهم دون غيرهم، معرفة لَدُنِّية لم يكن لبعضهم سابق اتصال بمسالكها أو محاولة ارتقاء لمعارجها.

لقد أدرك هؤلاء، بوعي منهم أو بغير وعي، امتلاك المعرفة لسلطة رمزية قوية، فسعوا إلى الاستحواذ عليها؛ حتى يستطيعوا بها التحكم في مسارات المجتمعات ومصائرها. وذلك لم يكن له أن يتحقق إلا من خلال فرض الحقائق اليقينية التي يرونها بطرائق شتى تسهل عليهم تسخير هذه المجتمعات لصالحهم. ولتنفيذ ما يرون من حقائق، استحوذوا على المعرفة، وتحالفوا مع السلط السياسية أو تماهوا فيها؛ لكي يقتلوا، في المهد، أي سبل معرفية أخرى تسعى إلى تقديم فهم مغاير للحقيقة، هذا إن لم أقل تقديم حقيقة مغايرة.

إن قتلهم لكل وعي معرفي مغاير لوعيهم، ليس ناتجاً، كما يصورون ويوهمون ويهولون، عن ضلال الوعي المعرفي الجديد وصواب وعيهم هم، بل إنه ناتج عن كون الوعي الجديد أو المغاير يمثل خطراً وجودياً عليهم. ونتيجة لشعورهم بالخطر، وجدنا التاريخ الإنساني يتحدث عن قتلهم، مادياً أو معنوياً، لكمية كبيرة من العلماء والفلاسفة الذين حاولوا، كما فعل “برومثيوس”، سرقة نار المعرفة من قلوب هؤلاء المحتكرين القتلة ومن عقولهم، وإخراجها، بصورة مغايرة، من معابدهم وكنائسهم ومحاريبهم؛ لتصبح في متناول الناس- كل الناس.

لقد انتهى الأمر بالعلماء والفلاسفة الرافضين لاحتكار المعرفة من قبل السحرة والكهنة وحراس الأديان إلى مصير “برومثيوس” الذي رُبط إلى صخرة في جبل وترك هناك تأكل النسور من كبده كل يوم، إلا أن التاريخ أنقذهم، كما أنقذ “هرقلُ” “برومثيوس”، واعترفت لهم البشرية بجميل إنقاذهم للمعرفة من براثن أولئك، كما اعترفت لأسطورته بكسر احتكار الآلهة لها أيضاً. ولعل القارئ على اطلاع كاف بمصائر كل من: سقراط وابن رشد ومارتن لوثر وكوبرنيكوس وجاليلو واسبينوزا وغيرهم؛ فكل من هؤلاء سكنه “برومثيوس”، وكل منهم لاقى، بهذه الصورة أو تلك، المصير نفسه، إلا أن ما أنتجوه لقي قبولاً ولو بعد حين.

لا يعنيني من كل ما تقدم إلا أن أطرح سؤالاً، في هذه الأنشوطة اللغوية، على من تقع أعينهم على كلماتي من الذين يحتفلـون بعذاباتهم أو نعيمهم بالعربية وعلومها وآدابها. وسؤالي المطروح عليهم، وهم المعنيون بالإجابة عنه عملاً لا قولاً، هو:

تُرى هل بمقدوركم أن تحرروا اللغة العربية من سجونها ومن سَجَّانيها؟

وقبل أن تسألوا عن السجون وعن السجانين، سأقول لكم: إن عروبتها سجن، وتراثها سجن، وقواعدها سجن، ومعاجمها سجن، وجماليات أدبها المعهودة سجن، وتلاحمها بالمقدس سجن.

أما عن سجانيها، فهم كل من اشتغل بها وعليها؛ لكي يوقف تطورها ويمنع تحولاتها وصيرورتها. ولن أوجه إِصْبَع الاتهام إلى منظريها ومقعديها ومقدسيها وممارسيها المحتذين نعال الخليل وسيبويه والجرجاني وابن منظور والمتنبي وغيرهم من علماء العربية وأدبائها القدامى فقط، بل سأغرز إصبع الاتهام في أعين معلميها في الكتاتيب والمساجد والمدارس والمعاهد والجامعات، ولن أنسى أن أغرزها بقوة في عينيَّ أيضاً؛ لأنني واحد منهم، وإن كنت، في أحايين كثيرة، أستشعر الكارثة فأتنحى قليلاً عن الركب، إلا أنني ما زلت أسير في الاتجاه الذي يسيرون فيه مرغماً لا مخيراً؛ لأن اتجاهاً آخر لم يلح في الأفق لي، والدليل على ذلك أنني أكتب لكم أنشوطتي اللغوية هذه بلغة قابعة في سجونها التي ذكرت آنفاً.

يحدوني أمل عريض في من سيتحسسون رؤوسهم حين تصافح أعينهم المكتوب هنا؛ فهم المقصودون بالسؤال، وهم المعنيون بالبحث عن إجابة له.

ولكي يتمكن هؤلاء من الخروج من قمقم العربية التليد، لا بد أن يتسلحوا بفهم جديد لها ولعلومها وآدابها، هذا إذا لم أقل يتسلحوا بمفاهيم مغايرة كلياً، تجعلها وتجعلنا معها أحراراً. أما إذا عجزوا، كمن سبقهم، فعليهم ألا يكونوا مثلهم، وليحاولوا أن يكونوا “برومثيوس” وأكثر؛ فمشاعل المعرفة أصبحت في المتناول، وما عليهم إلا حملها وإضاءة الأماكن المعتمة في علوم لغتنا وآدابها؛ ليمهدوا الطريق لمن سيأتي بعدهم؛ فقد يكون الآتون هم صناع التغيير ويكون من سبقهم هم المرهصون به. أما إذا لم ينفذوا ما اقترحناه عليهم من واجب تجاه لغتهم، فلن يجدوا، في مستقبل أيامهم، غير باب غُرس لهم في قلب الصحراء، وقيل لهم، خداعاً، أنهم سيجدون خلف الباب مروج “سويسرا”، ولكنهم لن يجدوا غير الصحراء.

*****

(*)  الملحق الثقافي التابع لصحيفة اليمن اليوم. 28 ديسمبر 2016

اترك رد