بحث أكاديمي متميز للدكتور عبدالرؤوف سنّو
عبدالله محمد ناجي دوّام(*)
شهدت الفترة الأخيرة من التاريخ المعاصر صدور العديد من الكتب التي تكشف عن بعض جوانب الصراع الدولي على العالم الإسلامي، وعلى وجه الخصوص تلك الدول الأوروبية المتنافسة على النفوذ في العالم. ومن تلك الكتب، كتاب: “ألمانيا والإسلام في القرنين التاسع عشر والعشرين” من تأليف الأستاذ الدكتور عبدالرؤوف سنّو صادر عن دار الفرات للنشر والتوزيع اللبنانية في بيروت العام 2007. وقد اخترناه ليكون موضوع عرضنا في هذا الحديث، وغايتنا أن نضعه في صورة موجزة لعلنا نسهم بذلك في إطلاع الباحثين والمهتمين بمجال التاريخ الحديث والمعاصر.
لقد قدّم المؤلف في كتابه هذا عملاً أكاديمياً متميّزاً نعتقد أنَّه قد بلغ به مستوى عال من الموضوعية والمنهجية وسعة الاطلاع والتعمّق في تاريخ الشرق الأوسط الحديث والمعاصر. وقد تميّز الكتاب بكشف واضح عن أهم الخصائص التي تميّزت بها العلاقات بين ألمانيا من جهة والدولة العثمانية، والمشرق العربي وشمال أفريقيا وشرقها من جهة أخرى، وذلك في القرنين التاسع عشر والعشرين. ويستطيع مؤلفه أن يضاهي ـ بما قدمه في هذا الكتاب ـ أهمّ الدراسات الغربيّة. ومع ذلك فإنَّ هذا العمل الأكاديمي ـ شأنه شأن أي عمل علمي اكاديمي محترم ـ غير بعيد عن الوقوع في بعض القصور الذي سنضرب صفحا عنه في هذه القراءة العجلاء التي تحاول أن تقدّم الكتاب في عرض موجز لن نستطيع أن ننشد له الكمال أو أن نصفه به على الإطلاق.
التعريف بالمؤلف:
مؤلِّف الكتاب هو الأستاذ الدكتور عبد الرؤوف سنّو، من مواليد بيروت في 5 يناير 1948، حصل على درجة الليسانس في التاريخ من جامعة بيروت العربية عام 1973 بتقدير جيد، ومن الجامعة نفسها حصل على دبلوم الدراسات العربية والإسلامية عام 1975 بتقدير ممتاز، ثم أنتقل الى ألمانيا للدراسة في جامعاتها، فحصل على درجة دكتوراه الفلسفة في التاريخ الحديث والمعاصر عام 1982 بتقدير ممتاز من جامعة برلين الحرة بألمانيا الاتحادية. وفي عام 1983 حصل على دبلوم التعليم العالي والتنمية الدولية من جامعة كاسل بألمانيا الاتحادية بتقدير ممتاز عن بحث درس فيه موضوع إدارة مراكز البحث العلمي في الجامعات ودور الجامعة في الإنماء.
وبعد عودته الى لبنان شغل الأستاذ الدكتور عبدالرؤوف سنّو العديد من المناصب والمهام الأكاديمية في الجامعات اللبنانية، كان آخرها عميد كلية التربية في الجامعة اللبنانية في بيروت من عام 2001 وحتى عام 2004. ويعدُّ الأستاذ الدكتور عبدالرؤوف سنّو مؤرخاً وكاتباً تشهد له أبحاثه العلمية الجادة في العلاقات الألمانية العربية التي يستند فيها إلى وثائق الأرشيف الألماني، وقلَّ من يستطيع العمل فيه من الباحثين العرب. والى جانب الكتاب موضوع عرضنا هذا، صدر للمؤلف العديد من البحوث أهمها:
1) “النزعات الكيانية الإسلامية في الدولة العثمانية 1877-1881([2])“
2) “الدبلوماسية الألمانية ومحاولات إحياء الجامعة الإسلامية بين السلطنة العثمانية والمغرب الأقصى (1870 ـ 1890)([3]).
3) كتاب حرب لبنان: تفكك الدولة وتصدع المجتمع([4]), وغيرها من المؤلفات والدراسات والأبحاث العلمية التي شهدت له بقدرة متفوقة وعمل جاد وحصافة واضحة.
والى جانب ما قدّمه من بحوث ومؤلفات، فإنّه يحسب للباحث ـ بالذكر الحسن ـ ما أسهم به من أنشطة علمية طيبة، تمثّلت في العديد من المشاركات التي احتضنتها الكثير من المؤتمـرات والندوات العلمية، يضاف الى ذلك ما كتبه من بحوث ومقالات متخصصة موجزة تلقفتها بالترحاب والنشر العديد من المجلات والدوريات العربية وغير العربية.
وعلى مستوى الاعتراف بتفوقه العلمي وتكريمه على ذلك، فقد فاز الأستاذ الدكتور عبدالرؤوف سنّو بالعديد من الجوائز منها :.
1) جائزة ألكسندر فون هومبولدت – بون (Alexander von Humboldt – Bonn) للبحث العلمي عن العام 1990/1991 – عضو زمالة.
2) جائزة الشيخ زايد للكتاب للعام 2010-2011 فرع التنمية وبناء الدولة.
الكتاب مدار العرض “ألمانيا والإسلام في القرنين التاسع عشر والعشرين” في سطور.
يعدُّ هذا الكتاب أحد أهم الكتب التي تفتقر إليها المكتبة التاريخية العربية، لأسباب نوجزها على النحو الأتي :
1) يتميّز هذا البحث بما يتوفر عليه من معلومات تاريخية موثقة يحتاج اليها الباحثون في
هذا المجال دون استثناء.
2) إنَّ هذا الكتاب يتناول حقبة تاريخية مهمة في تاريخ كلا من ألمانيا والعالم الإسلامي
قلَّ ما التفت اليها الدارسون في الجامعات العربية والأوروبية على حدٍّ سواء.
3) يتميّز هذا الكتاب بأنَّه يستحق أن نصطلح على تسميته بالموسوعة الشاملة في العلاقات الألمانية – الإسلامية بأبعادها الموضوعية التي جعلت المؤلف يركّز في الحديث عنها على تقصي صلتها بالدولة العثمانية وبالشرق العربي وشمال أفريقيا وشرقها، في القرنين التاسع عشر والعشرين، وبذلك يكون قد غطى تاريخ العلاقات الألمانية مع عدد من الدول الإسلامية والعربية في الفترة من عام 1871م وحتى عام 1972م.
يتكوّن الكتاب من 611 صفحة من القطع الكبير، وقد جاء هيكله في أربعة أقسام: الأول منها يبحث في العلاقات بين ألمانيا والدولة العثمانية في الفترة الواقعة بين 1871 و1918، على حين جاء القسم الثاني ليبحث في تاريخ استغلال ألمانيا للسلطان عبد الحميد والجامعة الإسلامية، بهدف تحقيق المشروع الامبريالي الألماني، أما القسم الثالث، فقد تركز الحديث فيه على معالجة مشروع ألمانيا الذي كانت أهم غاياته تتمثّل في جعل فلسطين وطناً قومياً لليهود. وفي هذا القسم حديث عن موقع ألمانيا في لبنان إبّان الانتداب. وأخيراً، جاء القسم الرابع من الكتاب، وقد خصّصه المؤلف للبحث في صراع الدولتين: ألمانيا الاتحادية (الغربية) وألمانيا الديمقراطية (الشرقية) على النفوذ في مصر ولبنان. وقد أنتهى هذا القسم بسرد تاريخي تضمّن تفصيلاً لمواقف عالم الإسىميات فريتس شتبات من الإسلام المعاصر.
وبالعودة إلى مضمون الكتاب، يتضح أنَّ المؤلف قد خصّص من صفحاته ما مجموعه قرابة (420 صفحة) للحديث ـ في شكلِ دراسة نقدية متعدّدة الجوانب ـ عن موضوع ألمانيا والإسلام، وقد أهتم بتفنيد ما ساد قبله من آراء خلاصتها أنَّ ألمانيا تميّزت من غيرها بصداقة المسلمين ، ثم نقد الآراء التي كانت تذهب الى القول بأنَّ الاستشراق الألماني كان أكاديميا أكثر منه مُخابراتياً، الأمر الذي أدّى إلى أنَّ ذلك الإستشراق لم يوفق ـ بالشكل المطلوب ـ في خدمة نظام بلاده، وما كان يهدف اليه في سعيه الى التوسع في بلدان العالم الإسلامي. ثم إنَّ الأستاذ الدكتور عبدالرؤوف سنّو قد عالج في كتابه هذا مسالة تاريخية أخرى تتصل بما ذهب اليه بعض المؤرخين من أنَّ ألمانيا كانت الدولة الأوروبية الوحيدة التي لم تستعمر المسلمين .. إلخ.
ومن جانب أخر، فإنَّ الكتاب يقدم خلفية طيبة عن ما أسماه تطوّر الاهتمام الألماني الجيد بالإسلام، وتوظيف ذلك التطوّر بما يخدم مصالح الدولة الألمانية العليا، لا سيما أثناء الحرب العالمية الأولي، التي بلغ فيها الصراع الأوروبي علي بلاد الإسلام أقصاه.
وبصورة عامة، فإنَّ الكتاب يتعاطى مع مشكلات ثلاث: الأولى مشكلة تتصل بمسألة توفيق ألمانيا بين سياستها الاستعماريّة ومصالحها القوميّة من جهة، ودعمها البلدان الإسلامية ضدّ أطماع بقية الدول الاستعماريّة من جهة أخرى. على حين يأتي الحديث عن المشكلة الثانية، فيبلورها في ما عرف باستخدام ألمانيا خطاباً داعماً للإسلام، على عكس ما كانت تمارسه في الخفاء السياسي من عمل غايته تحويل الدولة العثمانيّة وممتلكاتها الآسيويّة إلى ما يشبه مستعمرة مخترقة، تجارةً واقتصاداً. وبعد الحرب العالمية الثانية، عاش العالم حرباً باردةً بين المعسكرين، الشرقي بقيادة الاتحاد السوفييتي، والغربي بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية. وفي تلك الأثناء، ظهرت المشكلة الثالثة، وقد تمثّلت في البحث عن الكيفيّة التي تنشدها ألمانيا الاتحادية كي تستطيع بها أن تحافظ على علاقات حسنة بالبلدان العربيًة، في وقت تقوم فيه بدعم إسرائيل ماليّاً وعسكريّاً، انطلاقاً من “عقدة الذنب” التاريخيّة تجاه اليهود.
