خالد غزال
(كاتب وباحث- لبنان)
في ظل انحسار الحديث عن العروبة بوصفها هوية جامعة للشعوب العربية وانزياحها لمصلحة الهويات الفئوية والجهوية، التي تصاعدت في العقود الأخيرة بعد انهيار المشروع النهضوي العربي، يحاول فؤاد خليل أن يعيد الاعتبار لمسألة العروبة بوصفها وحدها الضامن للخروج من المآزق العربية وهيمنة الطوائف والمذاهب والعرقيات، التي تؤدي سيطرتها إلى حروب أهلية مندلعة راهناً في أكثر من قطر عربي.
في كتابه «العروبة ركاز الأمة، في ثنائية العروبة والإسلام»، (الصادر عن دار الآداب في بيروت)، في فصول تناولت «ثنائية العروبة والإسلام: جديد يهزمه سلطان التقليد»، والثنائية تصير بداهة، التعريب يكسرها»، «والإسلام خصوصية عربية»، ثم «العروبة ركاز الأمة»، يشير خليل إلى مشهد يحكم العالم العربي اليوم، يتمحور على ركائز ثلاث، الأولى عودة الاستعمار إلى المنطقة بشكليه العسكري المباشر والكولونيالي، فيسعى إلى إعادة تكوين خريطة الشرق الأوسط، بما يناسب نهب ثروات المنطقة وتأمين حماية العدو الإسرائيلي. والركيزة الثانية التي تحكم العالم العربي منذ عقود تعود لبداية تكونه، وهي الاستبداد العربي، الذي يشكل العنصر الأساس في تخلف المجتمعات العربية وشعوبها، والمسؤول عن انبعاث حركات التطرف والإرهاب. أما الركيزة الثالثة فهي الاستبداد الديني الذي يؤدي مباشرة إلى تدمير الدولة والمجتمع، استبداد يبرهن عن نفسه كل يوم في الحروب الأهلية الدائرة في أكثر من قطر عربي، وفي «الإبداعات» التي تتفنن التنظيمات المتطرفة في إظهارها لجهة حجم الإرهاب والوحشية في الإعدامات وسائر ممارساتها في المجتمع.
تتقاطع هذه العوامل الثلاثة في إبراز صورة للمجتمعات العربية عنوانها «التوحش» بكل معنى الكلمة، وهو توحش ناجم عن تحلل البنى الاجتماعية، إلى مكونات ما قبل الدولة من طوائف ومذاهب وعصبيات واثنيات، أطاحت، وتطيح بالقليل من الحداثة الذي راكمته الدول العربية، بتفاوت، لمصلحة التمزق الداخلي وتدمير المجتمعات بكل مكوناتها.
وسط هذا المشهد المرعب، تفتقد الشعوب العربية مكوّن العروبة الجامعة البعيدة من الفئوية والجهوية، بل تشكل الجامع والهوية الضامنة لتطور مجتمعاتنا. لكن هذه العروبة مشروطة بأن تكون ديموقراطية، فلا تتحول إلى عنصر استبدادي كما شهدنا في عقود سابقة، عندما تحولت العروبة من خلال الدعوة إلى الوحدة العربية وما جرى تنفيذه من الوحدات، إلى عنصر قهر لمواطني هذا القطر أو ذاك، أو تصبح سلاحاً قهرياً يبغي هذا النظام أو ذاك إلحاق بلد آخر ببلاده.
