حالتان رماديتان ومهمّة حرجة

جورج شامي

(أديب وقاص وروائي- لبنان)

واجهت خلال مسيرتي المهنية حالات رمادية، بعضها إبان العمل وبعضها خارج الرحاب. وكنت في كل مرحلة أترك إما بصمات لا تمحى بسهولة وإما وشماً لا ينسى، وكلها بحدّ ذاتها دليل على موهبة في العطاء المحيي، ودليل على ما كنت أتميز به من يقظة وسعة خاطر وإقدام على المواجهة بالكلمة النفّاذة لا بالسيف المسنون، في ظروف حرجة وصعبة حيناً ومعقدة إلى حدّ الإعجاز حيناً آخر، ولكنها لم تقوَ ولا مرة على النيل مني، وها أنا أستعرض في هذا المؤلَف حالتين رماديتين إستثنائيتين ومهمّة حرجة!

1الحالة الرمادية الأولى:

يوم فاجأني، زميل الدراسة عفيف الصايغ، بأنه اشترى امتياز المجلة النسائية “الحسناء” ذات الصيت الحسن والسمعة العطرة التي كانت تصدرها مؤسسة “النهار” عام 1972، ويعود تاريخ صدورها إلى أوائل القرن العشرين وعرف منشئها الأديب الظريف جرجي باز بأنه نصير المرأة، وظلت محافظة على بريقها حتى إبان إحتجابها، وازدادت بريقاً إبان الفترة التي صدرت فيها مجدداً عن مؤسسة “النهار” في أواخر ستينات القرن الفائت.

كنت يومذاك أشغل منصب رئيس تحرير الوكالة الوطنية للأنباء التي تصدر عن وزارة الإعلام، ونقل إليّ عفيف ذلك المساء أثناء زيارتي له في مكاتب المجلة بأنه حين فكّر بشراء “الحسناء” اعتمد على صداقتنا وزمالتنا التي تراكم على جوهرها غبار كثير، في أن أكون عونه الأكبر وإنني لن أخيّب ظنه،  في ضمان استمرارها على الصدور، خصوصاً وأنه لم يمارس المهنة ولا في مرحلة من سنوات غيابه عن الوطن، وأن الرغبة وحدها هي دافعه، لأن يملك امتياز دورية يستمتع بإصدارها كل أسبوع، وقد نشأت لديه هذه الرغبة بعد أن أدرك أن مهنة المتاعب هي المنبر الصالح الذي يؤهله لأن يلعب في السياسة دوراً قد يوصله إلى النيابة أو الوزارة!

في تلك الليلة دار بيننا حديث طويل شمل ما يقارب الخمس والعشرين سنة من غيابه في البرازيل حيث مارس مهناً عديدة لها علاقة بالتجارة والبيع والشراء وعرف خلالها الربح والخسارة في تجارة الألماس، قبل أن يحزم أمره ويعود إلى لبنان، بعد أن تزوج ورزق بنين وبنات وأنشأ في لبنان كونتواراً لتسليف ذوي الدخل المحدود!

وحين فاجأته، بأنني أشغل مركز رئيس تحرير الوكالة الوطنية للأنباء، ولا أنوي الاستقالة، وفي حال بقائي، في مركزي لا بدّ لي قبل الموافقة على تولّي أية مسؤولية رديفة في “الحسناء” من الحصول على موافقة مدير عام وزارة الإعلام، وفي حال الموافقة لا بدّ لي من أن أوازن بين الحضور والغياب وتوزيع الأوقات وتحمّل المسؤولية التي ستلقى على عاتقي، بادرني بقوله: لست مجبراً على تأمين أي حضور في أثناء النهار، يكفي أن تمرّ في المساء لساعات قليلة، وتلقي نظرة على المواضيع التي تكون جاهزة ومعدّة لتقرر أياً منها هو الصالح للنشر!

وهنا سألت: أليس بين فريق العمل الذي كان يتولى تحرير المجلة وتأمين صدورها من يستطيع الاستمرار في تولّي هذه المسؤولية؟

فردّ بدون أيّ تردّد: أخشى من “السابوتاج” فقد علمت أن بين أفراد الفريق الذي أشرت إليه، من كان يطمح لـ “تمويت” المجلة إلى حدّ ما ووضع اليد عليها عن طريق شرائها بثمن بخس وقد فوجئوا بشرائي لها، وهم اليوم في حيرة من أمرهم وإن كانوا لم يتخلوا عن فكرة الإستيلاء عليها عن طريق إحراجي أنا الدخيل على المهنة… المطلوب منك أن تمسكها من قرنيها، والتصدي لأيّ تلاعب ريثما أفكك مخططاتهم!

