هل يغير التحول في السياسة الاقتصادية الأميركية  اندفاعة العولمة وواقع هذه المنطقة؟

د. هشام حمدان

(سفير لبنان في المكسيك)

 تابع المجتمع الدولي باهتمام كبير التحول الكبير الذي تشهده الولايات المتحدة بعد انتخاب الرئيس دونالد ترامب ومباشرته مهامه. وكان ملاحظا ان الرئيس ترامب وقع سريعا بعد مباشرته مهامه، على قرار انسحاب الولايات المتحدة من اتفاقية التجارة الحرة عبر الباسفيك. هذا الاتفاق الذي بعث شعورا دوليا كبيرا في حينه بتصميم الولايات المتحدة على المضي قدما في مسيرة العولمة ورسم صورة لتحالفات اقتصادية تؤكد نيتها الاستمرار على رأس النظام الاقتصادي الدولي الجديد وعلى ابقاء الدولار الركيزة الاساسية للنظام المالي فيه.

هذا الموقف الاميركي يحمل مؤشرات في غاية الأهمية ويفترض ان يقودنا الى قراءة دقيقة للتطورات خاصة اذا اضفنا اليه التدبير الذي اعلنه الرئيس بعده لجهة اعادة النظر في اتفاقية نافتا بين الولايات المتحدة والمكسيك وكندا. فمهما توزعت الاهتمامات السياسية للدول الاعضاء في المجتمع الدولي فان المصالح الاقتصادية تبقى هي الاساس. سقط الانقسام الايديولوجي وبرزت العولمة جامحة ولكن مؤطرة في نظام اقتصادي ليبرالي. ولذلك فان اي تحرك في السياسة الاقتصادية الدولية لأي دولة وخاصة الولايات المتحدة، يؤشر الى بعد سياسي وحتى أمني.

 علينا الآن ان ننظر كيف ستكون مقاربة الرئيس ترامب للمجموعة 20. اذ من الواضح ان هذين الاجرائين اللذين اتخذهما اخيرا سيؤثر على التعاون القائم بين واشنطن ومجموعة ميكتا فيها (المكسيك، اندونيسيا، كوريا، تركيا واوستراليا) اضافة ايضا الى تعاونه مع المجموعة 7 الحليفة التقليدية للولايات المتحدة. ولا شك ان هذه الاخيرة تنظر بقلق غير خاف الى المبادرات الرئاسية الجديدة. وهي عبرت بصراحة عن قلقها من التوجه الانعزالي لدى ترامب.

دونالد ترامب

 لقد اسقطت الادارة الاميركية في عهد الرئيس اوباما سياسة المواجهة الحامية واتجهت الى المواجهة الناعمة لا سيما مع منافسيها الكبار في العالم. وهي اعتمدت لذلك التقدم تدريجيا في تعزيز تحالفات عالمية تمنحها اليد العليا في النظام الاقتصادي الدولي الجديد. الرئيس اوباما اسقط الايديولوجيا فلا اعداء ايديولوجيين للولايات المتحدة. وهو اعتمد الذراع الاقتصادي وخاصة المالي اي الدولار، وسيلة ضغط على من يزعج السياسة الاميركية. الرئيس اوباما انخرط في واقع العولمة وقاد الولايات المتحدة الى لعب دور الراعي في الحفاظ على الواقع لكن من دون المساس بدور الزعامة للولايات المتحدة. رأيناه كيف واجه ايران والاتحاد الروسي من خلال العقوبات المعتمدة على وقف اية معاملة بالدولار لهذه الدول. الدولار هو السلاح الأمضى للولايات المتحدة وهو بالتالي السلاح الذي يسعى خصومها الكبار الى نزعه منها او على الأقل الى التخلص من نيره بل واقامة سلطة موازية له. لقد تمكنت الصين والاتحاد الروسي من موازنة الرعب الامني النووي وهما يسعيان بالتالي الى موازنتها في رعب العملة التحويلية في العلاقات الاقتصادية الدولية. هذه هي الخلفية الحقيقية لمجموعة بريكس.