وبالاعتماد على خلفية ما سبق الحديث عنه، فإنَّ الكتاب يطرح فرضيتين مركزيتين هما:
1) إنَّ أهداف ألمانيا حتى نهاية الحرب العالميّة الأولى ـ تجاه الدولة العثمانية بشكلٍ خاص، والبلدان الإسلامية بشكل عام ـ لم تختلف عن أهداف تلك الدول الإمبرياليّة الأخرى التي شكلت منظومة ما عرف بدول الاستعمار الجديد بعد الحرب العالمية الثانية. وإذا سلمنا بوجود اختلاف ما، فسوف يكون ذلك الاختلاف قاصراً على الوسائل المستخدمة من أجل تحقيق تلك الأهداف. فعلى حين فضلت دول الاستعمار الإمبريالية الاعتماد على الطرق العسكريّة بهدف الاستحواذ على البلدان الإسلاميّة وقضم أراضيها، اتّبعت ألمانيا وسيلةً أخرى للوصول إلى هذا الهدف، تتمثّل في ربط سياسات البلدان الإسلاميّة بسياستها، والسيطرة التدريجيّة على أسواقها لتتمكن في النهاية من السيطرة على اقتصاد تلك الدول، وبذلك تصل ألمانيا الى غايتها من أيسر سبيل.
2) إنّ الاعتبارات الداخليّة لألمانيا الاتحاديّة المتمثّلة في “عقدة الذنب” تجاه اليهود، وعلاقاتها مع الغرب، ومصالحها السياسيّة والاقتصاديّة في الشرق الأوسط، قد فرضت على تلك الدولة أثناء الحرب الباردة ممارسةً سياسةً مزدوجةً تجاه الدول العربيّة وإسرائيل. فبينما كانت تدفع لإسرائيل التعويضات عمّا اقترفته النازيّة بحقّ اليهود في ألمانيا، فإنَّها ـ بالمقابل ـ قد دأبت في الوقت نفسه على محاولة شراء سكوت الدول العربيّة عن طريق ما كانت تقدّمه لتلك الدول من مساعدات تنموية. ومع ذلك، فإنَّ هذه السياسة قد وصلت بألمانيا إلى طريق مسدود، خاصّة في عام 1965″.
لقد بدأت السياسة الألمانية في “الزحف نحو الشرق” في عام 1871 على وجه التقريب. أما قبل ذلك، فقد كان الاهتمام الألماني ـ بالشرق بشكلٍ عام والدول الإسلامية منه بشكل خاصّ ـ معتمداً على أمور ثقافية ودينية تمثّلت في الاستشراق والتبشير. وعلى الرغم من أنَّ ظاهر مثل هذه الأنشطة قد ارتدى ثياب المستشرقين والرهبان، فإنَّ باطنه لم يخلو من أهداف سياسية تمثّلت في العمل على توطين اليهود في فلسطين.
وإذا كانت السياسة قد تخفّت وراء أنشطة ثقافية ودينية سبقت الإشارة إليها، فإنَّ النموّ الاقتصادي ـ الذي تمثّل في تعاظم الرأسمال الألماني، نتيجة للثورة الصناعية والوحدة الألمانية التي أبرزت مصالح ألمانيا الجديدة ـ قد جعل مالكي الشركات وأصحاب رؤوس الأموال يمارسون ضغوطاً شديدةً علي المستشار بسمارك. ومع ذلك، فقد ظلّ يقاوم تلك الضغوط فيما يتعلق بالمسألة الشرقيّة لما لها ـ في مفهومه السياسي ـ من اعتبارات إستراتيجية وحسابات سياسية تفرض عليه أن يستمر في انتهاج سياسة تتعارض مع أهداف أصحاب تلك الضغوط. أما السلطنة العثمانية، فليست ـ في حسابه ـ سوى مجال لصراع دول أوروبا الإمبريالية على أطراف القارة من جهة، ووسيلة تصلح لأن تستثمر في لعبة التوازنات الأوروبية، إذا ما دعت الحاجة إلى خوض حرب على جبهتين من جهة أخرى. ثم إنَّه أصرّ على الاستمرار في مقاومة الضغوط التي كانت تحثّه على اختراق الشرق (بما في ذلك الدولة العثمانية)، لأنّه لم يكن يرغب في إثارة حفيظة الدول الأوربية الأخرى (روسيا وبريطانيا وفرنسا). وعلى وفق سياسته تلك، فقد رفض طلب السلطان عبد الحميد الثاني الذي تقدّم به اليه عام 1883م، وخلاصة ما جاء فيه أن يتم تشكيل تحالف يضم كلاً من السلطنة وألمانيا والنمسا/هنغاريا بهدف مواجهة الحلف الروسي الفرنسي. وبالطريقة نفسها، رفض بسمارك اقتراحاً آخر يسمح بدخول الدولة العثمانية في “الحلف الثلاثي” الذي تشكل من دول (ألمانيا والنمسا/هنغاريا وإيطاليا) عام 1887م. وهكذا، ظلَّ المستشار الألماني يسير على السياسة نفسها، فلم يقبل أن يتورّط في المسألة البلغاريّة (1885م-1887م).
وما كاد الإمبراطور فيلهلم الثاني يجلس على عرشه سنة 1888م حتى تغيرت الأوضاع بعد وجود حُكم جديد قام على أساسه الإمبراطور بإنتاج طفرة كبيرة في السياسة الخارجية الألمانية تمكن بها من تحقيق رؤيته الاستراتيجية التي تهدف إلى إخراج ألمانيا من النسق الأوروبي إلي النسق العالميّ، وبذلك يضمن لها “مكاناً تحت الشمس”. ولم يُقم أي اعتبار لما قد تدفع به هذه السياسة الإمبريالية الى احتمالات الصدام مع روسيا (بما في ذلك عدم تجديد “عصبة الأباطرة الثلاثة” عام 1890)، ومع فرنسا (بكلِ ما يترتب على ذلك من مناهضة نفوذها في سوريا والمغرب) ومع بريطانيا (في منافستها في سياستها العالميّة).
لقد كانت الوسائل التي استخدمها الإمبراطور فيلهلم الثاني ـ على طريق الانسجام مع سياسته العالميّة الجديدة ـ تتمثّل في أمور كثيرة منها التدخل في المسألة الشرقية والحفاظ على حياة “الرجل المريض” (الدولة العثمانية)، بما في ذلك معالجته للبعثات العسكريّة وتزويده بالأسلحة واستقبال ضباطه في المعاهد العسكريّة الألمانية، والسماح بتدفق رؤوس الأموال والقروض الألمانية إلى الدولة العثمانية، ومدِّ السكك الحديدية نحو بغداد والبصرة، وإقامة المشاريع الاقتصادية التي يمكن أن يعوّل عليها في دعم نفوذ ألمانيا في الإمبراطورية العثمانية. وهكذا، يتبيّن أنَّ السياسة الألمانية ـ في عهد الإمبراطور فيلهلم الثاني ـ كانت أكثر ذكاء من سياسات غيرها من الدول الأوروبية، ذلك أنَّها كانت تعتمد على سياسات بعيدة المدى تؤول في النهاية إلى السيطرة على الدولة العثمانية بطريقة سلمية تجنب الناس الحرب وخسائرها، وتتجاوز خلق مشاعر بالعداوة التي من الممكن أن تنتج عن الحروب بين الشعوب.
وفي هذا السياق، أقدم الإمبراطور الألماني على عمل أمر غير مسبوق في العلاقات بين الشرق والغرب، فقام بزيارتين إلى الشرق (اسطنبول وبلاد الشام) في العامين 1889و 1898. وخلال تلك الزيارتين أطلق تصريحات عكست التوجهات الألمانية الجديدة، وتركت تأثيرات بعيدة المدى في المنطقة.
ولعلَّ سبب هذا الاندفاع القوي نحو الشرق يرجع الى الأهمية الإستراتيجية العسكرية والاقتصادية لآسيا ألصغري على النحو الذي تشير اليه التقارير والدراسات الخاصّة والرسميّة الألمانيّة، بشأن قضايا عديدة أهمها:
1) الجدوى العالية للمنطقة الاقتصادية، وفي ذلك ما سيؤدّي إلى امتصاص الرأسمال الألمانيّ المتراكم باستغلال الثروات الباطنيّة؛
2) إمكانية التوسّع في المشاريع الزراعيّة التي ستخدم الاقتصاد الألمانيّ، ومضاعفة إنتاج المنطقة من خلال مدّ خطوط سكّة حديد الأناضول؛
3) الكثافة السكّانيّة القليلة للمواطنين العثمانيين، وهو مّا يسمح باستيطان آلاف الفلاحين والعمال والحرفيين الألمان؛
4) إمكانية الوصول إلى آسيا الصغرى من ألمانيا برّاً عبر البلقان، وهو ما لم يتوافر لها في المناطق الاستعماريّة الخاصة بها في إفريقيا والشرق الأقصى والباسفيك، لأنَّ طرق مواصلاتها كانت تحت سيطرة الأسطول البريطاني.
5) الأهمية العسكرية والإستراتيجية لتركيا الآسيوية التي يمكن استثمارها والاعتماد عليها في السيطرة على العالم، بما في ذلك مناهضة بريطانيا في الهند ومصر، كما أنَّه يمكن استغلالها في السيطرة على الطريق البرّية التي تؤدّي الى الهند عبر بلاد ما بين النهرين وفارس.
وقد أوضح الكتاب أنَّ الاستراتيجية الألمانية لم تتعامل مع الدولة العثمانية على أساس مفهوم الانقضاض الذي يسمح لها باحتواء تلك الدولة الاسلامية واستعمارها بصورة مباشرة، واكتفت تلك الإستراتيجية ـ بدلا من ذلك ـ بإتباع مبدأ الحفاظ على كيان العثمانيين، واتخذت لتحقيق ذلك سبلاً عديدة، منها دعم السلطان بكلِ ما يمكن لها أن تدعمه به من مساعدات عسكرية وسياسية واقتصادية وفنية. وبذلك، تكون الاستراتيجية الألمانية قد اتخذت نهجاً سياسياً خالفت به النهج الذي اتخذته دول اخرى مثل (روسيا وبريطانيا وفرنسا) فقد انتهجت تلك الدول سياسة تعتمد على تنفيذ فكرة اغتصاب أراضي الدولة العثمانية في كلٍ من البلقان ومصر والخليج والمغرب العربي.
وهكذا يتضح أنَّ التفكير السياسي الألماني قد تميّز بعمق أكبر وفهم أوسع ونظرة أكثر شمولية تميّزت بها من تلك الدول التي انطبعت تصرفاتها بقدر من التهور الذي اوقعها في بعض القصور الذي لا تخطئه أية قراءة للسياستين، حتى ولو كانت قراءةً عجلاء. ولا شك أنّ الألمانيين ـ بسياستهم تلك قد تمكنوا من الوصول الى وسيلة جديدة وطدوا بها علاقاتهم مع الدولة العثمانية وتعاملوا معها من منطلق أنَّها دولة الخلافة التي يدين لها المسلمون في العالم ـ شرقه وغربه وشماله وجنوبه ـ بالولاء المطلق. وقد حرصت ألمانيا ـ في الوقت نفسه ـ على دعم فكرة إنشاء “الجامعة الإسلامية” التي دعى إليها السلطان عبدالحميد الثاني بهدف لجم أطماع فرنسا وبريطانيا وغيرهما في الاستيلاء على الأراضي العثمانية وإلغاء سلطنته بشكلٍ نهائي. وعلى أية حال، فإنَّ هذه الإستراتيجية الألمانية الذكية لم تأت من فراغ، بل لقد جاءت بمثابة حصيلة دراسات وتوصيات استخلصها بعض المستشرقين الذين عملوا – بإصرار- علي تنفيذ الدعاية الألمانية بهدف الترويج الذي سيبرز الصورة الجديدة لألمانيا بوصفها دولة صديقه للإسلام والمسلمين بشكلٍ عام ولخليفتهم بشكلٍ خاص. وقد كان علي رأس أولائك المستشرقين ـ الذين أوكلت اليهم هذه المهمة ـ ماكس فون أوبنهايم (1860-1946).
