أعمالها مركّبة تقيم علاقة وثيقة بين الشعر والهندسة والمادة
بعد عمر طويل ناهز المئة عام من الإبداع في مجالي الرسم والنحت رحلت سلوى روضة شقير عن العالم المحسوس لتسكن العالم اللامحسوس، وتترك أعمالها شاهداً على السنوات التي قضتها في علاقة مباشرة مع المادة، أضفت خلالها عليها نبضاً من حياة، وخطّت عبرها حركة فنية رائدة عنوانها التجريدية في النحت، و»نقل الشعر العربي من حالته الشفوية السمعية الى البصرية باستعارات حركة الشكل الهندسي ونموه التصاعدي الارتقائي في الفضاء»، بحسب نعي وزير الثقافة اللبنانية غطاس خوري لهذه الفنانة الرائدة التي تتصدر أعمالها أكبر المتاحف في العالم.
سلوى روضة شقير التي أنشأت أول معهد للفن التجريدي في لبنان، ولدت في بيروت عام 1916. تلقت دروسها الجامعية في الكلية الأميركية للبنات (حالياً الجامعة اللبنانية الأميركية) من 1934 إلى 1936 وتركزت على العلوم الطبيعية. في تلك الفترة، التقت الفنان مصطفى فروخ وترددت إلى محترف الرسام عمر الأنسي، الذي اشتهر بالمناظر الطبيعية والبورتريه، أو الأعمال الواقعية والكلاسيكية، بحسب تعريف شقير في ما بعد.
بعد تخرجها، جالت شقير بين كركوك والإسكندرية والقاهرة، ودرّست الفن فيها، ثم عادت إلى لبنان عام 1944 وشغلت منصب أمينة مكتبة في الجامعة الأميركية في بيروت.
عام 1947، أنشأت أول معهد للفن التجريدي في بيروت، وبعد عام تقريباً، سافرت إلى باريس والتحقت بالمعهد الوطني للفنون الجميلة ودرست الرسم لدى أستاذ التكعيبية الفنان فرنان ليجيه، إلا أن نهجه في الانتقال من المنظور الواقعي إلى الأشكال المختزلة لم يلق إعجابها.
في أكتوبر 1950، ساهمت في تدشين «محترف الفن التجريدي» في باريس ونظمت نقاشات في المحترف، مرتين في الشهر. عرضت أعمالها بشكل منفرد بداية 1951 في «غاليري كوليت ألندي» في باريس.
في صيف 1951، عادت شقير إلى بيروت على أمل أن تؤسس معهداً للفن الحديث فيها، وتساهم في نهضة الفن العالمية. وتبنت وتيرة إقامة معرض في كل عقد، تسلط خلاله الضوء على إمكانات الفن في التعبير عن الحياة.
توافقاً مع شكوكها بالزمن الغائيّ، لم تؤرخ شقير إنجازاتها بصورة مستمرة، كذلك لم تعمل بشكل منتظم ومبرمج. بين1977 و1984 درّست النحت في الجامعة اللبنانية وفي الجامعة الأميركية في بيروت، وتزوجت من الصحافي يوسف شقير، وأنجبت منه سنة 1957 ابنتها هلا.
منحوتات مركبة
عرفت سلوى روضة شقير بمواقفها المبنية على قناعة مطلقة بالأسس الحسابية للفن الأسلامي، ورفضت منذ البداية نقل الواقع، مستغنية عن كل مرجعية أيقونية أو رمزية. اشتهرت بمنحوتاتها المركبة من قطع عدة تتفكك أو تتراكب حتى اللانهاية، مثلما تتفكك أو تتراكب أبيات القصيدة العربية.
دافعت طول حياتها عن خصوصية فن عماده الشكل كما الشعر عماده الكلمة. الطريق بالنسبة إليها هي التجربة الصوفية والشكل النهائي، كما فهمته الفنانة ذات الولع العلمي، هو شكل تجريدي لا يوصف بالخطوط والمساحات والألوان، بل مجموعة معادلات قائمة بين عناصر العمل وبين العمل ومحيطه.
بقيت أفكار سلوى روضة شقير، ولفترة طويلة من الزمن، غير مفهومة سوى لحلقات صغيرة من متذوقيها، ابتدأت بمحترف الفن التجريدي في باريس ثم أخذت تتسع لتشمل محبي الفن من جميع الأجيال والجنسيات». (من كتاب «سلوى روضة شقير- حياتها وفنها» الصادر عن دار «النهار للنشر» في 2002).
تجريد هندسي
تعتبر الناقدة والباحثة في الفنون التشكيلية الدكتورة مهـى عزيزة سلطان أن سلوى روضة شقير دمجت بين النحت والعَمارة وعناصر من الطبيعة وأُخرى من أَساسيات الحياة اليومية وكمالياتها. ومع أَن غالبية أَعمالها من أَحجام صغيرة (بسبب الظروف القاهرة للمهنة) أَعطت للعمل النحتي وظائف جمالية جديدة ذات حضور متميز في الساحات العامة أَو الحدائق (منحوتات مقاعد- نحت بالماء- نوافير)، وكانت أَوّل من نـبَّـه إِلى أَهمية المنطلقات الفلسفية في الفنون التجريدية الإِسلامية، وعلى ركائزها بَنَتْ أُسلوبها الفني الخاص متجاوزةً به البنائية إِلى صوغ شكلاني ينفذ إِلى أَعماق الرؤْيا الشعرية».
جاء كلام سلطان خلال محاضرة لها حول سلوى روضة شقير، توقفت فيها عند حدَثَين في حياة الراحلة: الأَول تمضيتها سبعة أَشهر في القاهرة عام 1943 إِبّان المتاحف مغلقة بسبب الحرب العالمية الثانية، زيارتها الجوامع والمدارس والأَبنية القديمة، تأثُّرها بما رأَته من آثار الفنون الإِسلامية، وتكوينُها قناعةَ أَن هذا النوع من الفن ينطوي على فكر ونظام وروحانية نابعة من فلسفة جمالية خاصة، والحدَث الآخَر تمضيَتُها ست سنوات في باريس (1954-1948) واكتشافها أَن منطلَق الحداثة في الغرب هو ذاته التجريد الكامن لدى الفنون الإِسلامية، في حين كان التشييد والتجريد الهندسي رائجاً في معارض باريس مطلع الخمسينيات مقابل التجريد الغنائي والبُقَعية واستيحاء الطبيعة.
أضافت أن أَعمال شقير هي منظومة متنوعة من الوحدات الشكلية والخطوط والأَساليب المتشكّلة بمختلف الخامات وعلى مختلف الحوامل (نوافذ زجاجية، أَطباق من خَزَف ملون، سجّاديات، جواهر، تصاميم نوافير ماء، مقاعد،… ) تؤكد وحدة المنظومة الشكلية والأُسلوبية وانسجامها مع مبدأ وحدة الفنون الإِسلامية، وهي متلامسةٌ مع مفهوم تداخل الفنون، وهو أَحد أَبرز مقوّمات حداثة الغرب في القرن العشرين (الفن والتصميم، النحت والمعمار والتجريد والموسيقى،…).