غُصُونٌ وارِفَةٌ لِدَوحَةٍ عَريقَة  

مُورِيس وَدِيع النَجَّار

(أديب وروائي  وشاعر وقاص وناقد- لبنان)

 

(قِراءةٌ في كِتابِ “غُصُونٌ وارِفَةٌ”، لِلأَديبِ أنطوان أُبو رَحل)

“غُصُونٌ وارِفَةٌ”، دَوحَةٌ عَريقَةٌ لِلأَديبِ المُكتَنِزِ الدِّيباجَةِ أنطوان أَبو رَحل، وَسِفْرٌ أَنيقُ اللَّبُوسِ، جامِعٌ، ثَرُّ المضامِين، سَهلُ الأُسلُوبِ على طَلاوةٍ، وضِيحُ الدَّلالَةِ، وحَقلٌ مُترَعٌ بالاستِشهاداتِ المَعرِفِيَّةِ الرَّاقِيةِ، العَمِيقَةِ القَرارِ، البَعيدَةِ المَرامِي، قَطَفَها أَدِيبُنا خِلالَ رِحلَتِه الشَّيِّقة الطَّوِيلَةِ مع القَلَمِ والكُتُبِ وَ”عُقُولِ الرِّجال”(1).

في تَناوُلِه جَمهَرَةً عَرِيضَةً مِن المُبدِعِين، “غُصُونِه الوارِفةِ”، يَبرُزُ الحُبُّ فَضاءً لِلصُّورَةِ يُغدِقُهُ المُؤَلِّفُ مِن فَيْضِ قَلبِهِ المُحِبِّ، والثَّقافةُ أَمِيرَةً في صَدرِ الدِّيوانِ. وَجَدَهُم أَدِيبُنا غُصُونًا وارِفَةً، مُثقَلَةً، فَراحَ يَقطِفُ، بِشَغَفٍ، ثِمارَها النَّضِيجَةَ، وإِمَّا وَخَزَتهُ شَوكَةٌ عارِضَةٌ فَإِنَّه يُزِيحُها بِبَنانِهِ الرَّقِيقَةِ، وابتِسامَتِهِ الوَدُود.

وإِنَّ لَهُ فَضلًا كَبِيرًا في إِرواءِ السَّاحَةِ الأَدَبِيَّةِ بِمَوضُوعاتٍ ودِراساتٍ تُكمِلُ المَشهَدِيَّةَ الَّتي اعتَراها بعضُ نُقصانٍ مِن تَنَكُّبِ الكَثِيرِينَ مِن حَمَلَةِ الأَقلامِ عَن وُلُوجِ غيرِ ما هو مَطرُوقٌ مِرارًا، ومَعرُوفٌ لَدَى المَلَأ. وَيَزِيدُ مِنَّةَ كاتِبِنا على عُشَّاقِ الحَرْف تَدَبُّرُهُ أَسماءَ قد تكون مَغمُورَةً ساعَةَ جالَ في حَصائِلِها بِعَقلِهِ النَّفَّاذِ، ولكِنَّها، يَقِينًا، لَبِنٌ في عِمَارَةِ الإِبداعِ تَشُدُّ أَساساتِها، وتَعمِدُ مَدامِيكَها، وتُزَيِّنُ هَيكَلَها والشُّرُفات.

ولقد أَضافَ، صاحِبُنا، إِلى غِنَى المَعرِفَةِ ورَشاقَةِ البَيانِ، في كِتابِهِ البَاهِرِ، حَصادًا وافِرًا مِن الصُّوَرِ كَسَرَ رَتابَةَ الكِتابَةِ المُتَراصَّةِ ولَزَزِ الحُرُوفِ، وحَبَسَ أَزمِنةً وَلَّت، وأَعادَ أَرَجًا كان يَومًا مِلءَ المَدَى، فَتَرَكَ لنا مِن ذُؤَاباتِ الماضِي الدَّوافِئِ حَواشِيَ لِلسُّطُورِ والصَّفحاتِ، ولَوَّنَ طَرِيقَ القارِئِ بِلَحَظاتِ نَاسٍ مَلَأُوا أَزمِنةً غَبَرَت شَمِيمًا، ورَنِيمًا، وطِيبَ هُنَيهات…