وعلى الرغم من أنَّ ظاهر الاستراتيجية الألمانية يبدو مغلفاً بحسن النية، فإنَّ ذلك لا يعني بالضرورة حرصاً حقيقياً على مصالح السلطنة العثمانية بقدر ما كان يمثّل طعماً قدّمته ألمانيا لتتمكن من التغلغل في أعماق الأرض العثمانية، ولكن ليس قبل أن تكتمل متطلبات هذا الأمر ويأتي أوانه، يؤكد ذلك أنَّ ما حضيت به السلطنة العثمانية من دعم ألماني في إطار علاقات متكافئة لم يكن سوى ستار فشل في إخفاء حقيقة ما آلت إليه أوضاع الأطراف من كيانات. هذا جانب، ومن جانب اخر، فأنَّ الغرض كان يسير في اتجاه الحفاظ علي التوازنات مع الدول الأوروبية التي إذا ما تعرّضت للتجاوز، فإنَّها بالتأكيد سوف تقود إلي إشعال النار، ومن ثم تؤدّي الى مسلسل الحروب التي لم تعد بعيدة، وهو ما يدعو إلى الشك في ما كان يعتقد أنَّ استحالة عودة اندلاعها ثانيةً أمر قالت به السياسة وروّجت له بهدف تضليل الناس لا أكثر ولا أقلّ. وهكذا، يتضح أنَّ ألمانيا قد مارست سياسة نشطة تسمح لها بتحقيق أهدافها المعلنة وغير المعلنة. وبدوره، مارس السلطان عبد الحميد سياسة متوازنة، على أساس مما استقر في ذهنه وحاصله أنَّ إغضاب فرنسا وبريطانيا أمر غير يسير ويصعب القبول به، إن لم يكن في حكم المستحيل. وقلَّ مثل ذلك فيما يتصل بافتراض إمكانية إثارة روسيا وغيرها من الدول التي تتنافس مصالحها في هذه المنطقة.
وهكذا، فإنَّ جوهر القضية يؤكد عدم اختلاف السياسات الألمانية عن السياسات الانجليزية والفرنسية إلا في القليل، وهو ما سبقت الإشارة اليه، يؤكد ذلك ويؤيده أنَّ المسألة لا تعدُ أن تكون مجرد حديث عن استراتيجية، وإن كانت ذكية، ولكنها متأخرة في مرورها عبر بوابة السلطان العثماني والجامعة الإسلامية، هذا إذا ما لاحظنا أنَّ استراتيجيات أخرى قد اعتمدت سياسات مركبة، تقوم في جانب منها علي العلاقات السياسية مع الأستانة، ومن جانب آخر اعتمدت علي الاحتلال المباشر الذي سيتم تحقيقه بوسيلتين، هما الاقتحام العسكري وبناء رؤوس جسور حربية على نحو ما تعرضت له مصر والجزائر وغيرهما.
ثم يتوقف المؤلف عند مسألة العلاقات الصهيونية الألمانية، فيبرز تطوّر موقف ألمانيا المتمثّل في رفض مشروع المستوطنات اليهودية، ولو من الناحية الرسمية والإعلامية على أقل تقدير. وقد أوضح المؤلف أنَّ هذا التطور قد جاء ليتماشى مع اعتبارات سياسية وإنسانية تتلخص فيما كانت تشعر به ألمانيا من أهمية التعاطف مع حماية المستوطنات.
لقد حاولت الصهيونية العالمية ـ التي كان أغلب قادتها من اليهود الألمان ـ أن تظفر باختراق سياسة ألمانيا المبنية على أساس الحفاظ على الوضع الراهن في الشرق، وأن تنجح في اقناع الألمان بالوقوف الى جانبها بغرض الوصول الى تحقيق أهداف اليهود في انجاز مشاريعهم الاستيطانية في فلسطين، ولم يغب عن اذهان أولئك الذين يرسمون خطّ السياسة الصهيونية أن يفيدوا من كلِ ما تتمتع به ألمانيا من نفوذ في الآستانة. وتأسيساً على ذلك، فقد اعتمد البرنامج السياسي الصهيوني على اقناع ألمانيا بدعم فكرة منح اليهود في فلسطين استقلالاً ذاتيّا لقاء دعم الصهيونية العالمية للدولة العثمانية بكلِ ما يساعدها على تجاوز ما كانت تعانيه من أزمة ماليّة، بشكل يتوافق مع سياسة الإمبراطور فيلهلم الثاني في إنقاذ الدولة العثمانية من ديونها الضخمة للبنوك الأوروبية. وعلى الرغم من ذلك فإنّ الحكومة الألمانيّة ـ وفي مقدمتها وزير الخارجيّة بولوﭪ، ومارشال، السفير الألماني في الآستانه (1897-1912) ـ قد شكّكت بالنوايا الصهيونية، ومن ثم رأت أنّ إثارة مثل هذا الموضوع لن تؤدّي إلا الى إثارة العثمانيين واستفزاز حساسيّة حكومتهم، وبالنتيجة تتعكّر أحوال العلاقات الوطيدة التي تربط ألمانيا بالسلطنة العثمانية. كلُّ ذلك كان كفيلاً بإقناع بولوﭪ بخطورة ما سيترتب عليه القبول بالمشروع الصهيونيّ على المصالح الألمانية في الشرق. فرفض الفكرة من أساسها، وبقي على موقفه ذاك بعد تعيينه رئيساً للوزراء في ألمانيا عام 1900م. ومع ذلك، فإنَّ ألمانيا قد ابقت الباب مفتوحاً على العلاقة مع الحركة الصهيونية، فأخذت تواصل دعمها للمؤسّسات والمستوطنات اليهوديّة في فلسطين، ثم إنَّ ألمانيا لم تجد غضاضة في السير على طريق حماية الصهاينة من أي خطر يمكن أن تهددهم به سلطات الدولة العثمانيّة، وقد عزت موقفها ذاك الى اعتبارات سياسية وثقافيّة و”إنسانيّة”.
وبعد عام 1913، تحوّل الموقف الألمانيّ إزاء الحركة الصهيونيّة إلى نوع من “التعاطف”الذي افرزته أحداث الحرب العالميّة الأولى. وبذلك، تمّ استحداث “دائرة شؤون اليهود” في وزارة الخارجيّة الألمانيّة. وهكذا، بدت الحماية الألمانية للمستوطنات اليهودية في فلسطين ضدَّ سياسة جمال باشا أكثر وضوحاً مما كانت عليه قبل تلك الحرب.
إنَّ هذه المقدّمات ذات الصلة بالواقع السياسي قد آلت ـ خلال الحرب العالمية الأولى ـ إلى ما يمكن أن نصطلح عليه بنهج ألماني يتسم بالدعاية التي تزعم أن الحكومة الألمانية تؤيد المسلمين بشكلٍ عام والدولة العثمانية بشكلٍ خاص. وقد كان مثل هذا النهج يتغيّى الإبقاء على السلطنة العثمانية لتشكل مانعاً لما قد يحدث من تفرد لدول أخرى في حلّ المسألة الشرقية هذا من جهة، ومن جهة أخرى، فإنَّ الألمانيين كانوا على وعي تام بأهمية تجيير طاقات آسيا الصغرى لصالح مشروعهم الاقتصادي الصناعي والتجاري، بما في ذلك مشاريع سكك الحديد والثروات الباطنية. ولتحقيق ذلك، فقد اعتمدت الحكومة الألمانية خطاباً سياسياً يدعم الإسلام بما في ذلك مساندة “الجهاد”. وقد أنشأت لهذا الغرض “دائرة استخبارات الشرق” برئاسة المستشرق ماكس فون أوبنهايم ولم يكن لتلك المؤسّسة من هدف سوى استغلال الإسلام سلاحاً يحقق خدمة القضية الألمانية من جهة، وتأليب المسلمين على دول الحلفاء من جهة أخرى.
ومن أجل أن تقنع حكام المسلمين بهذه السياسة حاولت أن تروّج لفكرة براغماتية خلاصتها أنَّ التعامل مع ألمانيا سيعود على المسلمين بمنافع مع ألمانيا في مختلف مجالات الحياة. وقد نجحت هذه السياسة الى حدٍّ ما في إقناع بعض الشخصيات العربية بالتعاون مع الألمان لاعتبارات، منها الاعتقاد بصدق سياستهم الإسلامية المعلنة، بما في ذلك تحالفهم مع الدولة العثمانية. يُضاف الى هذا صراعهم مع دول “الوفاق الودّيّ”. وربما وجدت تلك الشخصيات العربية ـ في القناعة بمثل هذا التعاون ـ مبرّراً أخر تمثّل في دافع الخوف على مصير المنطقة العربية اذا ما تم افتراض إمكانية انهيار الدولة العثمانية. ومن تلك الشخصيات العربية شكيب أرسلان، وعبدالعزيز جاويش، ومحمد فريد، ومحمد فهمي، وعبد الملك حمزة، وعبد الرحمن عزام، ومنصور رفعت, وبدوره فقد سعى الخديوي عّباس حلمي (الثاني) إلى الحصول على دعم ألمانيا والدولة العثمانية ليتمكن من استعادة منصبه في مصر, أما في العراق فقد برز دور عزيز علي المصري، مؤسّس جمعيّة “العهد”، إذ مال إلى تأييد ألمانيا، بسبب كراهيته للبريطانيين، واعتقاده بضرورة الحفاظ على الدولة العثمانية.
