د. نادين طربيه الحشّاش
(أديبة وشاعرة- لبنان)
شغلت مسألة الإنتاج الأدبيّ والشّعريّ عقول النّقاد لعصورٍ فاختلفوا في تعريفها، واتُّفق على أنّ الإنتاج الإبداعيّ يرتبط بالذّات الفرديّة في المرتبة الأولى، وبالبيئة التي ينشأ فيها الفرد والتي تخضع بدورها لمؤثّرات فاعلة بالدّرجة الثانية. ولكن الموضوع الذي لم يفقه له البعض، هو كيف يمكن للذّات المبدعة أن تقدّم ما يتخطّى المألوف انطلاقًا من الموجود المألوف والمشترك؟
لكلّ ذات عقل واعٍ تدرك به الوجود بوساطة ما يُعرف بالإدراك الحسّيّ بالإضافة إلى القدرة على تحليل المعطيات، ولكلّ ذات عقلٌ باطنٌ يتفاعل مع اللّاوعي الجماعيّ للبيئة الحاضنة. وعمليّة الإنتاج تتمّ بالتنسيق بين الوعي واللّاوعي وفق آليّة اعتباطيّة في البداية لا تلبث بأن تخضع لعمليّة تشذيب وتنظيم. ولكن على الرّغم من هذا يبقى على الذّات عبء تقديم المألوف بأسلوبٍ خلّاقٍ.
هذا هو التّحدّي الذي يسقط أمامه الكثيرون في زمنٍ عمّ فيه التأثّر والتّقليد، كيف سيتمكّن الشّاعر مثلًا من إعادة خلق الموجود في حلّة حديثة ومبتَكَرة؟ للذّات تجلّيات مذهلة في هذا الميدان حيث تقدر على اختراق جدار الأبجديّة المحدودة لتوسيع أفق التعبير عن المعاني المطروحة سلفًا أمام الجميع، وهذه الوسيلة ترتبط بمفهوم يجمع بين المعارف المكتسبة وما يُعرف بالحدس. والحدس هو الّذي يميّز الذّات المبدعة عن الآخرين، تحتاج الذّات إلى مهارة استشعارٍ تلتقط بوساطتها ما هو مفعمٌ بالرّوح التي تشكِّل بدورها رادارًا يُحسّ بأصغر التّفاصيل اليوميّة الرّوتينيّة . هذه التّفاصيل التي تبدو للوهلة الأولى في قمّة التفاهة إذا وقعت موقع الحدس تخلق ما يتخطّى الإدراك العاديّ إلى ما يشبه الرّؤيا ويلامس النّبوءة.
عندها فقط تتوالد المعاني في تجلّيات تعبيريّة لا مثيل لها، عندها فقط تتهاوى حواجز النّفاق وينبض النّصّ ويتنفّس…هذا ما اختبره العظماء أمثال نيكوس كزنتزاكي وجبران وخليل حاوي و هوغو وغيرهم.
والسّؤال الذي يُطرح في يومنا هذا على الشّعراء الشّباب المعاصرين، هو هل هم مستعدّون في زمن الزّيف والتّقليد لقبول التّحدّي في إفساح المجال أمام صمت الحدس ليبوح لهم بأسراره؟ هل هم مستعدّون للتخلّي عن وهم معرفتهم في سبيل اكتشاف ما لا يدركونه بعدُ؟
فما علينا أخذه بالاعتبارهو أنّ كلّ عمليّة إنتاج فنّي أو جماليّ تتّصل بمفهوم النّشاط الذّهنيّ الذي لا يكتمل عمله إلّا إذا تفاعل مع الإبداعيّة والحدس، فالأنا المبدعة تتشكّل من تراكم خبراتٍ حياتيّة شعوريّة وثقافيّة واعية ولا واعية في آنٍ واحدٍ. وبالإضافة إلى ذلك هناك عوامل اجتماعيّة بيئيّة تتداخل مع العوامل الذّاتيّة لتنتج الذات الشّاعرة. أمّا الحدس فهو ليس حدثًا مفاجئًا أو مباشِرًا إنّما هو عبارة عن حالة اختمار بين العقل الباطن والعقل الواعي أوّلًا، ينعكس رؤيةً للواقع وهضمًا لمعطياته لا بل وأكثرمن ذلك هو إعادة إنتاجٍ له مرفقة ببصمة الذّات المتمايزة عن كلّ الذّوات الأخريات. من هنا وجب على الأنا المبدعة أن تتعرّف إلى أمرين أساسيّين:
أوّلًا: التعرّف قدر الإمكان على محصول الوعي الإنسانيّ المبدع أي التّراث الإنسانيّ عبر تحصيل الثّقافة العامّة العالميّة و المحليّة الخاصّة من خلال نتاج من سبقها.