ومن المعروف انه بعد سقوط المنظومة الاشتراكية وسقوط بالتالي الحرب الايديولوجية الباردة، ساد العالم نظام اقتصادي سياسي جديد قائم على الليبرالية الاقتصادية. وتمكن العالم ان ينشىء فعلا منظمة التجارة العالمية التي شكلت مع البنك الدولي ومنظمة النقد الدولية الاعمدة الثلاثة لنظام بريتون وودز للعام 1929. واذ رحب كل من الصين والاتحاد الروسي وغيرهما من العمالقة في الاقتصاد العالمي بانشاء المنظمة، الا انهم طالبوا بادخال تعديل على المؤسسات المالية تمنحهم الحرية من هيمنة الولايات المتحدة عليها وتمنحهم بالتالي التحرر من هيمنة الدولار على الاقتصاد العالمي. ونشأت لهذا الغرض مجموعة بريكس المعروفة (البرازيل، الاتحاد الروسي، الهند، الصين وجنوب افريقيا) التي قادت هذا المطلب.  

منظمة التجارة العالمية

 وقد جرت محاولات بعد ذلك الى تعديل الواقع التمثيلي في مجلس الأمن. الولايات المتحدة ارادت ادخال قوى من المجموعة 7 الى العضوية الدائمة للمجلس (المانيا واليابان) والصين والاتحاد الروسي ارادا اضافة الدول الاخرى في مجموعة بريكس (البرازيل والهند وجنوب افريقيا) الى هذه العضوية. لم يكن هذا الأمر سهلا رغم عدم معارضة الولايات المتحدة في حينه للمسعى الروسي الصيني.فدول كبرى اخرى في آسيا واوروبا واميركا اللاتينية وافريقيا عارضت هذه الانتقائية. وعليه لم يكن ممكنا الوصول الى حل لهذا الأمر.

 وسعت الولايات المتحدة وحلفائها الى تعديل النظام الاقتصادي الليبرالي باقامة نظام ليبرالي جديد يقوم بين امور اخرى، على تحويل كل القطاعات التي تشرف عليها الحكومات في القطاعات الانتاجية الاقتصادية في بلدانها الى القطاع الخاص ( الخصخصة) ومنح القطاع الخاص حقوق ادارة وتسيير هذه القطاعات مع فتح متبادل للاسواق والسماح للشركات الاجنبية بالمشاركة على قدم المساواة مع الشركات الوطنية في عملية الخصخصة المقترحة. فشل هذا التوجه ولم يمكن ممكنا ايضا التوافق بهذا الصدد.

 ووقعت الازمة المالية عام 2008 مما اضطر الولايات المتحدة الى القبول باطلاق مجموعة دولية جديدة تقود النظام الاقتصادي الدولي الجديد هي المجموعة 20 وتضم الى جانب الدول الاعضاء في المجموعة 7،  كل من دول بريكس المشار اليها آنفا ودولا اخرى تعتبر ايضا من كبرى القوى الاقتصادية في العالم لكنها في الواقع قريبة من الولايات المتحدة. وشكلت تلك الموافقة اعترافا صريحا بفشل مشروع الليبرالية الجديدة.

تجمع بريكس

في الواقع، لم تكن الولايات المتحدة قلقة من تجمع بريكس  بل انها ايدت كما سبق الاشارة، ضم دوله غير المنضوية في العضوية الدائمة لمجلس الأمن الى الى هذه العضوية. الولايات المتحدة كانت تدرك بشكل كامل ان منافسها الحقيقي هو الصين.لذلك فهي بدأت الاعداد استراتيجيا للعودة السياسية الأمنية الى آسيا بهدف اقامة الضغط المباشر على الصين. لكن الصين ردت بتهديدات لا تخفى من خلال كوريا الشمالية فالضغوط بالسياسة والأمن يمكن ان يؤدي الى حرب نووية. وعليه كان لا بد من العودة الى سياسة اكثر نعومة فقررت الولايات المتحدة ان تعتمد التحرك الاقتصادي الناعم طريقا الى مواجهة الصين واقتحام آسيا ومنع التمدد الصيني المتزايد فيها.

ومن جهة اخرى قامت الولايات المتحدة باستعادة حديقتها الخلفية في اميركا اللاتينية. وهي تمكنت فعلا من وضع حد للتمدد اليساري فيها بل واستعادت كوبا والارجنتين واسقطت النظام المتمرد في البرازيل وانهت بالتالي حلم هذه الدولة بالاعتراف بعملتها كعملة صعبة يساعدها بتحقيق حلمها باقامة منطقة نقدية جديدة في اميركا الجنوبية.

