سلمان زين الدين
(أديب وشاغر- لبنان)
“وعورة الماء” هي المجموعة الشعرية السادسة عشرة للشاعر اللبناني عمر شبلي، وحلقة جديدة في سلسلة نتاجه الأدبي التي أربت حلقاتها على الثلاثين حلقة حتى الآن، وتتوزّع على الشعر والنثر والترجمة والدراسة والكتابة المدرسية، وهو نتاج غني لا توازيه غنًى سوى تجربته الانسانية الموجعة التي يمثّلل السجن لعشرين عامًا في السجون الايرانية احدى علاماتها الفارقة.
الوجع الذي عاشه الشاعر لم يفتّ في عضده بل استطاع تحويله الى مصدر ابداع، فهو لم يتردَّ في مهاوي اليأس، ولم يفقد ثقته بالمستقبل، ولم يخسر ايمانه بحتميّة تحرّره من الأسر، الأمر الذي تحقّق له أواخر العام 2000. ان التجربة الغنيّة الموجعة التي عاشها عمر شبلي في السجن انخرط فيها مدفوعًا بمنطلقات قوميّة، غداة مشاركته في الحرب العراقيّة – الايرانيّة ما ادّى الى اعتقاله. على أنّ السجن لم يغيّر في اقتناعاته، فبقيت المنطلقات القوميّة حاضرة في قصائده، فيشغل الوطن والأمّة وما يتعلّق بهما حيّزًا كبيرًا في شعره، بالاضافة الى الحبيبة وأسئلة الانسان والهويّة والوجود والمصير، ممّا نقع عليه في “وعورة الماء”.
تتجلى شعرية العنوان في التضاد بين المضاف والمضاف اليه، والتجاور بين كلمة “وعورة” المنتمية الى الحقل المعجمي لليابسة، و”الماء”. فنسبة الوعورة الى الماء تمثّل انزياحًا عن المألوف. واذا كان العنوان يعكس قسوة الواقع ووعورته، فانّ المتن يمثّل ترجمة فعليّة للعنوان، والشاعر يصوّر الواقع القاسي، وآليّات المواجهة، ويعبّر عن ايمانه بحتميّة الانتصار.
على المستوى الشخصي، يبدو الشاعر في وضعيّة من تجرّع صروف الزمان وهو معلّقٌ بين السجن والانتظار: “أنا الذي صبّ الزمان بكأسه مثل الشرابْ/ عشرين عامًا خلف بابٍ موصَدٍ…/ عشرين عامًا أشتهي وجه الحبيبة خلف باب” (ص112). وعلى المستوى الوطني والقومي، يهوله جفاف الواقع العربي: “لم يبقَ من بردى/ سوى دمع المآذن يا دمشقُ/ وما بدجلة غير ما ترك المغول/ من الدماءْ” (ص106). ويهوله الاستبداد الذي يلقي بثقله على الناس، ويحصر اقامتهم بين السجون والقبور، فيسأل متداركًا: “لكن لماذا ليس يُسمَح فيك/ يا هذا الوطن/ الاّ الاقامة في السجونْ/ أو في القبورْ؟” (ص118). وتهوله الانقسامات المستشرية في جسد الوطن العربي، فأخوة يوسف يتآمرون عليه، وصقر قريش يُولّي هاربًا شطر الأندلس وقد قتل السلطان أخاه، ما يجعل الوطن مشروعًا مؤجّلاً دونه تضحيات وصعوبات جمّة.
يزاوج عمر شبلي بين التعبير المباشر الذي يسمّي الأشياء بأسمائها، والتعبير المداور الذي يتّخذ من التاريخ والرمز والأسطورة أدوات لتشخيص الحاضر، ويسقطها عليه، وهو كثيرًا ما يتقمّص شخصيّات تاريخيّة يُسند اليها الكلام باسمه، وباسم المواطن العربي، في احالة صريحة على أنّ التاريخ يعيش بيننا وان بوجهه السلبي، وهو يتقمّص شخصيّات الضحايا والمقهورين، في الماضي والحاضر، وينطق باسمهم. يمثّل التاريخ، والثقافة العربية، في بعدها التراثي، مصدرين مهمّين من مصادر الشعرية لدى عمر شبلي.