وقد تناول مؤلِّف الكتاب مسألة ردود الفعل على الدعاية الألمانية لدى الشخصيات الفكرية والسياسية العربية من جهة، وردود الفعل الشعبية على ما تضمنته من جهة أخرى. ومن أبرز الشخصيات اللبنانية ـ التي تعاملت مع المؤسسات الألمانية في تنفيذ سياساتها ودعايتها تلك ـ شكيب أرسلان، وكان آنذاك يُعد من أبرز الشخصيات العربية التي أدّت دوراً متميّزاً خلال الحرب العالمية الأولى، بما في ذلك موقفها المعادي تجاه دول الاستعمار التقليديّة. وقد تأثر شكيب أرسلان بالأمام محمد عبده وأخذ عنه موقفه من المدنية الغربية، واعتقاده بقدرة الإسلام على الإصلاح. وعن الأفغاني، أخذ الفكر النهضويّ الإسلاميّ والدعوة إلى الوحدة الإسلامية. وقد انصبّ اهتمام أرسلان على رؤية الإسلام وهو يمارس قدراته المتفوقة في التصدّي لأوروبا. ومن ثم نظر إلى علاقة الشرق بالغرب على أنَّها علاقة صراع حياة أو موت. وقد مقت الرجل الاستعمار البريطانيّ، وعده من أسوأ أنواع الاستعمار، على حين وصف الاستعمار الفرنسي بأنّه أشدّ بربرية، يأتي بعده الاستعمار الإيطالي. وعندما أُتيحت له الفرصة لوضع آرائه حول التصدّي للاستعمار موضع التنفيذ، سافر إلى طرابلس الغرب في ليبيا عام 1912، وهناك راح يحرّض الأهالي ضدّ الاستعمار الإيطالي.
وعلى الرغم من أنّ أرسلان لم يشأ أن يميّز بين أنواع الاستعمار الذي تمارسه الدول الغربيّة، فأنّه قد برّأ ألمانيا من ممارسة أي سياسة استعماريّة تجاه البلدان العربيّة، وعبّر عن يقينه بأنّها حليف مخلص للسلطنة العثمانية بدليل ما تبنته من موقف رفضت بموجبه أن تتقاسم ممتلكات تلك السلطنة مع الدول الغربيّة. ومن جانب أخر، فقد رأى أرسلان أنّ الدولة العثمانية شكّلت مظلّة إستراتيجيّة تحمي العرب والمسلمين من تعديات دول الاستعمار، على الرغم مما كانت تعانيه آنذاك من ضعف غير خافٍ على ذي لبٍ سياسي رشيد. وقد أقام شكيب أرسلان في ألمانيا قرابة عامين في الفترة الواقعة بين سنتي 1917 و1918، وفي تلك الحقبة التاريخية أصدر40 مقالاً عبّر فيها عن دعمه للسياسة الألمانية من دون أدنى تحفظ.
وبالإضافة إلى أرسلان، احتضنت المدن الألمانية عددا أخر من الشخصيات الإسلامية والوطنية المصريّة، وقد كان من أبرز تلك الشخصيات عبدالعزيز جاويش، الذي كان إسلامياً متشدّداً تجاه الاستعمار الفرنسي والإنجليزي أكثر منه وطنيّاً مصرياً. وكانت عداوته لبريطانيا عداوة عميقة مزمنة. فقد رأى أنَّ السياسة البريطانية هي التي جلبت ـ وتجلب للعالم الإسلامي بشكلٍ خاص والعربي منه بشكلٍ عام ـ كلّ بلاء. ثم أنَّ جاويش قد آمن إيماناً عميقاً بحقّ مصر في الحرّيّة والاستقلال والنظام الدستوري. وبالقدر نفسه، آمن بأهمية وحدة العالم الإسلاميّ تحت راية الدولة العثمانيّة. وبقناعة تامة ايقن عبدالعزيز جاويش باستحالة إمكانية تحقيق ذلك ما لم يعمل الجميع على مقاومة أي اتجاه سياسي يدعو الى تمزيق قوة الحكم العثماني لا سيما تلك السياسات التي تتبناها دول “الوفاق الودّيّ”. و لما اندلعت الحرب، اعتقد جاويش أنّها قد جاءت لتشكل فرصة إلهيّة تسمح بالعمل على خلاص أراضي الأمة الإسلامية من كلِّ ما تخطّطه لها دول الاستعمار.
وتأسيساً على ما تقدّم، اتصل الرجل بالسفارة الألمانية في الآستانة، وعبّر لها عن موقفه المؤيد لسياسة الحكومة الألمانية. وبعد ذلك سافر إلى ألمانيا، حيث أخذ يعمل مع غيره من الوطنيّين المصريّين على تقديم النصح للخبراء الألمان في الكيفية التي ينبغي عليهم أن ينتهجوها حال تنفيذهم لأساليب الدعاية الألمانية في العالم الإسلاميّ، التي من شأنها تحقيق هدف استقطاب المسلمين إلى صف “دول الوسط” ضدّ دول “الوفاق الودّيّ”. وهكذا، تمكنت تلك الدعاية من استقطاب شخصيات إسلامية وعربية عملت على جمع المعلومات والترويج للدعاية التي أعتقد القائمون عليها بأنَّها كفيلة بتحقيق ما يريدون. غير أنَّهم ما كادوا ينفذون خططهم، حتى ظهرت لهم بوادر تؤكد أنَّ ذلك المشروع الدعائي ـ الذي اعتمد على الضغط في إطار التوجه الديني ـ لم يفلح في إقناع المسلمين في التقرب من الدولة العثمانية أو الحكومة الألمانية على الإطلاق. وقد ساق مؤلِّف الكتاب أكثر من دليل يؤكد به هذه النتيجة، من ذلك ما حصل في لبنان وسوريا والعراق والحجاز، حيث عملت كل تلك المناطق على التخلّص من السلطنة العثمانية، واتخذت لذلك شتى الوسائل السياسية وغيرها.
لقد دفعت هذه الأجواء ـ بما فيها ما عـُرف انذاك بحمى الدعاية الإسلامية ـ بعض أنصار “الجامعة الإسلامية”، الذين انطلت عليهم حيلة الموقف الألماني، إلى دعوة الإمبراطور فيلهلم الثاني وشعبه، ليعتنقوا الإسلام.
ثم نأتي إلى القسم الثاني من الكتاب وفيه نجد أنَّ المؤلف قد حكم على السياسة الألمانية بما سماه استغلالها “الجامعة الإسلامية” بهدف التغلغل في زنجبار – شرق إفريقيا ـ لما تميزت به من خصائص أهمها :
1) ازدهارها الاقتصادي والتجاري.
2) تحوّلها إلى مركز مهم في التجارة الدولية، لا سيما بعد افتتاح قناة السويس، وهو ما حوّل أنظار الألمان اليها بدعم من “الجامعة الإسلامية”، ومن ثمّ تمكنت الحكومة الألمانية من استغلالها كما قدّمنا. ومن المهم الإشارة الى أنَّ العلاقة الألمانية مع زنجبار كانت قبل هذا الوقت مقصورة على مجرد معاهدات في مجالي التجارة والملاحة. يُضاف إلى ذلك ما كان يُعرف بصداقة عقدتها “مدن الهنزا” الألمانية مع زنجبار التي كان سلاطينها خاضعين لإشراف بريطانيا السياسي والعسكري. غير أنَّ ألمانيا نجحت ـ كما أشرنا ـ في تطوير مصالحها التجارية في شرق إفريقيا، حتى تمكنت من أن تحتل المركز الثاني بين الدول التي تتعامل مع زنجبار في تجارتها الخارجية. و قد ظلت ألمانيا محافظة على هذا المركز طوال الفترة الواقعة بين عاميّ 1869 و1871.
لقد استطاعت الحكومة الألمانية أن تحافظ على هذا النوع من العلاقة حتى مطلع عام 1884، يدلنا على ذلك أنَّها رفضت ـ في الفترة من عام 1867 إلى عام 1870 ـ دعوتين تقدّم بهما اليها سلطانا ويتو وزنجبار على التوالي، أعلنا في تلك الدعوتين عن رغبتيهما في أن يضعا حكميهما وبلديهما تحت النفوذ الألماني.، وفي الاتجاه نفسه، رفضت دعوات متكرّرة من دوائر ألمانية تطلب منها البدء في تنفيذ سياسة استعمارية جديدة في إفريقيا بشكلٍ خاص والعالم بشكلٍ عام، واكتفت ـ بدلاً من ذلك ـ بدعم مصالح ألمانيا التجارية في بلاد في ما وراء البحار تحت شعار “السياسة الاقتصادية”. ولم تحظ الدعوة إلى استحداث سياسة استعمارية ألمانية جيدة بتشجيع بسمارك ودعمه إلا في عام 1884، بعد أن وجد فيها وسيلة مثلى من وسائل دعم حملته الانتخابية ومناوراته الداخلية ضدّ أحزاب المعارضة الألمانية.
وفي إطار ما طرأ على سياسة ألمانيا الاستعمارية ـ من تعديل وتحديث ـ حظي كارل بيترز مؤسس “جمعية الاستعمار الألمانية” (21 أبريل 1884م) بدعم بسمارك وتشجيعه على عقد اتفاقات حماية مع المناطق الداخلية لشرق إفريقيا المواجهة لزنجبار. يُضاف إلى ذلك، ما شهدته الفترة الواقعة بين نوفمبر وديسمبر 1884 من اتفاقيات بلغت اثنتي عشرة اتفاقية مع زعماء أفارقة محليين. وبعد أن أكّد بسمارك لبريطانيا في أكثر من مناسبة عدم وجود أيّة نوايا ألمانية خبيثة تجاه استقلال زنجبار، أصدر الإمبراطور فيلهلم الأول في ـ 27 فبراير 1885م ـ مرسوماً أعلن فيه وضع تلك المنطقة تحت حمايته، وعهد بإدارتها إلى “شركة شرق إفريقيا الألمانية”، التي انبثقت من جمعية الاستعمار الألمانية” في 2 أبريل 1885م.
وقد أدّى كلّ ما قامت به دول الاستعمار الأوروبيّ ـ من هجوم مكثّف على البلدان الإسلامية في القرن التاسع عشر، والتدخّل في شؤونها واضطهاد شعوبها ـ إلى ردود فعل إسلامية عبّرت عن نفسها بأفكار تيّارات فكريّة – صوفيّة – سياسيّة واستجابت لهذا التحدّي تحت تأثير قناعة أصحابها بضرورة إعادة تجديد الخطاب الإسلامي والسياسات المتصلة به، وتفعيل مفاهيم وحدة الأمة عند المسلمين.
