كتاب مرجعي لا غنى عنه لمشروع قانون انتخابي بحجم وطن
د. طوني عطاالله
(عميد المعهد العالي للدكتوراه في الحقوق والعلوم السياسية والإدارية والاقتصادية في الجامعة اللبنانية)
كتاب الدكتور انطوان ساروفيم حول “وظيفة الانتخابات النيابية في لبنان” ليس كتابه الأول ولا بحثه الأول. إنه آخر مولود بحثي له، ولن يكون الأخير، لكنه الأغنى والأكثر عمقًا والأمتع في القراءة. يتميز الكتاب بمزايا عدة في مقاربة مفاهيم الانتخابات وعلاقتها بالديمقراطية والإرادة الشعبية يمكن ان استخلص منها المبادئ المنهجية التي سيّرت عمل الباحث وهي:
1. بساطة التعابير وعمقها:ليس التعبير عند انطوان ساروفيم من النوع الذي يحتاج إلى فك طلاسمه. انه تعبير عفوي يتميز بالبساطة والعمق، ويكشف خبرة صاحبه وإلمامه بالمواضيع التي يعالجها. لا تستأذنك أفكاره للدخول إلى ذهنك وتكوين القناعة بصحتها والدروس المستفادة منها، لا بل تتسلل إلى القارئ لتعود به إلى أصالة المفاهيم ونقاوتها وسط التلوث الذي يصيبها في عالم اليوم.
2. الواقعية:لا يضلل الكاتب نفسه ولا يضلل القارئ، بل يتعامل مع المفاهيم بواقعية الناقد من دون أي وهم بالجمهورية الفاضلة أو المثلى. لا يبني أنطوان ساروفيم برجًا عاجيًا للديمقراطية، ولا ينسب إليها نعوتًا برّاقة، بل يشرحها بحكمة الكبار وبثورية الشباب. لقد أدرك ان مصطلح ديمقراطية بقدر ما يحمل من مبادئ سامية، بنفس القدر وأكثر يحمل مخاطر الاستغلال والتلاعب به. وقد وصف المؤلف حال التلاعب بالديمقراطية سواء في الغرب أو في الشرق حيث لكلٍ منهما طريقته. وتحدث عن “إنفصال الانتخابات عن مفهومها الصحيح” (ص 15). وإذ تُطل مقدمة الكتاب على تشخيص الواقع اللبناني بغناه وآلامه، فإنها تضع القارئ في أجواء الخيبات المريرة والاحباطات الكبرى الذي منيت بها الفئات الشعبية جراء السياسات المنتهجة حيث اللاعبون هم النخبة المتلاعِبة، وحيث الجسم الناخب هم المتلاعَبِ بهم. يقول ساروفيم: “الجماهير غير قادرة بحكم تركيبتها على فهم مصالحها، فهي تتوهم انها صانعة النخب، ولكنها مصنوعة من النخب عينها” (ص 28).
3. الأسلوب التصويري في الكتابة:يفتح الأسلوب الكتابي المستعمل في صياغة الكتاب، يفتح المخيلة على صور ومشاهد من الانتخابات- المسرحية. ينطلق الفصل الأول من عبارة مأثورة لـ إميل دو سانت سانتوري يقول فيها: “يضع الآخرون ورقة الاقتراع في يدي، وأُقتاد صاغرًا إلى صندوقة الاقتراع، فأُدلي بصوتهم. وأنا لا صوت لي…” (ص 17). لا تقتصر صورة الوصف هنا على الغباء الفطري وسذاجة “الرعايا” بالمعنى النقيض للوعي المواطني، بل يفتح الوصف إياه على صور وإيحاءات ومشاهد مما يحصل في انتخاباتنا اللبنانية حيث يستقبل مندوبو اللوائح الناخبين ولاسيما كبار السن، يواكبوهم داخل أقلام الاقتراع، يفتشونهم ويسحبون منهم اللوائح التي كانوا وضعوها في حوزتهم، فيتم استبدالها بلوائح أولياء نعمة المندوبين، وكل ذلك على مرأى من القوى الأمنية، ومن دون ان تحرّك ساكن.
4. كتاب القيمة المضافة:لا يكتفي انطوان ساروفيم في الكتاب باستعراض آراء المفكرين والفلاسفة وعلماء الاجتماع في التعريفات التي اعطوها للعديد من المفاهيم اللصيقة مثل الانتخاب والسلوك الانتخابي والمشاركة والارادة الشعبية والتمثيل النيابي والنظام السياسي… والتطور الذي طرأ عليها منذ قيام النظام الفردي مرورًا بدولة الرعاية ووصولاً إلى عصر العولمة، لكنه في ختام العرض ينطلق بالتحليل والاستنتاج من اجل استنباض تعريفه الذاتي وأدواته المفاهيمية المتضمنة قيمة علمية مضافة. ويعتبر ان “الانتخاب خرج من نطاقه التاريخي وأصبح مجرّد سلوك يقوم بوظيفة كانت في الماضي وظيفته. وهكذا صار المواطنون يذهبون إلى صناديق الاقتراع مدفوعين، هذه المرة، بمؤثرات إعلامية خارقة، قائمة على خلق “عدو وهمي”، فيُنتخب رجالات صُنعوا في الخارج، يمكن للحكومات العالمية ان تبقيهم أو تعزلهم وفق نزاوتها، أو ان تقبل ادوارهم وفق رغباتها هي” (ص 59).