في مواجهة “وعورة الماء”، وقساوة الواقع، وظلمة السجن، يجترح الشاعر سبل المقاومة ما يبقيه على قيد الحياة والشعر والحريّة؛ فعلى المستوى الاجرائي، يقاوم بالشعر والقراءة والترجمة، وعلى المستوى المعنوي/ النفسي، يمثل حضور الوطن والحبيبة والايمان بعض مقوّمات صموده. السجن في مكان ناءٍ عن الوطن يُوري زناد الحنين اليه،
ويُذكي الشعور الوطني، الأمر الذي تعكسه “وعورة الماء” بشكل جليّ. ويتراوح حضور الوطن فيها بين التعلّق به، والتغنّي بأنهاره ومدنه، وتذكّر بعض مواقعه، والتماهي معه؛ فالتعلّق بالوطن يجعله يرى المتواضع فيه أجمل من العظيم خارجه: “والكوخ أجمل في الوطنْ/ من أيّ قصرٍ في الشتاتْ” (ص56)، والتغنّي بأنهاره يجعله يرى، بعيني صقر قريش، استمرارها في التدفّق: “وها بردى/ لم يزلْ/ يناولني ماءه الفراتْ/ سأشرب منه الى أن تعود دمشق/ وفي الأرض متّسعٌ للعناقْ!!”(ص57)، والتغنّي بمدنه يجعله يرصّع قصائده بأسماء دمشق وبغداد وقرطبة، واجابته عن موقع “وادي الحرير” القريب من قرية الشاعر يبيّن أنه يحمل الوطن في قلبه: “ويسألني صاحبي: أين “وادي الحرير”؟/ فقلتُ: استدرْ صوب قلبي/ تجدْ وطني” (ص101). وهو يتماهى مع هذا الوطن الذي يحتلّه في الحياة والموت: “وطني الذي يحتلّني/ يقسو وأعشقه وأحمله على الأمواج/ يبقى ما بقيتُ/ وانْ أمتْ فهو الكفنْ” (ص219).
يغدو الوطن في المجموعة موضع الحنين، ومكمن الجمال، والنهر، والمدينة، وساكن القلب، ومحتلّ الأنا الشاعرة، وموضوع العشق، والكفن. ولعلّ هذا الحضور المتعدّد، المتنوّع للوطن، هو ما شحذ قدرة الشاعر على الصمود في سجنه.
المقوّم الثاني من مقوّمات الصمود هو الحبيبة، ولئن كان حضورها ضئيلاً مقارنةً بحضور الوطن، فانّه، على ضآلته، كان فاعلاً في تعزيز صمود الشاعر، ومدّه بالدفء الروحي، وارشاده الى الطريق: “هناك، يا حبيبتي/ تأتين أنت، تحملين الدفء/ والطريق/ فألبس الدفء الذي جئت به/ من الوطنْ/ وألبس الرجوعْ” (ص80، 81). لكنّ ما يحزن الشاعر أنّ مجيء الحبيبة كان من غير صوت، فلم يكن يُسمَح لصوتها بالدخول: “كنتِ تجيئين، وكنتِ دائمًا/ تحكين، لكن لم أكن أسمع من صوتك غير الدمع والسكوتْ” (ص83)، “آه ما أقسى بقاء الصوت في الخارج/ يرجو/ حاملاً ما شاء من أمتعةٍ/ الاّ الدخولْ” (ص86). ومع هذا، انّ اشتهاءه وجهها شكّل عاملاً من عوامل صموده: “عشرين عامًا أشتهي وجه الحبيبة/ خلف بابْ” (ص112).
المقوّم الثالث من مقوّمات صمود الشاعر في سجنه هو ايمانه بحتميّة الحريّة، وهو ايمانٌ تعكسه عناوين بعض القصائد، من قبيل: “صرختي لن تنتهي”، “لا بدّ من نهاية الطريق”، “لا بدّ من المفتاح”، “لن نبقى في التيه”، و”قَدَرٌ عليك أن تجيء”، وغيرها. في هذا المعنى، يكون عمر شبلي شاعرًا تقدّميًّا، فهو، رغم المآسي التي عاشها شخصيًّا، وعاشها وطنه الكبير، لم يفقد الثقة بالمستقبل، ويؤمن بانبلاج الفجر، ذات ليل، وبالعودة الى الوطن، وهو ما تحقّق له. وهو يعبّر عن هذه الروحيّة العالية من خلال ايمانه بحتميّة الوصول: “لكنّني أريد أن أصل/ سوف أظلّ سائرًا/ حتى يضجّ الدرب من راحلتي/ لا بدّ من برق دمي/ فوق فم الحبيبة” (ص200)، ومن خلال ايمانه بحتميّة الخروج: “لكن لا بدّ من المفتاح/ مصنوعًا من جسد السفّاحْ” (ص204)، ومن خلال ايمانه بقدرة الصحراء على الانبات: “الرمل، وانْ يظمأ/ ينبت “سلماسٌ” فيه” (ص211)، ومن خلال ايمانه بوصول الوطن: “لكن برغم دمارنا ودماره/ لا بدّ أن يصل الوطنْ” (ص224)، ومن خلال ايمانه بظهور مهديٍّ منتظر. على أنّ اللافت في هذه التراكيب هو أنّها تبدأ بحرف الاستدراك “لكن” ما يعني أن الاستدراك هو على واقعٍ قاسٍ وماءٍ وعر، وهو مفتاح الأمل.