وبالمقابل، فقد تعرّضت قارة إفريقيا إلى خطر الاستعمار، وأدرك سياسيوها ومفكروها ما قد يترتب على تلك الأخطار من أمور غير مأمونة العواقب، وهو ما أدّى إلى نشوء العديد من الحركات الإسلاميّة والطرق الصوفيّة، بما في ذلك إعادة تفعيل نشاطات القديم منها، كلُّ ذلك عكس انتشاراً واضحا لمبادئ تلك الحركات في أوساط الناس، وبالقدر نفسه اتسعت حيوية تأييد الأفكار التي اعتمدت على نشر مبادئ الإسلام التي جسدتها مشاعر “الجامعة الإسلاميّة” في شمال إفريقيا ووسطها، بعد أن استطاعت تلك الآثار الإسلامية نفسها أن تخترق الصحراء الكبرى، وهو ما جعل الوجود الألماني في تلك المناطق محاطاً بالوجود الإسلامي، ومن ثم وجدت الحكومة الألمانية نفسها ـ وجهاً لوجه ودون أن يكون لها في ذلك أي اختيار ـ أمام تصادم مباشر مع تلك الحركات الإسلامية التي اتخذت من فرض “الجهاد” وسيلة تقاوم بها الاستعمار، ومن ثم أدّى ذلك بألمانيا إلى اتخاذ نهج جديد تمثل في العمل على التقرّب من السلطان العثماني عبد الحميد بصفته خليفة المسلمين بهدف الإفادة من نفوذه الروحي على المسلمين. كما عملت على التودد إلى “الجامعة الإسلامية” لعلّها تحظى بدعمها في تنفيذ مشاريعها الاستعمارية. غير أنَّ السلطان عبدالحميد كان على علم بما يجري من أحداث في إفريقيا، وخاصّة ما وقع بعد الاحتلالين الفرنسيّ والبريطانيّ لتونس ومصر على التوالي. يُضاف إلى ذلك، ما شهدته السودان من أحداث، ولم يكن السلطان بعيداً عن معرفة ما تعرّضت له طرابلس الغرب من تهديدات ايطالية ، ثم إنّه أدرك ما كان يُخطط لزنجبار من استراتيجيات لا تختلف عن ما خُطّط لسابقاتها من دول أفريقيا. كلُّ ذلك أقنعه بعدم قبول ما تراوده ألمانيا على قبوله؛ فنجح في افشال سياستها، ومن ثم فلم تجد الحكومة الألمانية مفرّاً من الاتجاه إلى التعامل مع انجلترا، فعقدت معها تسوية استعمارية تمّت فيها مراعاة مصالح الجانبين أو الدولتين.
وعلى الرغم من أنَّ ألمانيا قد شجعت فرنسا على استعمار تونس ثم المغرب ـ بعد أن تمكنت هي من احتلال مقاطعتي الألزاس واللورين الفرنسيتين. وعلى الرغم من ذلك كلّه، فإنَّ السياسة الألمانية قد انتهجت توجهاً جديداً صوب “الجامعة الإسلامية”؛ فشجعتها على أن تقوم بأحياء دورها في المغرب العربي، وفي ذلك ما فيه من رغبة ألمانية في استغلال “الجامعة الإسلامية” واستغلال السلطان العثماني ليكون بوابتها التي تعبرها الى شرق إفريقيا، وستحقق بذلك هدفاً أعلى يتمثّل في جعل علاقتها بالسلطان عبدالحميد الثاني سوطاً مسلطاً على فرنسا في شمالي إفريقيا.
وحينما جاءت ثورة “البوكسر” التي اندلعت في الصين عام 1899 ـ تحت شعار “الموت للمحتلين الأجانب والموظفين الصينيين المرتشين”، وذلك باشتراك فاعل نهض به المسلمون، فقد هدفت تلك الثورة الى منازعة الأوروبيين الذين اتخذوا من الصين وطناً لهم ـ أقول حينما جاءت تلك الثورة سعت ألمانيا ـ بكلِّ ما لديها من قوة سياسية ـ الى توريط السلطنة العثمانية فدعتها الى الإسهام في القضاء على تلك الثورة وإبعاد المسلمين عنها، غير أنَّ السلطان فطن الى الحيلة الألمانية، فرفض أن يتجاوب مع ما اقترحته عليه تلك الحكومة. وبذلك أفشل خطّتها ولو الى حين.
وهكذا، فإنَّ تلك الحالات الثلاث التي أوجزنا الحديث عنها فيما سبق من سطور، لم تكن سوى وسائل غايتها تحقيق هدف ألمانيا في استغلال قوّة الإسلام ونفوذ السلطان وروابط “الجامعة الإسلامية”من أجل المصالح الألمانية التي كانت تتعارض مع مصالح فرنسا وانكلترا وغيرهما.
أما القسم الثالث من الكتاب، فقد كرّسه الباحث الأستاذ الدكتور عبدالرؤوف سنّو لدراسة علاقة ألمانيا ببلاد الشام في المجالات السياسة والاقتصادية والثقافية، تلك العلاقة التي شهدتها الفترة التاريخية الواقعة بين عامي 1831 و1918. فتحدّث عن أمور كثيرة، منها العلاقة مع القدس واليهود، يُضاف الى ذلك مسائل مثل تهويد فلسطين، ومشاريع تدويل القدس، وخلق مطرانية جديدة إنجليزية بروسية هناك تعمل على تنصير اليهود.
بذلك يكون الأستاذ الدكتور عبدالرؤوف سنّو قد أفاد من مقتنيات الأرشيف الألماني، فأضاف رافداً جديداً الى الموضوع، إذ مرّ على مشاريع توطين المنصّرين من اليهود منذ صدور ما عـُرف “بمرسوم تحرير اليهود” عام 1812، وحصولهم على المواطنة البروسيّة، الذي لم يؤدّ إلى ما كانوا يطمحون اليه في الوصول الى درجة المساواة الكاملة مع الألمان. فقد ظلّ الالتحاق بالوظائف الرسميّة ـ على سبيل المثال ـ محصوراً على الألمان. ثم نصل الى ما عـُرف انذاك بزمن حرب التحرير من السيطرة الفرنسية، لنجد أنَّ أهم أٍسباب تلك الحرب قد تمثّلت فيما عاناه الألمان من صعوبات قومية أدّت إلى اتخاذ سبيل مواقف العداء للغرباء، وهو عداء بلغ ذروته درجةً جعلت (فريدريك لودﭭيغ يان) يدعو إلى “حرب صليبية” مقدّسة ضدّ كلّ الغرباء من فرنسيين ويهود .
أما اليهود الألمان، فقد عدَّهم مواطنهم الفيلسوف (يوهان غوتليب فيخته) “جسماً غريباً” يشكّلون به “دولة داخل دولة”. وفي ذلك ما فيه من التوجه العنصري، لأنَّ هذا الفيلسوف قد وسمهم بهذه الصفات على الرغم من أنَّ الأصل في المسألة أنّهم جزء من مجتمع يفترض أنَّهم أساس في نسيجه، بحكم أنَّ الانتماء إلى ألمانيا قاسم يشترك فيه كلّ من له في الأرض الألمانية حق بوصفها وطن الجميع. وقد بالغ الرجل في تطرّفه المعادي لليهود، حين أشار الى أنَّ حقهم في المعاملة كسائر البشر أمر مسلم به، ومع ذلك فإنّه لم يستطع أن يقبل التعامل معهم على قدم المساواة في المواطنة. فذكر أنَّه لا يمكن أن يـُسمح لهم بالحصول على حقّ المواطنة إلا إذا أمكن أن نقوم ـ في إحدى الليالي ـ بفعل يُستبدل برؤوسهم رؤوساً أخرى خالية من أيّة أفكار يهوديّة. وأضاف فيخته ـ على نحو ما جاء في الكتاب مدار العرض ـ يقول ( “لا أرى سوى أن نفتح لهم أرض الميعاد (فلسطين) ونرحّلهم جميعاً إلى هناك”).
وعلى أية حال، فإنَّ هذه النظرة العدائيّة ضدّ اليهود لم تقتصر على ما شهدناه عند الفلاسفة ورجال الفكر، بل لقد وجدناها واضحة لدى العديد من الألمان الذين رأوا في اليهود “شعباً فاسداً” عديم الأصالة “مشحوناً بميول شريرة شاذّة”. ومن هنا، فقد جرى الاعتقاد ـ بين الألمان ـ بأنَّه يمكن “تصديرهم” إلى فلسطين ليكون لهم وطناً يستوعبهم، بعد أن تتم عملية تنصيرهم على المذهب البروتستانتيّ. وهكذا، يتضح أنَّ تلك الأفكار الألمانية قد شكلت دعوة مبكرة إلى جعل فلسطين ضحيّة اللاسامية الأوروبيّة؛ فسبقت “وعد بلفور” بأكثر من مئة عام . وعلى أية حال، فلم تقف تلك الطروحات عند مجرد توطين اليهود المتنصرين أو المرجو تنصيرهم، بل لقد تمكنت ـ الى جانب ذلك ـ من توطين اولئك الذين بقوا على دينهم اليهودي.
إنَّ من يتأمل ـ فيما أوجزناه من معطيات اعتمد عليها هذا الكتاب ـ يستطيع أن يجدها وقد قصرت نفسها ـ في النظرة إلى الموضوع ـ على ما توفر للمؤلف من وثائق الأرشيف الألماني وهو ما سبق أن أوضحناه في أكثر من فقرة من فقرات هذا العرض. ولو أنَّ الباحث عاد الى الأرشيفين الإنجليزي والفرنسي، لأفاد من وثائقهما بالقدر الذي تكتمل له الصورة التي ستتضح جوانبها على الوجه المطلوب. هذا من جهة، ومن جهة أخرى، فإنَّ عودته ـ الى الأرشيفين الإنجليزي والفرنسي على النحو الذي فعله مع الأرشيف الألماني ـ كانت ستمكنه من تقديم معلومات تثري الموضوع وتسهم في تنوّع الخلاصات وتعدّدها، ومن ثم تصبح النتائج أكثر إقناعاً لأي قارئ يقع بين يديه مثل هذا الكتاب النفيس.
أما ما كان بشأن المصالح الألمانية ـ في لبنان إبان الفترة الواقعة بين 1831 و1918ـ فقد عرض لها الكتاب بعد أن أفاد من الخلفية التاريخية للعلاقات الألمانية – اللبنانية منذ احداث الأزمة الشرقية التي استمرت حوالي تسع سنّوات، إذ بدأت عام 1831 وانتهت عام 1840م. ثم جاء موضوع إنشاء “مطرانيّة القدس الإنجيليّة” ـ عام 1842 التي انشأتها بروسيا ـ ليشكل مقدّمة تبرر الدخول السياسي إلى البلاد السورية. ثم إن الكتاب يحدثنا عن ما سماه أسباباً سياسية واقتصادية داخلية واعتبارات دولية ليقرّر أنَّ مثل تلك الأسباب والاعتبارات قد أسهمت في تثبيت وضع بروسيا على طريق التوازن الأوروبي. ولعلَّ تلك الأسباب هي التي أوجدت ما أطلق عليه محاولة بسمارك إشغال الدول الكبرى بمشكلات الاستعمار في ممتلكات السلطنة العثمانية بعيداً عن أوروبا.
وهكذا، ظلّت بروسيا ـ وإن شئت فقل ألمانيا البسماركية ـ تمارس دوراً ثانوياً في المسألة الشرقية، لم يكن له أي تأثير على تحديد مصير البلاد السورية بأي حال من الأحوال. ومنذ ذلك الوقت، الى أن جاء عصر الإمبراطور فيلهلم الثاني، لم تشكل المقاطعات اللبنانية أيّة قيمة إستراتيجية أو اقتصادية في سياسة ألمانيا العالمية، أو في إستراتيجيتها تجاه السلطنة العثمانية بشكلٍ خاص، ذلك أنَّ حجم تجارتها مع لبنان، وعدد مؤسّساتها وأفراد جاليتها هناك، قد بقي متواريا خلف طموحات القوى الأوروبية الرئيسية ومنها فرنسا على وجه الخصوص.