وأكمل كلامه: لا مانع عندي من التعاون مع أفراد الفريق، ولا أنوي الغدر بهم، ولكنهم، كما نقل إليّ كثيرون عارفون بأسرارهم يضمرون الشرّ وعلى رأس من يحرّضهم على ذلك رئيس الفريق المسؤول عن تأمين الإعلانات للمجلة وهو من الماكرين!

هنا، قلت لعفيف: أنا أوافق إذا وافق مدير عام وزارة الإعلام شرط ألاّ يتعدى تعاوننا السنة بحيث يكون الأمر خلالها قد استتب لك!

فردّ والابتسامة تعلو وجهه: تكفيني هذه المدّة!

*  *  *

حين نقلت هذه الواقعة إلى مدير وزارة الإعلام رامز خازن، أبدى اعتراضاً، برّره بالقول: هل من المنطقي أن تكون رئيس تحرير الوكالة الوطنية للأنباء، وهي الناطقة الرسمية باسم الدولة، ورئيس تحرير مجلة نسائية؟

قلت له: وأين الضرر في أن يكون بمتناولنا مجلة غير سياسية؟ هل العهد سياسة كله؟ وهل العهد رجال كله!

فصمت وأخذته لحظات من التفكير قطعتها بقولي له: استشر الرئيس … إذا وافق أتدبر أمر الحضور في المساء، وإذا رفض يكون جوابي سلباً ويسقط معه العرض !

وبعد يومين أجابني: اعتمد على الله… استشرت الرئيس فأبدى الموافقة!

وهكذا كان… واستمر تعاوني الصريح خلال هذه الفترة حوالي السنة (حزيران 1973 –  العدد 614 – حتى نيسان 1974 العدد 656) وكانت آخر مقالة كتبتها في الحسناء “صفر من رب الأدب إلى عميد الأدب” بعد وفاة أستاذ الأدب العربي المعروف بطرس البستاني.

كتبت افتتاحيات “الحسناء” موقّعة بإسمي الصريح … وحملت المجلة إسمي كرئيس للتحرير ومدير مسؤول في ما بعد لفترة زمنية محددة.

واليوم بعد مضي ما يقارب الأربعين سنة على هذه الواقعة رأيت نشر هذه الافتتاحيات التي بلغت الإحدى والأربعين، قبل أن تسقط في النسيان، لعل فيها ما ينعش الذاكرة وينعش القلب، وينعش الأدب النسائي ويثبت حرصي الأكيد على دور المرأة الفاعل في عالم يضجّ بالذكورة الضحلة وهي التي كتب عليها أن تحبل وتلد بالأوجاع والآلام!

2- الحالة الرمادية الثانية:

أما الحالة الرمادية الثانية، فكانت حالة سياسية صرفاً مرّت على إيقاع الرصاص والقنابل … والقتل … والتهجير والرعب والحقد والهزائم، وعلى إيقاع البطولة والمقاومة والاستشهاد والصمود!

كان المقدّم عزيز الأحدب قد اقتحم مبنى وزارة الإعلام في محلة الصنائع، وأذاع البلاغ رقم واحد في شبه مسرحية هزلية، وشرّع أبواب الإذاعة وأبواقها لزمر الضابط المنشق أحمد الخطيب، ولجأ رامز خازن مدير عام وزارة الإعلام إلى منزل آمن في الغربية، ريثما يتم نقله إلى عمشيت، وعصيت عليّ الدروب، فبات من الصعب أن أصل إلى محلة الصنائع، أنا المقيم في المنطقة الشرقية، لا بواسطة سيارة مصفحة ولا بواسطة ملاّلة، خوفاً من أنيركا حارقة… فانكفأت إلى منزلي أنتظر الفرج إلى أن تلقيت هاتفاً ينقل إليّ أمراً من الرئيس فرنجية بالالتحاق فوراً بمركز البث الإذاعي في حقل عمشيت ومباشرة الإذاعة من هناك بعد قطع الربط مع محلة الصنائع!

فلبيّت النداء… وما هي ساعات قليلة حتى وصل رامز خازن،  بعد أن تمّ تهريبه من مكان لجوئه في الغربية فأخليت المركز له تحيط به جماعات من الأنصار والأزلام المتعاملين مع الوزارة وتراجعت مستوحداً!

ولم تمض أيام قليلة حتى تلقيت هاتفاً من أحد الأصدقاء يدعوني فيه إلى مقابلة التاجر المتنوّر الأستاذ جورج أبو عضل، مؤسس مجلتيّ “الأسبوع العربي” و “ماغازين” باللغة الفرنسية لأمر يتعلق بمجلة “الأسبوع العربي”!