   وقامت الولايات المتحدة باطلاق حركة اقتصادية لافتة ضمن الدول التي تعتبرها حليفة لها في المجموعة 20. فاقامت علاقات مميزة مع جارتها المكسيك وساعدتها في اطلاق حركة اصلاحات استثنائية الى نظامها السياسية والاقتصادي. وقد توقعت في قراءات عديدة لي في حينه ان تكون المكسيك هي الصين الجديدة للقرن الحادي والعشرين. وكان من الممكن لكل مراقب دولي ان يشاهد ذلك التقدم السريع في تمدد الشركات الاميركية والغربية في الولايات التي تشكل الشريط الممتد بين الولايات المتحدة ومكسيكو سيتي.

مكسيكو سيتي

  كما تمكنت الولايات المتحدة من اطلاق مجموعة مقابلة لمجموعة بريكس ضمن المجموعة 20 هي مجموعة ميكتا التي اشرنا اليها سابق. وبدأت الولايات المتحدة تحركا ناشطا لتعزيز الروابط بين هذه الدول فوقعت اتفاقا للتجارة الحرة عبر الباسفيك ودفعت نحو علاقات عضوية اكبر بين الدول الحليفة لها فلاحظنا مثلا انفتاحا لاتينيا وتحديدا مكسيكيا نحو الدول الحليفة للولايات المتحدة في منطقتنا وخاصة الاردن التي وقعت معها المكسيك اتفاقا للتجارة الحرة رغم انه لم يكن بينهما تبادل مقيم للسفارات. كما زار رئيس المكسيك دول الخليج.

  وذهبت الولايات المتحدة بعيدا في تجاهل مجموعة بريكس فوافقت على ضم اليوان الصيني الى مجموعة العملات الصعبة القابلة للتحويل من دون غيره من عملات الدول الاعضاء الاخرى في هذه المجموعة. وصار واضحا ان مجموعة بريكس فشلت. فالهند لا تستطيع ان تقبل بان تذهب الى منطقة نقدية جديدة في أسيا يكون اليوان الصيني هو قاعدته. كما ان الدول الآسيوية الاخرى لن تفعل ذلك. البرازيل اصيبت بنكسة كبيرة من داخلها انهت كل احلامها باقامة منطقة نقدية تقودها في اميركا الجنوبية. ولم تتمكن جنوب افريقيا من الخروج من موقعها العادي لقيادة افريقيا . اما الاتحاد الروسي فقد سعى من خلال التدخل المباشر في الشرق الآوسط، الى فرض القبول بالروبل عملة صعبة قابلة للتحويل تساعده في اقامة منطقة نقدية في القوقاز واسيا الوسطى لكنه لم ينجح اقله، حتى الآن. ومن غير الواضح اي ثمن تريده الولايات المتحدة من الاتحاد الروسي هنا لكي توافق على الروبل عملة صعبة. لكن من الواضح ان الولايات المتحدة لم تكن متضايقة من التدخل الروسي في سوريا لأن الدول الحليفة لها في هذه المنطقة ظلت خارج التأثير السلبي لهذا لتدخل.

 وعليه فاذا كان الرئيس ترامب بدأ ولايته بالغاء الاتفاق التجاري الحر عبر المتوسط واتخاذ هذا الموقف المتشدد من المكسيك فان من الضروري ان نقلق وان نسأل كيف سيكون توجهه اذا نحو العالم ونحو هذه المنطقة؟

 ثمة خياران لا بديل لهما: الأول اعتماد الانعزال والخروج من دور القيادة وترك العالم لمصيره المجهول. ونحن لا نتوقع ذلك. والثاني اعتماد المواجهة السياسية والأمنية. وهذا ما يقلقنا. فالحديث الاميركي بشأن بحر الصين ورد الصين عليه يبعث برسالة مخيفة. وكأن الولايات المتحدة تتجه نحو اعتماد المواجهة.ربما لم يقرأ الرئيس ترامب جيدا التهديدات الكورية الشمالية للولايات المتحدة في العام 2013 باستخدام السلاح النووي ضدها. اما بالنسبة للشرق الأوسط فيبدو ان الواقع سيختلف. الرئيس ترامب لا يبدي اهتماما بمصير العراق وسوريا ولبنان ولا حتى بتركيا وكل ما يهتم له حتى الآن هو ان لا تتأثر الدول العربية الحليفة سلبا باية تطورات هناك. كما سيكون اكثر تشددا  في كل ما من شأنه ان يرضي اسرائيل ولاسيما في مواجهة المعسكر التي تعتبره اسرائيل معاديا لها وخاصة ايران.

اترك رد