ولَن نَغُضَّ الطَّرفَ عَمَّا أَسدَى إِلى الإِبداعِ بِأَيادِيهِ البِيض. فَلَرُبَّ كَلِمَةٍ، قالها تَنوِيهًا بِعَمَلٍ أَو بِكاتِبٍ، استَحَثَّت هِمَّةً، وَقُل هِمَمًا، إِلى مُنادَمَةِ اليَراعِ، والعَينُ في حُلمٍ، فكانَت حَصِيلَتُها عَطاءً ضافِيًا آخَر.

***

أَلنَّقدُ فَنٌّ، وإبداعٌ، وضَرُورَةٌ لِتَصويبِ سَيرِ النِّتاجِ الفِكرِيِّ والأَدَبِيِّ، وتَطهِيرِه مِن المُتَطَفِّلِينَ، وإِرشادِ مَواكِبِ الَّذين تَشَوَّفُوا إِلى القِبلَةِ السِّحرِيَّةِ وشَدُّوا الرِّحال.

وهو، كَي يكونَ حَقِيقًا بصِفَتِهِ، وفِيًّا لِمُرادِهِ، عليه أَن يُنصِفَ، ويَعمُقَ، ويَتَصَفَّى مِن شَوائِبِ الذَّاتِيَّةِ، ويَتَرَفَّعَ عن الأَغراضِ والأَهواءِ، وإِلَّا سَرَبَ في التَّجَنِّي والتَّجرِيحِ، أَو تَمادَى في التَّقرِيظِ الأَجوَفِ الواهِي، وتَمَرَّغَ في المُداهَنَةِ العَوجاء.

والنَّقدُ، إِذا انحَرَفَ، سَيفٌ ذُو حَدَّين؛ قد يُؤذِي النَّاقِدَ في مِصداقِيَّتِهِ ورَصانَتِهِ، كما قَد يَجُورُ على مُبدِعٍ واعِدٍ وبَدْعٍ مَوعُود.

أَمَّا ما يُكَدِّرُ صَفاءاتِنا مع الكُتُبِ، وهَناءاتِنا مع الكُتَّاب، فهو هذا الطُّوفانُ مِن النَّظَرِيَّاتِ النَّقدِيَّةِ المُستَورَدَةِ إِلينا مِن خارِجٍ، والَّتي غاصَ مُستَورِدُوها في عُبَابِها فَضاعُوا مع أَلقابِهِم الأَكادِيمِيَّةِ الطَّنَّانَةِ الرَّنَّانَةِ وضَيَّعُونا، وفَرَضُوا على الخَلْقِ الأَدَبِيِّ شُرُوطًا ومَقاييسَ ومَوازِينَ، مُتَناسِين أَنَّ عَمالِقَةَ الأَدَبِ والشِّعرِ، مَن طَبَعُوا عُصُرَهُم بِبَصَماتِهِم المُضِيئَةِ، وخَلَّدُوا في الضَّمائِرِ المُتَعاقِبةِ، لم يَعرِفُوا دِراساتٍ جامِعِيَّةً، ولا تَنَطَّقُوا بِمَدارِسَ نَقدِيَّةٍ ونَظَرِيَّات. فَأَينَ شكسبِير مِن المُكتَسَبِ الأَكادِيمِيِّ، وأَينَ جُبران خَلِيل جُبران مِن الشَّهاداتِ المُكَدَّسَةِ، وأَينَ المُتَنَبِّي مِن دِراسَةِ فِقْهِ اللُّغَةِ، وأَينَ سَعِيد عَقل مِن أَلقابِ “الدَّكْتَرَةِ”، وأَين تُولستُوي مِن إِخوانِهِ “الشَّكلانِيِّينَ الرُّوس”، وأَينَ مِيخَائِيل نُعَيمَة مِن “التَّفكِيكِيَّة” و”البِنيَوِيَّة” و”الحُروفِيَّة” وكُلِّ أَفرادِ هذه العائِلاتِ المُتَجَهِّمَة؟!