في الشكل، تتراوح قصائد “وعورة الماء” بين القصيدة العموديّة في ستَّ عشرة قصيدة، وقصيدة التفعيلة في تسعِ وستّين قصيدة، أي أنّ هذه الأخيرة تشغل نسبة 81 في المئة من قصائد المجموعة. وقد تتعدّد الأصوات داخل القصيدة الواحدة، في حوار، غالبًا ما يكون الشاعر أحد طرفيه، فيحاور الطفل الغريق ايلان الكردي، وصقر قريش، والحبيبة، والمحقّق، وغيرهم. وقد يجعل للقصيدة اطارًا سرديًّا يثير فضول المتلقّي، ويتناغم في الوقت نفسه مع الشعر، فتدخل القصيدة في جدليّة السرد/ الشعر، أو السرد/ الحوار. وقد تتكرّر بعض الجمل في القصيدة كلازمة تُشكّل سلكًا ينتظم القصيدة، وربّ جملة تتكرّر حرفيًّا أو معدّلة في غير قصيدة. وقد يتكرّر المقطع نفسه في قصيدتين اثنتين، وهذا ان دلّ على شيء، فانّما يدلّ على وحدة الحال الشعرية التي يعيشها الشاعر وتنسحب على غير قصيدة.
الى ذلك، يمارس الشاعر تقنيّة التناصّ، بوجهيها المباشر وغير المباشر، فهو يتناصّ مباشرةً مع الفرزدق، والمتنبّي، وأبي فراس الحمداني، وأحمد شوقي، حين يُضمّن قصائده أبياتًا لهؤلاء في ما يُعرَف بلاغيًّا بالتضمين، ويتناصّ، في الصياغة، مع ايليّا أبي ماضي الذي قال ذات بيت:
اثنان أعيا الدهر أن يبليهما
لبنان والأمل الذي لذويهِ
فيقول شبلي انطلاقًا من تجربته:
شيئان لا يستطيع السجن قتلهما
الحب والحلم مهما حوصرا فيهِ
ويتناصّ، في المعنى، مع أبي فراس الحمداني الذي ناحت بقربه حمامة وهو سجين، فراح يعاتبها على نواحها وهي الطليقة، فيما هو السجين أجدر بالنواح، مع فارق أنّ الذي يخاطبه شبلي هو الذئب الذي يعوي قرب سجن “رينا”، ويتناوب معه العواء، ويساوي نفسه به، فكلاهما غريب، جائع، لا يملك الاّ العواء. ويتناصّ مع محمود درويش في قصيدته الجميلة “أمّي”، غير أنّ شبلي يتخطّاه في الحرص على مشاعر أمّه، فمحمود يعشق عمره لأنه اذا مات يخجل من دمع أمّه الحيّة، بينما يحرص شبلي على مشاعر أمّه بعد رحيلها، فيكلّف الريح أن تخبرها أخبارًا كاذبة عنه كي لا يقلق راحتها في لحدها. ويتناصّ مع كبار المتصوّفة حين ينخرط مع السجّان في حوار يعكس علاقة انسانية راقية تزيل الفوارق بينهما، فيقول له السجّان: “وتدخل قلبي برغم سماكة باب/ الحديد الذي بيننا” (ص242)، ويجيبه هو: “لم يعد بيننا جُدُرٌ وبناء/ أحسّ بجدران زنزانتي تتهدّم” (ص243). عمر شبلي السجين يغفر لسجّانه ويصادقه.
****
(*) جريدة النهار 18-1- 2017