وقد نقل إليّ الأستاذ أبو عضل وهو الناشط في الحقل السياسي وفي حقول الإعلام، رغبته في أن أتولى، ولو بشكل مؤقت، وخفية، الإشراف على إصدار المجلة بعد أن امتنع أكثر العاملين فيها وجلّهم من سكان المنطقة الغربية عن الحضور إلى المنطقة الشرقية حيث مكاتب المجلة في الحي السرسقي المخملي!

ولما سألته: كيف يتم ذلك؟

أجاب: فريق الغربية يجتمع في الغربية كل أسبوع ويقرّر ويحضّر المواد ويرسلها بواسطة سائق، خبير بالزواريب، إلى منى بشارة رئيسة تحرير مجلة “ماغازين” شقيقة “الأسبوع العربي” التي تصدر بالفرنسية، وهي تؤمّن الربط والاتصال بجميع الزملاء في الشرقية وفي الغربية، وتقدّم لك المواد فتتصرف بها أنت كمسؤول، من وراء الستار، لأن منى لا تتقن اللغة العربية، ولا يمكنها بالتالي، أن تتحكم بما يرسل لها، ويمكنك أنت أن تبقى خارج اللعبة المكشوفة وتنسّق معها!

قلت: أنا رئيس تحرير الوكالة الوطنية للأنباء، وإن كنت في هذه الفترة الحرجة لا أمارس عملي في الوزارة، ولكن إذا عادت الحال إلى طبيعتها أكون مضطراً للعودة إلى ممارسة مسؤولياتي في وزارة الإعلام.

قال موضحاً: الأمور مرهونة بخواتيمها… أعرف ذلك، ولكن يبدو أن الوضع سيطول، ونحن نفكر منذ الآن بتخفيض عدد الصفحات الى اثنتين وثلاثين صفحة، وعليك أن تكتب  الافتتاحية بتوقيع “الأسبوع العربي” ريثما تنجلي الغيمة… فأنا حريص على أن يبقى الرأي بمتناولنا!

سألت: طالما أن مدير التحرير وسكرتير التحرير مقيمان في الغربية وهناك أربعة محررين بالإضافة إلى المصحّح والمخرج والمصوّر لماذا لا تصدر المجلة من الغربية؟

أجابني: أخشى من أن يقعوا تحت تأثير الضغوط التي قد تمارس عليهم، ويضطرون إلى المسايرة فيخرجون عن موضوعيتهم، هناك تضارب في المصالح وتقاطع في المساعي بين التوجه الفلسطيني والتوجه السوري وتوجهات الحركة الوطنية بجميع فئاتها مما ينعكس إحراجاً لنا وعلينا نحن في الشرقية.

وأضاف: عليك في حال موافقتك على شكل هذا التعاون أن تفكرّ منذ الآن بإدخال تعديل أو تبديل على هندسة إسم “الأسبوع العربي” بحيث ينسجم مع التغيير المنشود!

واتخذت مكتباً لي في دار “الأسبوع العربي” في محلة السراسقة وباشرت بممارسة دوري بتحفّظ!

ولكن الحيلة لم تنطلِ على من هم في الغربية خصوصاً حين ظهرت “الأسبوع” بافتتاحية مغايرة لطموحاتهم وتطلعاتهم، ولما كانوا يضمرون وأخذوا يتساءلون ويتحرّون لمعرفة من يكون وراء هذا التبديل، وما هو السرّ؟ وتراكمت الأسئلة على منى بشارة… والتهديدات بالتوقف عن العمل وقطع الطريق على أي تعاون من أي كان ومن أي نوع… وأخذت منى تناور وتتغطى بزملاء من قدامى المحررين المقيمين في الشرقية المعروف عنهم بأنهم يتمتعون بمواهب متواضعة لا تصلح للتعمية ولا تقنع بصلاحها لمثل هذه المهمة!

ومرّ أكثر من ثلاثة أسابيع حتى أدركوا أن من يتولى الأمر صحافي عتيق… مجرب ولكن لم يدر في خلد أحد منهم أن أكون أنا بالذات!

وبعد مضي حوالي الشهر على هذه البلبلة … أدرك جورج أبو عضل بما يتمتع به من حسّ مسؤول أن لا بدّ من رفع الستارة والكشف عن وجهي فدعا العاملين في “الأسبوع العربي” و “الماغازين” من في الغربية ومن في الشرقية إلى اجتماع تعارف في شتورا تعقبه رحلة إلى دمشق لمقابلة المسؤولين فيها  وتحديد موقف المجلة من دخول قوات الردع العربية وخصوصاً السورية إلى لبنان!