أَلنَّقدُ المُنصِفُ المَعمُودُ بِعِمَادِ العِلمِ، والمُكْنَةِ الأَدَبِيَّةِ، والذَّوقِ الثَّاقِبِ، يا حَمَلَةَ الأَقلامِ، هو الباقِي، أَمَّا الآخَرُ فَذَرٌّ في رِيحٍ، فَتَبَصَّروا…

***

بَعدَ أَن ضَيَّعَنا الكَثِيرُونَ في مَتاهاتِ المَناهِجِ النَّقدِيَّةِ الغَربِيَّةِ الحَدِيثَةِ، حِينَ كانُوا، هُم، قَبلَنا مِن الضَّائِعِينَ فِيها، ولكِنَّهُم تَنَكَّبُوها إِيهامًا، أَحيانًا، بِثَقافَةٍ عَرِيضَةٍ يَملِكُونَها، بَعدَ هذا بِتنا نَتُوقُ إِلى نَقدٍ انطِباعِيٍّ مَبنِيٍّ على اطِّلاعٍ وافٍ، وذائِقَةٍ مُرهَفَةٍ، وعَقلٍ مُقسِطٍ، كما كان يُتحِفُنا، تَمثِيلًا، الأَدِيبُ مارُون عَبُّود.

أَنطوان أَبو رَحْل ناقِدٌ مِمَّن نَنشُدُ، يَتَوَكَّأُ، في تَقوِيمِهِ النُّصُوصَ، وإِبداءِ الرَّأيِ، على خِبرَةٍ طَويلَةٍ مع القَلَمِ، وأُلفَةٍ وَطِيدَةٍ مع الكُتُبِ، ما جَعَلَهُ يَطرَحُ الرُّؤيَةَ الحَصِيفَةَ، والقَولَ الفَصلَ، في غالِبِ حالاتِه.

والنَّقدُ، عندَهُ، لا يُشَكِّلُ دِراسَةً تَفصِيلِيَّةً شامِلَةً لِلعَمَلِ المَطرُوقِ، كِتابًا أَو مُجمَلَ نِتاجٍ لِعَلَمٍ ما، بل هو طَوَافٌ أُفُقِيٌّ لا يَفتَقِرُ إِلى الدِّقَّةِ، ويُشِيرُ إِلى المَواقِعِ البارِزَةِ في المَوضُوعَةِ المَعنِيَّةِ، ولا يَتَوَقَّفُ عند التَّفاصِيلِ الدَّقِيقَةِ، لأَنَّه مادَّةُ مَقالَةٍ مَحدُودَةِ الاتِّساعِ، مَحكُومَةٍ بِطاقَةِ صَحِيفَةٍ على الاستِيعابِ، ولَيسَت نَسِيجًا كامِلًا لِكِتابٍ مُتَخَصِّص. أَمَّا هذا، فَلَم يَضِرهُ فَتِيلًا، لأَنَّهُ استَطاعَ أَن يَقطِفَ مِن كُلِّ شَجَرِ الحَقلِ نَزْرًا مِن ثِمارِهِ النَّضِيجَةِ، وأَن يَجُولَ في المَرجِ على أَزاهِيرِهِ الضَّواحِكِ، فَإِذا السِّلالُ مُترَعَةٌ، والشَّذا فَوَّاح.

على أَنَّهُ لا يُدَبِّجُ كَلِماتٍ فَضفاضَةً على مَضمُونِها، أَو يَرتاحُ في استِعراضِ مُكْنَةٍ لُغَوِيَّةٍ في إِنشاءٍ زَاهِي الأَردِيَةِ، مَهزُولِ القِوامِ، فَكُلُّ قَولَةٍ لها قِبلَةٌ وغَرَضٌ، وأَمَّا بَلاغُها فَفِي هَودَجٍ لَيِّنِ الحَشايَا، رَخِيِّ المُتَّكَأ، على مَطِيَّةٍ تَنسابُ مع الرِّيح كأَنَّها مِن تَمَوُّجِها في الهُبُوب…

وتَبرُزُ مَقدِرَةُ صَدِيقِنا في اختِصارِ كاتِبٍ في مَقالَةٍ مَحدُودَةٍ مِن دُونِ أَن يَنتَقِصَ مِن صُورَتِهِ، أَو يُقَزِّمَ عَطاءاتِهِ، أَو يَتَغافَلَ عن مَكامِنِ ضَوءٍ في مَسِيرَتِه. وهذا التَّكثِيفُ لِأَديبٍ عَرِيضِ النِّتاجِ لا يُتقِنُهُ إِلَّا مَن سَرَت في نَجِيعِهِم رُوحُ الكلِمَةِ، واستَقَرَّ في مِدادِهِم غَمْرٌ مِن ذاكِرَة الكُتُب.