وبالتحليل التاريخي، أشار مؤلف الكتاب الأستاذ الدكتور عبد الرؤوف سنّو إلى أنَّ إرسال السفن الحربية الألمانية ـ في اتجاه مرافئ الساحل السوري، أو طرح مسألة حماية الكاثوليك الألمان ـ يجب أن لا يُفسر بأكثر من أنَّه يحقق هدفا ألمانيا تمثّل في مضايقة الفرنسيين، ومن ثم إرغامهم على الجلوس في مفاوضات ينبغي أن تنتهي بتقديم بعض التسويات التي تراعي مصالح ألمانيا في الأراضي الأوروبية، على النحو الذي حدث هناك خلال منتصف الثمانينيات من القرن التاسع عشر. وعندئذ فلن يكون مستغرباً أن تتّسم السياسة البروسية، ومن بعدها السياسة الألمانية ـ تجاه القائمقاميتين ومتصرّفية جبل لبنان ـ بالدعوة الى التوافق بين الدول على أساس ما تقضي به الإستراتيجية الألمانية، وخلاصته أنَّ لبنان ليست منطقة نفوذ للألمان.
لقد حاول المؤلف أن يبرز المصالح الألمانية ـ في المجالات الثقافية والعلمية والإنسانية، بما في ذلك الموقف الألماني من الأحداث في جبل لبنان ـ فتحدّث عن محاولة بروسيا الدخول للمنطقة عبر الطوائف اللبنانية أسوة بما فعلته الدول الأوروبية الأخرى، ثم أشار الى ما قامت به من إجراء دراسات استكشافية تساعد على تعزيز حضورها هناك.
أما العلاقات التجارية مع كلٍّ من سوريا ولبنان، فلم تسهم ـ على وفق تقديرات مؤلف الكتاب ـ بأكثر من 0.2% من مجمل تجارة ألمانيا الخارجية. وبذلك، كانت أهمية أسيا الصغرى ـ بالنسبة لألمانيا على الصعيدين الاقتصادي والإستراتيجي ـ تفوق أهمّية هذين القطرين من بلاد الشام، ذلك أنَّ آسيا الصغرى قد شكّلت أهمّية خاصّة في إستراتيجية ألمانيا البرّية مع الشرق، ومن ثم فقد أرادها الألمان أن تكون موطناً يستوعب ما فاض أو زاد عن قدرة الأراضي الألمانية على استيعاب المزيد من السكان. ثم أنَّهم أرادوها مقرّاً لرأس مال بنكي وسوقاً استهلاكية تباع فيها سلعهم، بعد أن تكون قد أمدّت مصانعهم بالمواد الخام .
لقد كان الألمان يعيشون على أمل أن تؤل تلك المنطقة الى حوزتهم بعد احتضار “الرجل المريض” (الدولة العثمانية)، ومن ثم جاء نشاط الدولة الألمانية في آسيا الصغرى ـ وخاصّة مشروع سكّة حديد بغداد ـ الذي لامس مناطق نفوذ الدول الأوروبية الأخرى، روسيا وبريطانيا في فارس والخليج، مع إمكانية ربطه بخطوط سكك الحديد السورية حتى موانئ البحر الأبيض المتوسط ـ ليشكل سبباً تنافساً دولياً حاداً بلغ ذروته عشية الحرب العالمية الأولى.
أما فيما يتعلق بسوريا ولبنان، فقد شكل خطّ حديد بغداد تهديداً للنفوذ الفرنسي، ثم إنَّه وضع المنطقة في سياق مشاريع فرنسية وألمانية مضادّة. ولما كانت آسيا الصغرى تُعدّ منطقة الاهتمام الإستراتيجي الألماني التى مثلها مشروع (سكّة حديد بغداد)، فقد توصّلت ألمانيا وفرنسا في فبراير 1914 إلى اتفاقية حول تقاسم مشاريع سكك الحديد ـ بعد تسويات مماثلة مع كلٍّ من روسيا وبريطانيا. وبموجب اتفاقية فبراير تلك، أطلقت ألمانيا يد فرنسا في سوريا، شريطة أن تعترف الأخيرة لألمانيا بما ترغب فيه من إتمام مشروع خطّ السكك الحديدية خارج مناطق النفوذ الفرنسي. غير أنَّ الاتفاقية آنفة الذكر لم تنفّذ، بسبب عدم تصديق الحكومة العثمانية عليها من جهة واندلاع الحرب العالمية الأولى من جهة أخرى.
وفي هذا الكتاب وقف الأستاذ الدكتور عبدالرؤوف سنّو أمام رحلة الإمبراطور فيلهلم الثاني إلى الشرق عام 1898؛ فتحدث عما نشرته الصحافة العربية بشأن تلك الزيارة، بما في ذلك إزاحة النقاب عن أسبابها وأبعادها ونتائجها، بحيث استطاع الكتاب أن يربط ذلك كلّه بسياسة الإمبراطور في التعامل مع الدولة العثمانية؛ تلك السياسة التي مارسها منذُ ارتقائه عرش ألمانيا. فعمل على تطبيق منهج التدخّل المباشر في شؤون الدولة العثمانية. ثم إنَّه حرص على مناهضة الدول الأوروبية الأخرى ليقطع الطريق أمامها ويمنعها من تحقيق رغبتها في المنافسة الإمبريالية، في سبيل الفوز لاحتواء السلطنة والسيطرة عليها. وفي حديثه حول هذا الموضوع، أوضح المؤلف خصوصية تلك الرحلة، فذكر أنَّها جاءت متزامنة مع سياسة ألمانيا التي تقضي بالحفاظ على سيادة السلطنة واستقلالها عن الأطماع الأوروبية في ممتلكاتها.
وبعد هذه الدراسة لعلاقة ألمانيا بالشرق قبل الحرب العالمية الأولى ينتقل المؤلف ـ في القسم الرابع والأخير من الكتاب ـ إلى الحديث عن ما شهدته الحقبة التاريخية بعد الحرب العالمية الثانية. وبالقراءة المتأنية، نلاحظ أنَّ الأستاذ الدكتور سنّو قد اغفل ـ إلى حدٍ ما ـ الحديث عن الفترة الزمنية الواقعة بين الحربين. غير أنَّ ما يحسب له ـ بكثير من التقدير ـ أنَّه استطاع أن يشرّح ـ بدقة تتصف بالعمق وبالموضوعية ـ ما مرت به علاقة ألمانيا بشطريها الغربي والشرقي مع إسرائيل والدول العربية من ثنائية اكتنفها كثير من الغموض، وذلك فيما يتصل بالكيفية التي بنيت على أساسها تلك العلاقات. وفي حديثه ذاك، أبرز حرص الدول العربية على اغتنام فرصة الصراع بين الألمانيتين لتتمكن من اجتذاب ألمانيا الشرقية إلى جانبها والتحالف معها في مناصرة قضاياها بشكلٍ عام . وقد أرادت الدول العربية بهذا الموقف أن تردَّ على موقف ألمانيا الغربية الذي خضع للضغوط الأميركية، ولكلِ ما لعبته إسرائيل من دور تّمثل في ابتزاز ألمانيا تحت تأثير تلك الأسطوانة المشروخة المتمثّلة في ما يتردّد عن “المحرقة النازية” التي زعموا فيها أنَّ الألمان أحرقوا بالغاز أكثر من سته ملايين يهودي. وهكذا، تغيّر كلّ شئ بعد أن كانت العلاقة العربية مع ألمانيا الغربية ـ على كلّ الصعد ـ تسير على خير ما يرام .
وفي حديثه عن العلاقة المصرية الألمانية، أوضح الأستاذ الدكتور عبدالرؤوف سنّو أنَّ مصر قد تعاملت ـ في البدء مع موقف ألمانيا الغربية من إسرائيل ـ بواقعية مردها إلى أنّ ألمانيا الاتحادية كانت تسهم في دعمها بمساعدات تنموية تمثّلت في العديد من الهبات في مجالات مختلفة، كالصناعة والبعثات الفنية. وعلى الرغم من أنَّ مصر ظلت على علم بما كان يربط ألمانيا الاتحادية وإسرائيل من تعاون عسكري، فإنَّ الرئيس جمال عبد الناصر قد فضل أن يغض الطرف عن ذلك التعاون وآثر أن يكتفي بالاحتجاج الدبلوماسي، لأنَّه كان يرغب في إبعاد الحديث عن صفقات الأسلحة ـ في إطار ذلك التعاون ـ بعيدا عن متناول الرأي العام العربي، لأنَّ الرجل كان على وعي تام وإدراك واضح أنَّه لن يستطيع أن يستبدل بألمانيا الاتحادية ألمانيا الديمقراطية في تمويل مشاريعه المصرية وخططه التنموية، هذا فضلاً عن أنَّ ما تتميّز به ألمانيا الغربية من خبرات علمية يـُغري بالإبقاء على العلاقة معها ولو على مضض. وعلى الصعيد التجاري، يستطيع الرئيس جمال عبد الناصر أن يقنع نفسه بسلامة موقفه حين يتذكر أنَّ ألمانيا الشرقية لن تستطيع شراء القطن المصري، ومن ثم يكون مبرّر الاحتفاظ بالعلاقة مع غرب ألمانيا أكثر فائدة من المجازفة بالتخلي عنها. أما إسرائيل، فقد عملت ـ بكلّ ما تمتلكه من وسائل ـ على تدمير هذه العلاقة؛ فذهبت إلى حدّ اغتيال بعض علماء الصواريخ الألمان العاملين في مصر.
ثم اخذ مؤلف الكتاب يسرد موقف حكومة غرب ألمانيا من حكومة الجانب الشرقي؛ فذكر أنَّ الألمان في الغرب قد عملوا على عزل أخوانهم ـ في الشرق ـ عن العالم. يُضاف إلى ذلك، أنَّهم قد جعلوا من حكومتهم خليفة “الرايخ الثالث”. ولتحقيق ذلك، اعتمدوا مبدأ “هالشتاين” الذي يقضي بقطع العلاقة الدبلوماسية مع أي دولة تعترف بحكومة برلين الشرقية. وقد ترتب على ذلك ما شهده الوطن العربي من صراع لم يكن له من سبب سوى أنَّ المنطقة العربية كانت أهمّ ميدان لتطبيق ذلك المبداء الألماني الشهير. أما ألمانيا الشرقية، فقد سعت جاهدة إلى إجهاض هذا المبدأ؛ فاعتمدت في ذلك على موقف تمثّل في تقديم أسلحة لإسرائيل، كانت عبارة عن مجموعة دبابات من طراز (أم 48). وقد نتج عن ذلك زيارة قام بها رئيس ألمانيا الشرقية ﭭالتر أولبرشت لمصر عام 1965. لكنه لم يتمكن من زيارة كلٍّ من دولتي سوريا ولبنان اللتين اعتذرتا عن استقباله، وبرّرتا ذلك الاعتذار بذرائع لم تكن سوى ستار يـُخفي ميلهما إلى التمسك بالعلاقة مع غرب ألمانيا لما لذلك من فوائد لا يستطيع الشرق الألماني أن ينهض بعبء القيام بها على الإطلاق.