ثانيًا: التّعرّف إلى ذاتها وكشف النّقاب عن المؤهّلات الذّاتية الباطنيّة قبل الظّاهريّة من خلال وعي توليفة النّصّ الذّاتي الذي يشمل نظام الجهاز النّفسيّ أي الأنا في صراعها مع الهو والأنا العليا.
عندما يتمكّن المرء من الفهم العميق لذاته التي تتكشّف له باستمرارٍ، وليس عليه في سبيل ذلك سوى تأمّلها وتقصّي خطوها، ويضيفُ إليها ثقافته التي جمعها من التّراث الإنساني ومن البيئة المحيطة به قد يصل إلى حالة اختمار تؤهِّله لاختبار الحدس ضمن أبعاد لم يألفْها من قبل. فالحدس عند برغسون شبيه بالإدراك الغريزيّ ينقل الوعي الخارجيّ إلى باطن الظواهر الفكريّة، ويُطلعنا على ما فيه من طبيعة متمايزة لا يسهل التّعبير عنها بالألفاظ بخلاف المعرفة الاستدلاليّة أو التّحليليّة التي لا تبوح إلّا بظاهر الأمور. فهوإذًا حكمٌ غريزيٌّ يكشف الوقائع والعلاقات المجرّدة، ويكشف الكثير من الصّور الحسّيّة والنّفسيّة بعيدًا عن آليّات الاستنباط أو الاستقراء أو الاستنتاج..
لذا فإنّ العمليّة الإبداعيّة عندما تدخل حيّز الحدس لا تحتاج إلى نظامٍ رياضيٍّ يسيِّرها بل هي مرحلة من النّضج تتلاقح مع الخبرات لتتوالد في عملٍ مميَّز متفرّد، وهذا يحتاج إلى آليّة نفسيّة غالبًا ما يتمتّع بها أصحاب المواهب الفذّة في طبيعة تركيبتهم النّفسيّة ، غيرأنّ قلّة من يدركها. فدخول الحدس إذًا يتمركز حول الذّات ويسبق الشّعور السّطحيّ بدرجات يتداعى فيه اللّاوعي في أفكار متناسقة لا تعترف بالتّدرّج بل تنساب في تلقائيّةٍ وسلاسةٍ ويعتمد في الدّرجة الأولى على عنصر الخيال الذي يُعتبر معينًا يرفد خصوبة الإبداع.
في الختام، نشير إلى أنّ الحدس يحتاج إلى بيئة يتفاعل معها وفيها وهذه البيئة تتضمّن، كما سبق لنا وأشرنا، الوعي الذّاتيّ بكلّ ما فيه بالإضافة إلى العوامل المحيطة بهذا الوعي من عوامل اجتماعيّة، ثقافيّة، نفسيّة وغيرها، حتّى يكتمل عمله بالإضافة إلى الاستعداد النّفسيّ والخيال. وتبقى آليّة التأثّر بنتاج الآخرين من المبدعين جائزة شرط ألّا تدخل نطاق المحاكاة والتقليد.
(*) مجلة شؤون ثقافية (ثقافية فصلية تصدر عن المديرية العامة للشؤون الثقافية – وزارة الثقافة اللبنانية-تشرين الأول- تشرين الثاني – كانون الأول 2016 – العدد الرابع).