ولَن يَسهُوَ القارِئُ المُتَبَصِّرُ عن غِنى أَدِيبِنا الوافِرِ في التَّعبِيرِ عن آرائِهِ مِن دُونِ أَن يَسقُطَ في التَّكرارِ، أَو استِعادَةِ الأَفكارِ ومَدارِجِ التَّعبِيرِ، عِلمًا أَنَّه تَناوَلَ المِئاتِ مِن الكُتَّابِ نَقدًا وتَشرِيحًا وجَلْوًا لِمَكامِنِ نِتاجِهِم. فَفِي سُهُولِهِ الفِيْحِ النَّواضِرِ تَمُرُّ بِحُقُولِ القَمحِ المُتَوَهِّجِ، لِتَصِلَ إِلَى رِياضٍ غِيْنٍ مُثقَلَةٍ بِكُلِّ أَلوانِ الثِّمارِ، ولا تَفُوتُكَ بَعدَها سُهُوبٌ مَنشُورَةٌ مَدَى العَينِ فيها العُشبُ، وفِيها الزَّهرُ، وفيها الغُدْران. تَنَوُّعُ هذا الأَدِيبِ بَينَ جَمالِيَّةٍ ضافِيَةٍ، وأُسلُوبٍ أَدَبِيٍّ رَاقٍ، ومُعجَمٍ سَهلٍ يُلامِسُ القَلبَ، ونَثرٍ لا تَنقُصُهُ الغِنائِيَّةُ، ولا الصُّوَرُ الزَّواهِي، ولا الثَّقافَةُ العَمِيقَةُ، هذا التَّنَوُّعُ هو مِن أَماراتِ تَمَيُّزِه وتَفَرُّدِه وأَلَقِه.

يَقُولُ غُوستَاف فلُوبِير (Gustave Flaubert, 1821 – 1880): “قِيمَةُ النَّصِّ الأَدَبِيِّ هي في ذاتِه: أُسلُوبُهُ، بَراعَتُهُ ومُعالَجَتُه”. ولا أَرَى “أَبَا رَحْلٍ” إِلَّا في هذا الإِطارِ، أَمِينًا على مُقوِّماتِهِ، جَدِيرًا بِادِّعاءِ أُبُوَّتِه.

ثُمَّ قَد يَكُونُ المِحَكُّ الرَّئِيسُ لِجَمالِ نَصٍّ – والجَمالُ، في قِسْطٍ مِنهُ، نِسبِيٌّ – هو مَقدِرَتُهُ على إِثارَةِ اللَّذَّةِ في النَّفسِ، وتَحرِيكِ المُخَيِّلَةِ، ونَقلِ القارِئِ إِلى حَالَةٍ هو بَعِيدٌ عنها، أَو هي مُتَوارِيَةٌ وَراءَ انشِغالِهِ بِشُجُونِهِ الخاصَّةِ، ولكِنَّها تَطفِرُ إِلى السَّطحِ مِن قَرارَتِها المَحجُوبَة إمَّا لَسَعَها لَهَبُ الإِبداع. وصَدِيقُنا تَوَافَرَت لَهُ هذه النَّعْماءُ، فَكانَ الخَلِيقَ بِنَشرِ صَفائِها وفَرَحِها في كِتاباتِهِ الوَفِيرَة.

