خالد غزال
(كاتب وباحث- لبنان)
تقف القوى السياسية اللبنانية أمام استحقاق الانتخابات النيابية هذه المرة من دون عون خارجي. قبل 2009، موعد آخر انتخابات، كانت الوصاية السورية تفرض القانون والنواب بشكل عام. في الانتخابات الأخيرة عام 2009، أجريت تحت رعاية عربية ودولية فرضها اتفاق الدوحة، استناداً إلى القانون الحالي الذي كان مطلباً أساسياً لقوى سياسية تشكل اليوم رأس الحربة ضده. اليوم، لا وجود لأي طرف خارجي يتدخل لترجيح هذا القانون أو ذاك، أو يقوم برعاية العملية الانتخابية، مما يرفع من وتيرة تحدي إنجاز قانون انتخابي «صنع في لبنان»، تجرى على أساسه الانتخابات النيابية.
يدور منذ سنوات نقاش حول وضع قانون جديد بالنظر لأن قانون الستين لا يلبي طموحات اللبنانيين، ولا يؤمن عدالة التمثيل. منذ تشكيل لجنة برئاسة الوزير فؤاد بطرس عام 2005 من خبراء قانونيين ودستوريين، ووضعها مشروع قانون انتخابي عام 2006، تتوالى مشاريع القوانين تباعاً من كل طرف من الأطراف، بحيث يستحيل على أي متابع لهذه القوانين أن يفهم المقصود منها. هناك حتى الآن عشرات المشاريع، اللافت فيها جميعا أنها لا تستعيد مشروع فؤاد بطرس الذي شكل آنذاك محاولة جدية في إنجاز قانون يجمع بين المختلط والنسبي ويضع جملة تشريعات تؤمن حسن سير الانتخابات.
إذا كان الغموض يلف المشاريع المطروحة، إلا أن الواضح في كل منها أنه ينطلق من رغبة واضعيه في تأمين المقاعد النيابية التي يتمتع بها راهناً، مع إمكان زيادة عددها. والمفقود لدى أصحاب المشاريع رؤية المصلحة الوطنية اللبنانية بديلاً من المصالح الفئوية. لعل في هذه النقطة يكمن التعثر في الوصول إلى قانون الانتخاب على رغم زحمة اللجان والاجتماعات في الأسابيع الأخيرة. كيف يمكن الوصول إلى إنجاز قانون بهذه العجالة من الوقت، فيما عجز النواب عن الوصول إلى هذا القانون على امتداد سنوات؟ هذه اللامسؤولية واللاأهلية لدى المجلس النيابي تنذر بعدم إنجاز القانون. من الغريب في هذا المجال، أن رئيس الجمهورية الرافض بشدة للقانون الحالي، هدد بمنع إجراء الانتخابات ولو دخل البلد في فراغ. هذا التصريح من المسؤول في الدولة يفتقر إلى المسؤولية، فكيف يحق له تعطيل المؤسسة الدستورية التشريعية؟ مع الإشارة إلى أن جدالاً قانونياً بدأ يثيره تصريح الرئيس بعدم قانونية أي إجراء يتخذه في هذا المجال.
في العودة إلى جوهر الأسباب الكامنة وراء أزمة قانون الانتخاب، تكمن أزمة النظام السياسي الذي تشكل مع اتفاق الطائف عام 1989، والذي اتخذ وجهة المحاصصة الصريحة، الطائفية والمذهبية، وهي محاصصة اكتسحت كل مفاصل النظام السياسي والدولة، على حساب المشترك الذي تمثله الدولة. هذه المحاصصة الطائفية هي المصدر الأساس لانعدام الاستقرار في البلد، لأنه يستحيل وجود عدالة طائفية ترضي جميع الطوائف. وما يجري اليوم بعد عقدين ونصف على نظام المحاصصة الطائفية إنما يعبر عن وصول التوافق على المحاصصة إلى مأزق سياسي يعبر عن نفسه في وقوف كل طرف عند متراسه، وعدم الاستعداد لقبول أي قانون انتخاب قد يمس مقعداً من حصته.
هل يقف البلد أمام أزمة سياسية بنيوية مستعصية؟ السؤال لا ينبع من مجهول، فالتهدديات بالنزول إلى الشارع من هذا الطرف ستلاقيه أطراف أخرى بذات التوجه. وكما تعود البلد في كل منعطف تختل فيه التوازنات الطائفية، وتعجز القوى السياسية عن إنجاز تسوية تضمن المصالح المشتركة، مما كان يؤدي إلى انفجار أهلي يدفع البلد ثمنه مما يكون حصله من عمران وتحديث. إن ذاكرة اللبنانيين لم تمت على أسباب الحرب الأهلية عام 1958، وعلى الحرب الكبرى في 1975، وعلى أحداث أيار (مايو) 2008، وهي كلها انفجارات كانت تعكس الخلل في التسوية القائمة والسعي إلى تعديلها من دون توافق. وبما أن الطوائف وأقطابها عودت لبنان على عدم استعدادها للتنازل عن شيء من مواقعها للمصلحة العامة، فإن هاجس دفع البلد إلى أتون الحرب الأهلية مجدداً هو هاجس يجب عدم الاستخفاف به.
يتضاءل الوقت وتمضي المهل الدستورية سريعاً، والجدل البيزنطي حول قانون الانتخاب لا يزال قائماً، فهل يمكن أن تسقط الحكمة على رؤوس مجلسنا النيابي، فتجرى الانتخابات وتسير المؤسسة التشريعية بشكل صحيح، أم أن البلد مقبل على الفراغ وعلى السقوط في المجهول؟ الأجوبة برسم الغيب، فالثقة مفقودة بهذه الطبقة السياسية الحاكمة.