وبالعودة إلى الحديث عن زيارة رئيس ألمانيا الشرقية إلى مصر، يـُشير مؤلف الكتاب إلى أنَّ ألمانيا الغربية قد ردّت على الموقف المصري بإقامة علاقات دبلوماسية مع إسرائيل. وبالمقابل، أعلنت القاهرة عن قطع علاقتها الدبلوماسية مع بون. غير أنَّ علاقة مصر الاقتصادية والتجارية ظلت تميل إلى الغرب الألماني أكثر من ميلها إلى الشرق الذي لم يكن بمقدوره ـ بالنظر إلى إمكانياته المتواضعة ـ أن يجاري أهله في الغرب، أو يبارزهم على الميدان المصري بأي حال من الأحوال.
وقبل ستينيات القرن العشرين، ظلّت العلاقات بين ألمانيا الاتحادية والدول العربية ترتكز على قاعدة توازن دقيق تمثّلت في عدم إقدام حكومة بون على إقامة علاقات دبلوماسية مع تلّ أبيب، خشية أن يردّ العرب على ذلك بالاعتراف بألمانيا الديمقراطية، وإذا ما تم ذلك، فإنَّ ألمانيا الغربية ستنظر إليه على أساس أنَّه اعتراف بواقع لا مناص من التسليم به، وهو أنّ ألأرض الألمانية قد باتت تحتضن دولتين، إحداهما في الشرق والثانية في الغرب ، أما الدول العربية فقد أدركت أنَّها لا تستطيع أن تُـقدم على إقامة علاقات دبلوماسية مع ألمانيا الديمقراطية، لأنَّها تعلم أنَّ مثل هذا القرار سيعرّضها إلى موقف يجعل ألمانيا الغربية تطبق عليها مبدأ (هالشتاين)، الذي جعل منه حكام بون سوطاً مسلطا على كلِّ الدول العربية بشكلٍ خاص ودول العالم الثالث بشكلٍ عام. ومن ثم فإنَّ أيّة دولة ستقيم علاقات دبلوماسية مع ألمانيا الديمقراطية لا بد أن تعلم بأنَّها ستخسر ما كانت تحصل عليه من مساعدات تنموية.
وبالمقابل، فإنَّ الدول العربية قد ردّت على “مبدأ هالشتاين”، بمبدأ مضاد قام على أساس التلويح بالاعتراف بألمانيا الديمقراطية إذا ما أقدمت بون على إقامة العلاقات الدبلوماسية مع تلّ أبيب. وعلى هذا النحو، فقد حرص كلُّ فريق على الحفاظ على شعرة معاوية مع الفريق الثاني. ومن ثم فقد شهدت العلاقات بين الدول العربية وألمانيا الاتحادية نوعاً من “التوازن”، وإن شئت فقل شبه تفاهم غير معلن استمرّ حتى منتصف الستينيات، فلا بون أقامت علاقات دبلوماسية مع إسرائيل خشية اعتراف العرب ببرلين (الشرقية)، ولا الدول العربية أقدمت على الاعتراف بألمانيا الديمقراطية، كي لا تردّ بون على ذلك بالاعتراف بتلّ أبيب تطبيقا لمبدأ “هالشتاين”.
وتحت مظلّة هذا “التفاهم” غير المعلن، استطاعت ألمانيا الاتحادية أن تطوّر علاقتها مع إسرائيل؛ فعوضتها عن ما عـُرف بجرائم النازية، بأن مدّتها بالأسلحة، من دون الحاجة إلى الاعتراف بها. وبالمقابل، انحصرت العلاقات بين الدول العربية وألمانيا الديمقراطية في نطاق ضيق لم يتجاوز العلاقات التجارية والتبادل القنصلي، بعيداً عن أي تفكير يؤدّي إلى إقامة علاقات دبلوماسية بين الجانبين. وبسبب دخول كلّ من إسرائيل وألمانيا الديمقراطية على خطّ العلاقات بين الدول العربية وألمانيا الاتحادية، انتهى ذلك التفاهم و لم يستمرّ طويلاً. فقد كان من مصلحة الدولتين المذكورتين اللتين لم ترتبطا بعلاقات دبلوماسية أن يجري تعكير صفو العلاقات بين العرب وألمانيا الاتحادية. ومن أجل تحقيق هذا الهدف، تـناستا خلافات الماضي، وذهبت كلٌّ منهما إلى البحث عن حاجات الحاضر ومصالحه. فكانت إسرائيل تريد إحداث قطيعة كاملة بين القاهرة وبون من جهة، ومن جهة أخرى كانت تطمع في الحصول على اعتراف ألمانيا الاتحادية بها. وفي الوقت نفسه كانت ألمانيا الشرقية ـ بالمقابل ـ تسعى إلى بلوغ هدف تمثل في اعتراف الدول العربية بها.
ويسترسل الأستاذ الدكتور عبدالرؤوف سنّو ـ في حديثه عن علاقات ألمانيا الغربية بإسرائيل ـ فيشير إلى أنَّ التعويضات التي تقدّمها الأولى للثانية بما في ذلك إمدادها بالأسلحة، وأخيراً إقامة علاقات دبلوماسية معها، كلّ ذلك يجب أن يُنظر إليه في إطار المبادئ الرئيسية التي حكّمت سياسة ألمانيا الاتحادية، وهي الاندماج في الغرب واستعادة سيادتها التي اعتمدت ذلك الاندماج وإعادة توحيد شطريّ البلاد.
وعلى الرغم من أنَّ تلك المبادئ كلّها تمثّل أولويات غاية في الأهمية، فإنَّ أهمها مبدأ الاندماج في الغرب. ولهذا، فقد كانت المصالحة “مع الماضي” (مثل ما عـُرف بجرائم ألمانيا النازية ضد اليهود) إحدى أولويات هذا الاندماج. يُضاف إلى ذلك، أنَّ حكومة بون قد رأت في غضّها الطرف عن نشاط علمائها في صناعة الصواريخ في مصر، والمساعدات الاقتصادية التي كانت تقدّمها إلى تلك الدولة، تسوية يمكن أن تُرضي القاهرة لقاء ما تقدمه بون لإسرائيل من أسلحة وعتاد. ففي مايو 1964،ـ و قبل أن تتداول وسائل الأعلام الدولية مسألة صفقات الأسلحة الألمانية إلى إسرائيل ـ، بعث ﭬيبر، سفير ألمانيا الاتحادية في القاهرة، إلى وزارة الخارجية في بلده، يقول فيها إنّ شخصيّات مصرية رفيعة قد أبلغته بعدم معارضتها للعلاقات بين بون وتلّ أبيب، شريطة أن تستمر الحكومة الألمانية في غضّ طرفها وسكوتها عن نشاطات خبراء الصواريخ من رعاياها في مصر.
وفي عام 1965 شهد العالم السياسي أزمة في العلاقات بين الدول العربية وبون. وقد كشفت تلك الأزمة أنّ الدول العربية لم تكن تفكّر في الاعتراف بألمانيا الديمقراطية، أو حتى تتجرأ أن تلوّح بالإقدام على تنفيذ تلك الخطوة. ولعلَّ مرد ذلك يكمن في أنَّ التبعية الاقتصادية العربية لم تخرج عن مظلّة ألمانيا الاتحادية. وهكذا تبيَّن أنَّ مبدأ (هالشتاين) ـ في صيغته “العربية” ـ لم يكن سوى سلاح وهميّ ومناورة سياسية كان العرب يعتقدون أنَّهم يستطيعون أن يلوّحوا بها في وجه ألمانيا الاتحادية . وعلى أساس من تلك التبعية الاقتصادية العربية، كانت دوائر الخارجية في بون تتوقّع أن تعود تلك الدول عن قرار قطع العلاقات معها في خريف عام 1965 أو مطلع عام 1966 على أبعد تقدير. لكنّ الحرب العربية – الإسرائيلية عام 1967، حالت دون تحقيق ذلك. وباستثناء استدعاء السفراء من كلا الجانبين ـ عام 1965ـ، لم تتأثّر الجوانب الأخرى للعلاقات بين الدول العربية وألمانيا الاتحادية. بما في ذلك مصر ـ التي سبق لها أن قادت العرب في المواجهة مع بون ـ لم تكن تريد الاستغناء عن الدعم الاقتصادي لتلك الدولة، على الرغم من أنَّها قد ركنت إلى اعتمادها ـ بشكلٍ رئيس ـ على موسكو ولا سيما بعد هزيمتها على يد إسرائيل سنة 1967.
إنَّ اعتراف خمس دول عربية ـ وهي مصر وسوريا والعراق والسودان واليمن الجنوبية بألمانيا الديمقراطية عام 1969ـ ، قد انسجم مع المتغيّرات التي طرأت على سياسة ألمانيا الاتحادية تجاه جارتها الديمقراطية تلك التغيرات التي أدّت إلى التقرّب من دولة شرق ألمانيا ولكن ليس إلى درجة الاعتراف بها.
وبالعودة إلى تأمل تلك المتغيّرات، نجد أنَّها قد شملت أموراً كثيرة، منها ما أقدمت عليه ألمانيا الغربية عام 1968 من تنفيذ سياسة إعادة علاقاتها الدبلوماسية المقطوعة مع يوغسلافيا منذ عام 1957، ردّاً على اعتراف تلك الدولة ببرلين (الشرقية) حينذاك، وقد تبيّن أنَّ في إعادة العلاقة بين الدولتين حدثا يـُشير إلى أنَّ ألمانيا الغربية ستتصرّف في المستقبل بشكلٍ يخالف ما جرت عليه سياستها في الماضي تجاه الدول التي تعترف بألمانيا الديمقراطية. وبذلك تكون قد أجهزت على ما كان يـُعرف “بمبدأ هالشتاين”. وهكذا، وجدت الدول العربية “التقدمية” الباب مفتوحاً أمامها لإقامة علاقات دبلوماسية مع برلين (الشرقية) من دون أن تخشى أي ردّة فعل من بون تعبّر بها عن امتعاضها من مثل هذا الفعل الذي كان في الماضي يمثّل خطّاً أحمر. وبالمقابل، فإنَّ ما اتخذته حكومة (براندات/ شيل) من سياسة شرق أوسطية “متوازنة” تجاه الصراع العربي- الإسرائيلي، قد فتح الباب أمام إعادة العلاقات الدبلوماسية بين العرب وبون إلى ما كانت عليه في مسارها الطبيعي قبل حدوث تلك التغيّرات.
وبعد أن ألغت ألمانيا الاتحادية مبدأ “هالشتاين”، سار لبنان ـ شأنه شأن أشقاءه العرب ـ في انتهاج سياسة متوازنة تجاه الألمان؛ فعمل على إيجاد انفتاح تجاري مع ألمانيا الشرقية، ولم يتجاوز ذلك إلى غيره من مجالات العلاقات الثقافية أو غيرها. وقد حرص اللبنانيون على أن يتأكدوا بأنَّ انفتاحهم التجاري مع شرق ألمانيا لن يتناقض مع مصالحهم في الإبقاء على تواصل قوي مع الغرب. و من ثم، فلم يتمّ التبادل الدبلوماسي مع الشرقيين إلاّ سنة 1972، وهي السنة نفسها التي عاد فيها لبنان عن قطع علاقاته مع ألمانيا الغربية إرضاء للرئيس جمال عبد الناصر.