ثُمَّ لَكَأَنِّي بِهِ التَزَمَ رِسالَةً – وإِن لَم تَضُمَّ جَعبَتُهُ دِراساتٍ أَكادِيمِيَّةً عَرِيضَةً – عِمَادُها الذَّائِقَةُ والانطِباعُ، ما جَعَلَهُ يَسِيرُ على حافَّةِ حَقلٍ مُمْرِعٍ يُلاصِقُ هاوِيَةً مُرِيعَة. فَلِلهَوى الشَّخصِيِّ مَخاطِرُ في الحُكمِ، لا يَنجُو مِنها إِلَّا المُتَمَرِّسُونَ، المُكتَنِزُونَ ثَقافَةً عالِيَةً، واحتِكاكًا وافِيًا بِالسَّاحِ الأَدَبِيَّةِ، وهو أَثبَتَ أَنَّه في طَلِيعَتِهِم. وأَدِيبُنا يُكثِرُ مِن استِشهاداتِهِ الَّتي تَأتِي في زَمانِها ومَكانِها المُؤاتِيَينِ، ما يَشِي بِعُدَّتِهِ المَكِينَةِ، وثِقَتِهِ بِطُرُوحاتِهِ المَدرُوسَةِ، واطِّلاعِهِ المُعَمَّقِ على التُّراثِ الشَّرقِيِّ والعالَمِيّ. ثُمَّ أَلَيسَ “المِزَاجُ النَّقدِيُّ حَصِيلَةَ تَجرِبَةٍ ذَوقِيَّةٍ ثَرِيَّةٍ عَمِيقَةٍ وواسِعَةٍ تَشتَغِلُ على تَربِيَةِ الذَّوقِ وتَدرِيبِهِ وتَمرِينِهِ وتَهذِيبِه”(2)؟

وصاحِبُنا، في مُراجعاتِهِ، مُنصِفٌ، لا يُساوِمُ، فَلِلجمالِ والبَدْعِ قُدسِيَّةٌ في عُرْفِهِ، وإِن كان مَيَّالًا إِلى إِظهارِ جَمالاتِ العَمَلِ الَّذي يَتَناوَلُهُ، وهذا، لَعَمرِي، مِن سِماتِ النَّقَدَةِ الكِبارِ، الخالِصِي السَّرِيرَةِ، المُمتَلِئِينَ حُبًّا، ونُبْلًا، وشَفافِيَّةً؛ مَن يَرَونَ في السَّحابَةِ السَّوداءِ مَطَرًا مُنعِشًا مُحيِيًا، لا عاصِفَةً ماحِقَة…

جَمِيلٌ هذا الكِتابُ، مُحِيطٌ ومُفِيد. نَضَعُهُ، بِعِنايَةِ المُعجَبِ المُحِبِّ، في رَفِّ الصَّدارَةِ مِن مَكتَبَتِنا، بَينَ الكُتُبِ الَّتي يَطِيبُ الرُّجُوعُ إِلَيها كُلَّما لَجَّ في النَّفسِ عَطَشٌ إِلى الكَلِمَةِ الصَّافِيَةِ، والجَرْسِ النَّقِيّ. وهو سِجِلٌّ ضَمَّ في حَنانِهِ نُبُذَاتٍ عن كَوكَبَةٍ مِن أُدَباءٍ مَرُّوا فَإِذا العَبِيرُ في أَذيالِهِم يَلُفُّ الدُّرُوبَ، ويُعَطِّرُ الدَّاراتِ، وذلك في أُسلُوبٍ رَقِيقٍ شَفِيفٍ، بَعِيدِ القَرارِ، حَمَّالٍ لِلمَعانِي الفَسِيحَةِ، والدَّلالاتِ الرَّامِزَةِ إِلى الكَثِير. إنَّه عُنقُودٌ ذَهَّبَتهُ الشَّمسُ، فيه، إِلى طَلاوَتِهِ وجَمالِهِ وإِغوائِهِ، عَسَلُ الطَّعمِ، وخُمَارُ اللَّذَّةِ، والخَيرُ العَمِيم.