5. الدور المحوري للمال والرعاية الخارجية: يُسلط الفصل الثاني على دور المال والنفوذ الخارجي في الانتخابات اللبنانية منذ أيام الانتداب الفرنسي حتى يومنا هذا. يورد الكتاب قولاً مترجمًا من صحيفة Le Figaroوفيه العبارة الساخرة الآتية: “فرنسا تشتري الولاء لها عبر بيعها النيابة والكراسي لمن تريد. كم هي رخصية هذه الحفنة من الرجال…” (عدد 13 تشرين الأول 1925). ثم يشرح الكاتب كيف ان اللبنانيين، بإتجاهاتهم السياسية والطائفية كافةً، وقعوا خلال مرحلة أفول النفوذ العثماني عن بلادهم، أسرى التجاذبات السياسية بين الدول الكبرى لاسيما فرنسا وبريطانيا، وبدل ان يستقلوا تعبيرًا عن الإرادة الوطنية الشعبية، دخلوا عهد الانتداب الفرنسي. وعبّرت جريدة “الأهرام” عما آل إليه الوضع اللبناني وكتبت: “يحكم الفرنسيون لبنان من خلال صراعات اللبنانيين”. وعلى مدى عقدين ونيّف، لم ينفخ الانتداب في البنية اللبنانية السياسية والمجتمعية سمات الديمقراطية التي عرفتها فرنسا.
6. الكتاب يروي ويُحلل محطات هامة في تاريخ لبنان السياسي:ليس فقط خلال عهد الانتداب، وإنما خلال مرحلة الاستقلال وما بعده. ويصف انتخابات 1947 الشهيرة في التزوير والغش الانتخابي بأنها “مزّقت بكارة العفّة الديمقراطية اللبنانية” وخسر اللبنانيون معها رهانهم على الديمقراطية. ويصل الفصل الرابع إلى انتخابات الوصاية السورية التي يصفها المؤلف بدقة بأنها مرحلة: “قضم منظم، ومنظِّم قاضم” حيث تعامل السوريون مع لبنان “بمثابة مشروع استثماري يستغلون ثرواته، ويهزأون من نظامه. يريدونه سوقًا حرة، لنظام مجرّد من الحرية. وكاد الوطن الصغير ان يقع”. ويحلل الكاتب مختلف المراحل الانتخابية في لبنان بطريقة شيّقة، يتوقف عند القوانين المسخ وتعيين النواب والنتائج المعروفة سلفًا وسقوط الديمقراطية عامةً، فيأخذ الكاتب من كل مرحلة زبدة الزبدة من العبر والخلاصات المفيدة بما يجعل الكتاب مرجعًا لا غنى عنه لكل المهتمين بالشؤون اللبنانية الوطنية والسياسية والانتخابية والتاريخية والاحتماعية وغيرهم.
كتاب أنطوان ساروفيم رغم اني اعتبره بأنه يحمل مسحة تشاؤمية حول تلمس الديمقراطية طريقها في معارج لبنان الصعبة، إلا انه يشكّل شهادة حية اليمة، ولكنها ترسم طريق الخلاص. إنه شهادة قد تكون فاعلة آنيًا ومستقبليًا، إذا أُحسنت قراءاته من النخبة الحاكمة والإفادة منه. والكتاب حتماً واعد للمستقبل. انه المشروع الأول للبيان الوزراي: انتخابات حرة ونزيهة تعيد للسياسة في لبنان رونقها وحيويتها، وتعيد للوطن دوره ورسالته لارساء قواعد خلقية وبراغماتية في إدارة الشأن العام من زاوية المواطن الفاعل، المشارك، المعني والمسؤول. وكل سياسة لا تطرح القضايا – كل القضايا – وتعالجها من زاوية المواطن هي علاقات نفوذ وتشكّل خطراً عاماً. ولقد حان الوقت لوقف تشويه المفهوم الانتخابي الذي ضرب مبدأ المواطنة، وحان الوقت لتعزيز ثقة المواطن بقدراته وارادته الحرة.
*****
(*) ألقيت في الندوة التي أقيمت حول الكتاب في الحركة الثقافية- أنطلياس في 12-12- 2016