ولا يستقيم الحديث عن تلازم الديموقراطية مع العروبة إذا ما جرى ربطها بمكون ديني، الذي هو بطبيعته عامل فئوي وجهوي، خصوصاً أن الهوية الدينية تلغي بطبيعتها الهويات الأخرى، ولا تقبل بالمساواة بين المواطنين. في مواجهة ربط العروبة بالإسلام، وقف مفكرون ضد هذا الربط. فعبد الرحمن الكواكبي ، في كتابه «أم القرى وطبائع الاستبداد»، يعيد أسباب التخلف إلى الاستبداد ونكران حقوق الإنسان والعجز عن التمييز بين الجوهري والعرضي في الدين. لذا طالب بإصلاح الشرع. لكن الكواكبي وغيره من المفكرين المسلمين الإصلاحيين لم يخرجوا من ثنائية التوفيق بين القومية العربية والإسلام، وهو منطق يمكن تفهم أسبابه بحدود ودرجة التطور الاجتماعي والسياسي والفكري الذي كان يشكل قاعدة انطلاق وممارسة مثل هؤلاء المصلحين، خصوصاً أن فكرة القومية العربية كانت مرتكز الدعوة للتحرر من الاستعمار وقاعدة الدعوة إلى الاستقلال.
على رغم ادعاءات الحركة القومية العربية المتمثلة بحزب البعث العربي الاشتراكي، قبل أن يصبح أحزاباً، وقبل أن يتحول إلى أنظمة مارست أبشع أنواع الاستبداد وكانت عاملاً هداماً للمجتمعات العربية، فإن مؤسس الحزب ميشال عفلق سعى في مراحل لاحقة من تطور الحزب إلى ربط الإسلام بالقومية العربية. رأى عفلق أن الأمة العربية «أفصحت عن نفسها وعن شعورها بالحياة، إفصاحاً متعدداً ومتنوعاً في تشريع حمورابي، وشعر الجاهلية، ودين محمد، وثقافة عصر المأمون» على ما يقول عفلق في كتابه «في سبيل البعث». تساءل كثيرون عن تحولات عفلق من «علمانية» البعث مع بداية تكونه إلى الأسلمة التي طبعت كتابات عفلق لاحقاً، ورأوا فيها مسلكاً انتهازياً شعبوياً، خصوصاً بعد أن برزت المفارقة بين الدعوات النظرية لفكر «البعث» ذات المضمون العروبي الوحدوي، وبين الاستبداد الذي تجلى في ممارسته الحكم والاضطهاد بحق الشعوب في البلاد التي حكمها، في العراق وسورية.
في الفصل الذي خصصه الكاتب بعنوان «الإسلام خصوصية عربية»، يستعيد الكاتب طروحات المفكر المصري محمد عمارة الذي انتقل من التزام العلمانية إلى تبني طروحات إسلامية، مضفياً عليها طابعاً عقلانياً وساعياً إلى تبرئتها مما لحق بها من تشوهات، على يد المؤسسات الدينية والتيارات السلفية. يرى عمارة أن الإسلام هو في حقيقته مجموعة إسلامات: الإسلام الدين أو إسلام العقيدة، وإسلام الحضارة أو الحضارة الإسلامية، وإسلام التاريخ، والإسلام المعاصر. انطلاقاً من هذا التصنيف، يرى عمارة أن الإسلام كدين عالمي ليس خصوصية عربية، وإنما هو وضع إلهي لا صلة له بالقومية كمفهوم سياسي أو سوسيولوجي، لكن الإسلام لا يعادي القومية، ويعترف أنه على رغم التمايزات بين الاثنين فهناك روابط مشتركة، موضوعياً، بين العروبة والإسلام. بقي موقف عمارة محكوماً بتناقضات بين الكلام النظري وبين التبشير الذي كان يدعو إليه، بعد تحوله إلى «الإسلامية»، حين أعاد التأكيد على كون الإسلام خصوصية عربية على رغم عالميته، فتحولت عنده رابطة الإسلام إلى بديل لرابطة العروبة.
العروبة القائمة على قاعدة الديموقراطية وليس على قاعدة الإلحاق والقهر، كانت وستظل العنصر الجامع للشعوب العربية ولهويتها الوطنية. هذه العروبة هي التي تضمن التعدد والتنوع والاعتراف بالآخر، وهي التي تضمن حرية الأديان وممارسة شعائرها، إسلامية كانت أو غير إسلامية. من دون هذه العروبة، ستبقى المجتمعات العربية تتخبط بين حروب أهلية، وبين أنظمة استبدادية تشكل العامل الأساس في إعادة إنتاج الاحتراب الداخلي وتدمير المجتمع.