يُكابِدُ هذا الأَدِيبُ الفَذُّ “حَمْلًا، ومَخاضًا، ووِلادَةً، وخَلقًا”(3)، ولكِنَّ الحَصائِلَ وِلْدَةُ حُسنٍ لِقارِئِيه. كَلِماتُهُ فِيها الأَقاحُ الشَّذِيُّ، والثَّمَرُ النَّضِيجُ، والخَمرَةُ طالَ سُباتُها في الدِّنان. أَتَمَثَّلُ، مِن مُرُوجِهِ الزَّاهِرَةِ، بهذه القَمْراءِ العَطِرَةِ، شَكَّها في عُرْوَةِ الأَدِيبِ سَلِيم باسِيلا: “مَعَهُ تَعرِفُ كَيفَ تَتَذَوَّقُ نَكهَةَ اللُّعْبِ الجَمالِيِّ فتُعايِشُ قَلَمَهُ وتَغْنَى وتَلَذُّ، وإِذا أُسلُوبُهُ يَنسَدِلُ مِنهُ القَمحُ ويَنسابُ الحَرِير. أَو قُلْ قَلَمُهُ نُزهَةٌ في حَدِيقَةٍ حَطَّت فِيها رِحالُ عَطَّارِي الحُرُوفِ كُحْلًا وحِنَّةً عَرَبيَّينِ، وأَناقَةً وعِطرًا باريسِيَّينِ، ورَسَت فِيها المَراكِبُ أَقلامًا وحُرُوفًا…” (ص 279).

وقَد يَجمَعُ المُتَناقِضاتِ والأَضدادِ في سَبِيكَةٍ واحِدَةٍ تُؤَدِّي أَغراضًا شَتَّى. فهو يَقُولُ “مُحِبِّي مَرَضِ العَافِيَةِ الأَدَبِيَّة” (ص 93). فَبِاللهِ عليه، هل كانَ لَهُ أَن يَوَافِقَ، في مِيزانِهِ، الحُبَّ مع المَرَضِ، والمَرَضَ مع العافِيَةِ، لَولا مَقدِرَةٌ بَيِّنَةٌ تُرَافِقُ قَلَمَهُ، وبَلاغَةٌ ضَافِيَةٌ تَمَرَّسَ بِها طَوِيلًا؟!

أَثَابَهُ اللهُ وَفرَةَ عَطاءٍ على سِفْرِهِ الباهِرِ، ورَصَّعَ الأَدَبُ اسمَهُ بِالذَّهَبِ فهو مِن أَبنائِهِ المُخلِصِين…

يا صَدِيقَنا، ومَيامِنُكَ على الصَّحائِفِ زُهْرٌ، وِضاء…

ويا خَدِينَ القَلَمِ، لكَ عَلَيهِ مِنَنٌ سَخِيَّات…

تَيَقَّنتُكَ، عَبرَ دِراساتِكَ الثَّرَّةِ، حُرًّا مِن أَيِّ إِحراجٍ، طَلِيقًا في طُرُوحاتِكَ، كطائِرٍ في جَلَدٍ صَافٍ لا تَعُوقُ طَيَرانَهُ إِلَّا بَعضُ نُسَيماتٍ عَلِيلات…

عَرَفتَ غَرَضَكَ، وتَوَجَّهتَ إِلى قِبلَتِكَ مِن دُونِ تَلَكُّؤٍ ولا مُوارَبَةٍ، فَبَرَعتَ في تَركِيزِ فِكرِكَ، وتَكثِيفِ مَقُولِكَ، ما يَكشِف عن مُحَنَّكٍ في القَلَمِ، خَبِيرٍ بِشُؤونِهِ وشُجُونِه.

أَدامَ اللهُ مِدادَكَ وافِرًا لِيَبقَى لنا الخَضَرُ والخَضَلُ والازهِرار!

****

(1): “فَتَّشتُ فَلَم أَجِد أَلَذَّ مِنَ النَّظَرِ في عُقُولِ الرِّجال”.  (قَولٌ للخَلِيفَةِ عُمَر بِن عَبدِ العَزِيز)

(2): النَّاقِد الدّكتُور محَمَّد صابِر عُبَيد، مجلَّة “العربي”، العدد670، ص 75.

(3): قالَ الأَدِيبُ خَلِيل تَقِيِّ الدِّين: “أَلَيسَ الأَدَبُ حَمْلًا، ومَخاضًا، ووِلادَةً، وخَلْقًا؟!”

اترك رد