وتخليداً لذكرى أستاذه الراحل عالم الإسلاميات الألماني “فريتس شتبات” (Fritz Steppat (1923-2006 كرّس الأستاذ الدكتور عبدالرؤوف سنّو الفصل الأخير من كتابه ـ مَدار العرض ـ لإبراز ما قدّمه هذا العالِم للحضارة الإسلامية، من دراسات موضوعية علمية نزيهة بعيدة عن التعصّب والانفعال والأحكام المسبقة. وقد تناول المؤلف منهج ذلك المستشرق الذي اعتمده في دراساته التي أبرزت مواقفه من قضايا الإسلام بشكلٍ عام والقضايا العربية المصيرية بشكلٍ خاص، ومنها قضايا من مثل قضية فلسطين، والقومية العربية والصراع الصهيوني، والثورة الناصرية وغيرها. وفي ذلك يقول الأستاذ سنّو: (“لا يمكننا أن نفصل شتبات العالِم عن شتبات الإنسان، فكلاهما متلازمان ومتمّمان لبعضهما بعضاً”). لقد كان شتبات وما يزال مخلصاً للعلم والإنسانية ووفيّاً لهما. وفي الوقت نفسه، فإنَّ الرجل مسيحي متسامح أخذه تسامحه وقادته موضوعيته إلى أن يقرّر أنَّ الإسلام يعدُ شريكاُ لأوروبا النصرانية، لا عدواً لها.
وعلى مدى نصف قرن، عمل العالِم شتبات بشجاعة نادرة على تقوية مفهوم التسامح؛ فكان مفسّراً للإسلام ورسولاً بينه وبين أوروبا المسيّحية، ومن ثم فلم يخش من أن يـُعلن بأنّ الإسلام دين تسامح ومحبّة، رافضاً كلّ التحامل عليه وعلى المسلمين. وقد دافع عن النبيّ محمد ـ (صلى الله عليه وسلم) ـ ضدّ كلّ الحملات التي أرادت الحطّ من قدره وقدسيته وتشويه سمعته، ولم يعتقد يوماً أنّ الإسلام، وحتى الأصولية الإسلامية، يشكّلان خطراً على العالم المسيحيّ.
وفي أوج الهجمة على الإسلام خلال الثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضي، ـ تلك الهجمات التي سبقت حادثة 11 سبتمبر 2011ـ توقّع شتبات ـ برؤيته العلميّة ـ أن يأتي اليوم الذي يتحوّل الغرب فيه إلى عدوٍ للإسلام،ـ وخاصّة بعد سقوط الاتحاد السوفيتي، والترويج لنظريّة “صراع الحضارات” بين الإسلام والمسيحية ـ فحذّر مجتمعه الأوروبيّ والساسة الأوروبيين من مغبة الوقوع في فخّ هذه المقولة، وطالبهم بالتعرّف إلى أسباب نمو الأصوليّة في المجتمعات الإسلاميّة. وقد أوجز تلك الأسباب، وعاد بها إلى العوامل السياسية والاقتصادية والاجتماعية الداخلية. ثم أشار إلى شعور المسلمين بأنّ الغرب المسيحيّ يهدّدهم، وأنّهم يعيشون في نظام دوليّ قاهر وظالم يعمل على دعم أنظمة عربيّة وإسلاميّة فاسدة تمثّل مصالحه.
وبموضوعية علمية تـُحمد له، أنتقد العالم الألماني شتبات سياسة الغرب في “الكيل بمكيالين”، مستدلاً على ذلك بانحياز الولايات المتحدة إلى جانب إسرائيل من جهة، وتناسى الغرب القضية الفلسطينيّة، بما في ذلك تجاهل حقوق هذا الشعب من جهة أخرى. وتأسيساً على ذلك، أنتقد بشدّة ما سماه حلّ المسألة اليهوديّة في أوروبا على حساب العرب الفلسطينيّين الذين لا علاقة لهم بما تعرّض له اليهود في المجتمعات الأوروبيّة. وبالمنهج الموضوعي نفسه، انتقد سياسة إسرائيل في رفضها السلام مع العرب عامي 1956 و1967، وقيامها بمشاريع تهويد الأراضي العربيّة الفلسطينيّة عبر إنشاء المستوطنات. وبالمقابل، فقد أخذ على عبد الناصر تورّطه في حرب عام (1967) إذ إنَّها فرضت عليه ولم يكن مستعدّاً لها؛ ثم إنَّها لم تكن في حسبانه ولا في دائرة رغبته.
ويختم الأستاذ الدكتور عبدالرؤوف سنّو حديثه عن عالم الإسلاميات الألماني شتبات، مشيداً بمواقفه تجاه كلّ الموضوعات الإسلاميّة والعربيّة التي كرّس لدراستها حياته بشجاعة واضحة وصفات نادرة قلّ أن نراها مجسّدة في إنسان واحد.
لقد كان شتبات يتمتّع بصفات علمية متميزة بالموضوعيّة والليبراليّة. وكما أشرنا، فقد كان ذلك العالِم يدين بمسيحيّة متسامحة، ويتمتع بإنسانيّة منفتحة، جعلته ينسجم مع ذاته، وبذلك كلّه استطاع أن يقدم نفسه بحقٍّ على أنَّه عالِم الإسلاميّات الشهير فريتس شتبات، صديق الإنسانيّة والعرب والمسلمين.
وبنهاية الحديث ـ عن العالم شتبات ـ انتهى الكتاب ليتوقف بالسرد والتحليل عند عام 1972م. ولنا وطيد الأمل في أن يعمل المؤلف على تقسيم هذا السِفر إلى أجزاء تمثّل موسوعة متميزة عن العلاقات بين الإسلام وألمانيا؛ وكم سيكتسب هذا المؤلَّف الأكاديمي قيمة جديدة حين يعمل كاتبه الأستاذ الدكتور عبدالرؤوف سنّو على أن يستكمل فيه ما تبقى من عقود تاريخية تلي عام 1972 وبذلك يكون قد أوجد شاهداً على كلِّ ما حدث ـ للعلاقات الألمانية الإسلامية ـ من تطوّرات وتغيّرات حتى نهاية القرن العشرين. وبذلك، تمتلك المكتبة العربية تحفةً علميةً موسوعيةً عن العلاقات التي تجاهلها الكثير من الباحثين، ونعني بها علاقات الإمبراطورية الألمانية بالإسلام.
أما على صعيد منهجية الكتاب، فمن الثابت لدى المشتغلين بالبحث العلمي الأكاديمي، أنّها تقوم على مجموعة مقاييس معيارية لابدّ من توفرها في أي بحث يندرج تحت مفهوم الإنتاج العلمي ليكتمل بها بنيان الموضوع المراد معالجته، ومن تلك المقاييس تقميش العلوم الموصلة، والنقد، والعدالة، والضبط، وتركيب الصيغة العامة، والعرض التاريخي .
وإذا عرضنا الكتاب على مثل هذه المعايير ، فسوف نستطيع أن نصل إلى نتيجة تؤكد أنَّ الأستاذ الدكتور الباحث /عبدالرؤوف سنّو قد قمّش معلوماته خير تقميش، معتمدا على الوثائق الألمانية، واستطاع أن يستخدمها بكلّ هذه الدقّة، والإحاطة لأول مرّة في الأبحاث العربية. وبالإضافة إلى ذلك فقد أحاط ـ بشكلٍ جيد ـ بالمصادر والمراجع المنشورة وغير المنشورة، سوأ أكانت عربية أم ألمانية أم انكليزية. ثم إنَّه يحسب للمؤلف ما قام به من عملٍ استخدم فيه لوحات إحصائية يوضح بها معلوماته. وبذلك، يكون قد قدم دراسة تعدُّ واحدة من الدراسات الجديدة التي تتقاطع فيها الثقافة مع كلٍّ من الاقتصاد والاجتماع، فأحاط إحاطة شاملة بموضوعه الذي لم يأت مجرد سرد لمعلومات منسّقة، بل إنَّ الرجل قد تمكن من إنجاز عمل علمي عميق في تحليله، وباجتهاده ساق مؤلف الكتاب مَدار العرض معلوماته بطريقة متسلسلة منطقية هادفة، مقدّماً رؤى بعيدةً البعد عن الأحكام المسبقة والعواطف السياسية التي لا تسمن ولا تـُغني من جوع.
*******
([1]) عبدالرؤوف سنّو، ألمانيا والإسلام في القرنين التاسع عشر والعشرين، بيروت: دار الفرات للنشر 2007.
(*) عبدالله محمد ناجي دوّام العرشي باحث يمني يعمل مدرس للتاريخ الحديث والمعاصر بكلية الآداب-جامعة صنعاء حصل على الماجستير في تاريخ أوروبا الحديث والمعاصر بتقدير ممتاز من كلية الآداب جامعة القاهرة في رسالته بعنوان: “سياسة بريطانيا تجاه تنامي القوة البحرية الألمانية 1888-1914” تحت إشراف الأستاذ الدكتور/ وجيه عبد الصادق عتيق أستاذ التاريخ الحديث والمعاصر بكلية الآداب جامعة القاهرة.
([2]) عبدالرؤوف سنّو، النزعات الكيانية الإسلامية في الدولة العثمانية 1877- 1881 (بلاد الشام، الحجاز، كردستان، ألبانيا)، بيروت: دار بيسان للنشر، 1998.
([3]) عبدالرؤوف سنّو، الدبلوماسية الألمانية ومشروع إحياء الجامعة الإسلامية بين السلطنة العثمانية والمغرب الأقصى (1870 ـ 1890)، في: “حوليات” 6(1992/1993).
([4]) عبدالرؤوف سنّو، حرب لبنان: تفكك الدولة وتصدع المجتمع، مجلد 1: مفارقات السياسة والنزاعات المسلحة والتسوية: مجلد 2: التحولات في البنى الاجتماعية والاقتصادية والمعرفية، الدار العربية للعلوم ناشرون، بيروت 2008. وهذا الكتاب هو الذي فاز الأستاذ الدكتور عبدالرؤوف سنّو عنه بجائزة الشيخ زايد للكتاب للعام 2010-2011 فرع التنمية وبناء الدولة، وذلك لما امتاز به الكتاب من توثيق دقيق للمرحلة التاريخية التي تناولها بالدراسه، والتي تمتد من عام 1975 إلى عام 1990 ، ولما عرضه من تشخيص علمي دقيق يكشف الأسباب العميقة لتفكك بُنى الدولة بفعل آثار التمزق الإجتماعي، وما يتبعه من انحلال التركيبة الاقتصادية والثقافية.
http://abdullahdawam.blogspot.com/