وفي شتورا تلاقينا، وكنا على معرفة سابقة وأدرك الجميع ما أن وقع نظرهم عليّ، في عداد العاملين في الشرقية، إنني “السر المخفي” فتبادلنا القبل والتحيات وارتفع صوت العتاب على هذا التضليل الذي عزاه أبو عضل بلباقته المعهودة الى الحرص على عدم إلحاق الأذى بوضعي المهني باعتبار أنني ما زلت رئيس تحرير الوكالة الوطنية للأنباء!

وكانت المفاجأة الثانية في دمشق عندما زرنا وزير الإعلام آنذاك أحمد إسكندر الذي قال للحاضرين: أنا أعرف الأستاذ جورج شامي منذ أن كنت في بيروت أمارس الصحافة في مجلة “الصياد” وكنت أقرأ له بعضاً من قصصه… وهكذا حلّت عليّ نعمة غير منتظرة دفعته في أحد لقاءاتنا الشخصية في ما بعد لأن يستمزجني الرأي  لتعييني نائباً في البرلمان عن منطقة جزين … فاستبعدت الأمر نهائياً.

واستمرت بي الحال على هذا المنوال عدة أشهر، انتهت بخروج أحمد الخطيب وجماعته من الإذاعة وعودة وزارة الإعلام بكامل أجهزتها وكوادرها إلى كنف الدولة، واستأنفت عملي على رأس الوكالة الوطنية للأنباء كالمعتاد ولكن بحذر شديد وتحفظ أشد… وآلت رئاسة تحرير “الأسبوع العربي” إلى زميل آخر.

وقد بلغت الافتتاحيات التي كتبتها في هذه الفترة التي امتدت من (العدد 884 – 9 آب 1976 – 13 شعبان 1396 حتى 18 نيسان 1977 – ربيع الثاني 1397) إحدى وعشرين افتتاحية وثلاث دراسات سياسية تحليلية مطوّلة تناولت فيها واقع الحال الفلسطيني والمؤتمرات التي عقدت، ومندرجات توريط لبنان بحرب استنزاف لوضع اليد عليه كوطن بديل عن طريق تبديل واقعه الديمغرافي وتفكيكه!

هذه المحاولات أقدّمها هنا كنماذج لواقع أدبي وبياني في الكتابة وجماليات النص بما فيها من غنى وتنوّع وتركيز على الهدف خالٍ من الاستطرادات والتطويلات، ومكثّف بمضمون مشبع بأبعاد إنسانية نظيفة المقصد والمرتجى وإنقاذها من أن تسقط وتضيع في لجج النسيان!

3 – مهمّة حرجة: حصاد  الأيام

وقد سبق هذا التعاون مع “الأسبوع العربي” قيامي بمهمّة حرجة رماديّة بدورها فقد صادف في السنة ذاتها، وتحديداً في شهر آذار (مارس)، ذات مساء، أن رنّ الهاتف في منزلي وإذا بي أفاجأ بالزميل أنطوان عواد سكرتير تحرير جريدة “العمل” لسان حال الكتائب، يباغتني بالسؤال: هل أنت مستعد لأن تكتب “حصاد الأيام” … وهو شقيق زوجتي ورفيق دراسة.

فأجبته: وأين جوزف أبو خليل؟ وهل حصل له أي مكروه؟

فردّ: اطمئن إنه منذ أيام غائب، على سفر، والجريدة تصدر بدون “حصاد…”

فسألته: وهل ستطول رحلته هذه؟

فأجاب: ربما قاربت الشهر؟

فسألته: ومن يتحمل المسؤولية في غيابه باستثنائك أنت؟

أجاب: السيدة “ماديس” كبرى بنات الشيخ بيار وهي التي بادرتني الليلة، بأن غياب جوزف سيطول ولا بدّ من أن نجد من يملأ الفراغ ريثما يعود…

قلت: سأحاول… ولكن لي رجاء… لا بدّ من كتمان إسمي، فأنت تعلم علم اليقين … كم أصابتني السهام! وأنا ما زلت رئيس تحرير الوكالة الوطنية للأنباء.

أجاب: سأعلم السيدة ماديس بالأمر…

وبعد ربع ساعة تقريباً عاود الاتصال بي وأبلغني أنها فرحت جداً، حين علمت بأني سأقوم بهذه المهمة منذ الليلة!

واستمرّ غياب جوزف أسبوعين كتبت خلالها ثلاث عشرة مقالة. أختار البعض منها … وهو قليل جداً!

 

اترك رد